حالة الإقليم في ظل التحالف الدولي: ضد تنظيم الدولة الاسلامية وضد الثورات العربية

مقدمة:
لم يكن الخارج حاضرا بصراحة وقوة في خطابات الثورات حين اندلاعها ولكنه كان الحاضر الغائب بالطبع؛ لأن الاستبداد والتبعية وجهان لعملة واحدة. فالثورات لم تقم ضد الظلم في الداخل فقط ولكن أيضا من أجل الاستقلال الوطني. ولم تكن الثورات مؤامرة خارجية، كما ادَّعى الفلول بصوت منخفض ومرتعش في البداية، ثم بصوت عال وساخر حين كشفت الثورات المضادة عن نفسها بقوة. بل كانت الثورات المضادة والانقلابات هم حلفاء الخارج، الذي تربص بالثورات منذ بدايتها، صراحة أو من وراء الكواليس.
إن متابعة ومعايشة السنوات الأربع للثورات العربية تبين أننا نعيش مرحلة خامسة من مراحل مواجهة الغرب مع الشعوب والنظم العربية منذ اندلاع الثورات.
المرحلة الأولى: المفاجأة بثورتي تونس ومصر والارتباك حتى تم الإعلان عن التخلي عن الحليفين المستبدين؛ زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، (ولا أقول الإعلان عن مساندة الثورات) مع الاستعداد لاحتواء هاتين الثورتين.
المرحلة الثانية: المراقبة عن بُعد والتدخلات غير المباشرة في مسار هاتين الثورتين في مقابل التدخل المباشر في الثورات التالية في اليمن وليبيا وسوريا واليمن، من خلال الشريك الإقليمي الخليجي، وفي سوريا من خلال الحليف الإسرائيلي، وفي ليبيا بالتدخل المباشر للناتو بعد تدخل فرنسا وبريطانيا ابتداء لإسقاط القذافي.
المرحلة الثالثة: المراقبة لقمع الثورة السورية والتدخلات المحدودة والمحسوبة لمساندة المعارضة وبالتنسيق مع الشريك الإقليمي التركي والخليجي، والمراقبة لتعثر وصعوبات المراحل الانتقالية في تونس ومصر وليبيا واليمن، مع إرسال الإشارات الغامضة على نحو يبين أن الغرب يقف بين طرفي الاستقطاب في كل دولة، يراقب ويساند الحلفاء من وراء الكواليس وينتظر لمن ستكون الغلبة.
المرحلة الرابعة: استمرار المناورة لعدم التدخل ضد قمع الثورة المتزايدة في سوريا، والفشل في فرض حل سياسي ومراقبة نمو تنظيم الدولة الإسلامية وصعودها وآثاره على صفوف المعارضة، وتأييد الانقلاب في مصر مع التحفظ على أدائه ضد الحريات، وتأييد تحرك الثورة المضادة عسكريا في ليبيا بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر وبمساندة قائد انقلاب مصر.
المرحلة الخامسة: منذ 8 يونيو 2014، بهجوم تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل وتولي السيسي الرئاسة في مصر، وانقلاب مسار الحوار الوطني في اليمن تحت وطأة المواجهة العسكرية مع الحوثيين والاستنفار الحوثي نحو العاصمة صنعاء، وسيطرة ثوار ليبيا على طرابلس والتحرك لحسم المواجهة مع قوات حفتر في بنغازي وطبرق، والمقاومة الفلسطينية الباسلة للعدوان الإسرائيلي على غزة (بين 8 يوليو و26 أغسطس 2014) وانتصارها، وتجدد العمليات العسكرية ضد الجيش والشرطة في سيناء.
إن جميع هذه المراحل شهدت درجة أو أخرى من التدخل المباشر وخاصة العسكري. ومن ثم فإن الاستنفار الخارجي للتدخل ضد تنظيم الدولة الإسلامية الآن تحت راية الحرب على الإرهاب وإن كان يقدم جديدا إلا أنه لا يعني أنه لم يكن هناك من قبل تدخل خارجي مباشر بكافة الأشكال العسكرية وغير العسكرية، وهو تدخل لم يصب بالطبع في صالح الثورات، وإن ذرف الغرب دموع التماسيح على ضحايا الثورات المضادة باسم حماية حقوق الإنسان، فذلك ليس بالطبع حماية للديمقراطية، وكأن حقوق الإنسان والحريات الآن لم تعد من صميم الديمقراطية.
أولاً: التحالف ضد تنظيم الدولة: سمات المرحلة:
تتسم المرحلة الخامسة (يونيو ـ ديسمبر 2014)، من حيث درجة وشكل التدخل العسكري الخارجي، بالسمات الأربع التالية:
من ناحية: إعطاء الأولوية للتدخل المباشر ضد تنظيم الدولة الإسلامية مقارنة بغيرها من أشكال استخدامات القوة العسكرية من قوى ثورية، كما في ليبيا بصفة خاصة، حيث نلمس حرصا أمريكيا على التهدئة مع ثوار طرابلس والمؤتمر الوطني الليبي العام وحكومة الإنقاذ، رغم أن دولا غربية والولايات المتحدة نفسها لم يخفيا من قبل مساندتهم لقوات حفتر وذراعها السياسي، البرلمان الليبي المنعقد في طبرق والذي اتهم الثوار المسلحين بالإرهاب. ولذا فإن المسلك تجاه حالة ليبيا، عسكريا أو سياسيا، مختلف عليه بين مصر والإمارات وبين الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى: ظلت المراوحة الأمريكية والأوروبية بين التدخل العسكري ولو المحدود أو عدم التدخل ضد دولة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق. ولم تبدأ ضربات أمريكية إلا حين بدأ تحرك تنظيم الدولة الإسلامية نحو أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق. ثم توالي مسلسل الاستنفار بقوة بعد شهرين من احتلال الموصل.
وفي المقابل لم يحظ خيار توجيه ضربة لنظام الأسد –أصل الداء- بأي نصيب من الاهتمام، في حين تجري حسابات توجيه ضربة لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا. ولم يتخذ القرار بعد. فمازال لتنظيم الدولة الإسلامية دور في سوريا يريد الغرب لها استكماله قبل ضربها كما كان لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق، منذ الاستيلاء على الموصل، دوراً أرادوا لها أن تقوم به قبل البدء في الهجوم عليها (مثلا إسقاط نوري المالكي، والمناورة مع إيران والسعودية، واستنزاف كل من نظام الأسد والمعارضة المسلحة). فإن الإرهاب المسلح يتم اختراقه وتوظيفه خدمة لمصالح إقليمية وخارجية.
من ناحية ثالثة: مازالت القوى الغربية ورغم الضغط الخليجي والانقلابي في مصر، تميز بين الإخوان في مصر وخارجها وغيرهم من الحركات والأحزاب الإسلامية السياسية السلمية من جهة، وبين الحركات الراديكالية من جهة أخرى، حيث تدخل الأخيرة فقط في نطاق الدعوة لمحاربة الإرهاب.
وفي المقابل، وفي حين تستمر الولايات المتحدة وأوربا في انتقاد النظام الانقلابي في مصر بسبب انتهاكات حقوق الإنسان والحريات متعددة الأشكال التي يمارسها ضد المعارضة دون أن تمارس عليه ضغوطا أخرى للعودة للمسار الديمقراطي، إلا أن الولايات المتحدة وأوربا في المقابل يعلنون تأييد مصر ومساندتها في الحرب على الإرهاب في سيناء وحفظ أمن الحدود مع إسرائيل. ومن هنا كان التنسيق الواضح خلال العدوان الإسرائيلي على غزة مع ما سمي المبادرة المصرية، وإعلان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عقب وقف النار في غزة عن تسليم طائرات الأباتشي لمصر، والتي سبق أن أعلن هو نفسه قرار الإفراج عنها في مايو 2014، دون تسليمها حتى منتصف ديسمبر 2014.
من ناحية رابعة: اتسع نطاق التدخلات العسكرية المحدودة السريعة أو الممتدة عبر أرجاء المنطقة العربية ومن حولها، مثلاً: جاءت الضربة الأمريكية العسكرية في أوائل سبتمبر 2014، في الصومال مستهدفة قيادات حركة شباب المجاهدين ذات الصلة بالقاعدة، وجاء التنسيق الأمني مع الجزائر وتونس والمغرب حول الإرهاب في شمال أفريقيا وحول ليبيا بصفة خاصة، ومراقبة ما يجري في نيجيريا من تدعيم بوكو حرام لسيطرتها الإقليمية في شمال شرق نيجيريا، ومساندة حكومة اليمن بطيارات بدون طيار خلال المواجهات العسكرية مع القاعدة والحوثيين، بجانب القواعد الأمريكية في الخليج والمساعدة المتقطعة والمقيدة للمعارضة العسكرية السورية والتهديد المتكرر، دون تنفيذ، بتوجيه ضربة لنظام الأسد (عقب مجزرة الغوطة في أغسطس 2013) والتي انتهت إلى اتفاق تفكيك الأسلحة الكيمائية السورية وتسليمها للأمم المتحدة…
ومن ثم فإن الاستنفار الغربي – وبدرجة واضحة منذ أغسطس 2014 – وإن بدا أنه يستهدف بالأساس ضرب تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، إلا أن التدخل الخارجي العسكري بدرجات أخرى أكثر محدودية (وتحت راية مكافحة الإرهاب) لم يتوقف عبر أرجاء المنطقة العربية بصورة مباشرة أو غير مباشرة منذ اندلاع الثورات.
فلقد كان هذا التدخل، بأشكاله المتعددة، أحد أهم أدوات التعامل مع الثورات العربية وخاصة من خلال مساندة الثورات المضادة والانقلابات على هذه الثورات. فلم يكن نجاح الثورات مقبولا إلا بشروط، اتضح من جميع المراحل الانتقالية عدم توافرها وخاصة قيادة القوى العلمانية للتجارب الديمقراطية الوليدة.
ورغم ادعاء النموذج الديمقراطي الغربي “المدنية”؛ أي لا للدين في السياسة ولا للعسكر في السياسة، فيبدو أن القوى الغربية – مثلها في ذلك مثل حلفائها في المنطقة – كانوا مستعدين للتضحية بأحد رافدي المدنية “لا للعسكر” للوصول إلى الرافد الثاني “لا للدين في السياسة”؛ ولهذا فإن القوى الغربية -وإن أدعت في البداية انبهارها بسلمية الثورات في مصر وتونس- ولكنها سرعان ما شاركت في “عسكرة” باقي الثورات: البحرين، اليمن، ليبيا، سوريا، بدرجة أو بأخرى، على نحو أثر على مسارها حتى الآن.
ومن ثم فإن “الاستنفار الغربي للتدخل العسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية” هو وجه العملة الثاني، والوجه الأول هو الثورات المضادة والانقلابات لإجهاض الثورات بكافة الأشكال. وذلك في المرحلة الحالية من تطور منظومة الثورات الإقليمية (أي انتشار التوجه للقوة العسكرية بعد أن انقضّت الثورات المضادة على الانتقالية السلمية أو الحلول السياسية السلمية).
إنها إذن “الحرب على الثورات العربية من الداخل والخارج” وليست “الحرب على الإرهاب” كما يروج أعداء الثورات… أيهما السبب وأيهما النتيجة؟ ليس هذا هو السؤال الصحيح، ولكن السؤال الأصح هو: أليس صعود الاتجاه للقوة المسلحة من جانب الحركات الراديكالية المسلحة – أمثال تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها – هو نتاج وأد المسار الديمقراطي السلمي الذي استهدفته الثورات والذي شهد صعود القوى الإسلامية السلمية؟ ألم يؤدِّ رفض ديمقراطية بإسلاميين إلى فتح الباب على مصراعيه للإسلامية الراديكالية المسلحة؟ ألم يؤدِّ السكوت على القمع الوحشي لنظام بشار الأسد والفشل في الحلول السياسية إلى فتح الباب أمام تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها؟ ألم يؤد الرضاء عن الانقلاب في مصر وعدم معاقبته على مجازره ضد معارضيه إلى انفجار الوضع الأمني في سيناء؟ ألم يؤد السكوت على نظام نوري المالكي وسياساته القمعية ضد السنة مستعينا بالمليشيات الشيعية المسلحة إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية من جديد بعد أن تم احتوائها في العراق 2008؟
إن صعود تنظيم الدولة الإسلامية لم يكن مفاجأة؛ وهو نتاج سياقات وطنية وإقليمية وحسابات خارجية وليس نتاج إطار فكري أو فقهي إسلامي فقط. إذن من هو أصل الإرهاب ومن هو فرعه؟
إذن ما الجديد في حملة الاستنفار الخارجي للتدخل عسكريا ضد “الإرهاب: تنظيم الدولة الإسلامية؟” وكيف تعكس نمطا متجددا من التحالف بين القوى الاستعمارية السابقة وبين بقايا النظم المستبدة والفاسدة البوليسية وبين نخب انتقلت من صفوف المعارضة لهذه النظم إلى صفوف التحالف معها في مواجهة “العدو” المشترك، ألا وهو القوى الإسلامية في سلة واحدة، وباستخدام الأداة العسكرية بدرجة أساسية، وبقبول فاشية عسكرية ملتحفة بالدين والمذهبية والطائفية، والأهم بالتضحية بالديمقراطية التمثيلية السلمية طالما أتت بالإسلاميين؟
ثانياً: المواجهة تنظيم الدولة: الفواعل الإقليمية:
إن المتابع لردود الفعل الخارجية منذ 8 يونيو 2014، تاريخ استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل، يتبين أن الاستنفار قد بدأ مع تواتر وتزامن مجموعة من الأحداث والبيانات بين شهرى أغسطس وديسمبر 2014، وحتى الآن، حيث كانت البداية مع الدعوات المتكررة للمسئولين الأمريكيين (باراك أوباما وجون كيري وتشاك هيجل) والأوروبيين بتكوين تحالف دولي إقليمي ضد تنظيم الدولة الإسلامية. فالعمل الأمريكي المنفرد، كما حدث من قبل في أفغانستان والعراق ثم في ليبيا، ظل مستبعدا، ولكن هذا لم يمنع الطائرات الأمريكية من توجيه ضربات متلاحقة ضد تنظيم الدولة الإسلامية وبالتنسيق مع الحكومة العراقية (كما يعلن عنه) بعد خروج نوري المالكي، كما لم يمنع بريطانيا وألمانيا وفرنسا من الإعلان عن إرسال الأسلحة للبشمركة للتصدي لتقدم تنظيم الدولة الإسلامية نحو إقليم كردستان.
ثم لحقت الأمم المتحدة بهذه الدعوات، حيث صرح الأمين العام أن تنظيم الدولة الإسلامية تمثل تهديدًا للسلم العالمي، وعلى المجتمع الدولي أن يتضامن في مواجهتها. ولقد نشط مجلس الأمن –وعلى نحو واضح وعلى عكس ما فعل ضد العدوان الإسرائيلي على غزة- لاستصدار عدة قرارات: احدها خاص بمطالبة دول الجوار بعدم إمداد تنظيم الدولة الإسلامية أو دعمها بالأسلحة أو المال أو الخدمات اللوجيستية، والثاني يدعو لاحتواء الأزمة في ليبيا، وآخر يدين التحرك الحوثي لتهديد استقرار اليمن، وآخر بشأن الصومال… وكانت هذه القرارات المتواترة مرآة لاتساع نطاق استخدام القوة العسكرية في المنطقة ضد الثورات المضادة والنظم المتهاوية حلفاء القوى الغربية.
بعبارة أخرى ظلت القوى الغربية تبحث عن نمط واستراتيجية التدخل بمشاركة إقليمية ودولية وكسبيل لإعادة تشكيل نظام أمن إقليمي تابع وهو الأمر الذي سيبين (كما سنرى) مدى السيولة التي عليها عملية التحالفات والتحالفات الإقليمية المضادة في إطار مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.
وقد شاركت القوى الإقليمية في هذا المشهد، بعضها (الخليج) لحث القوى الخارجية على مزيد من التدخل العسكري المباشر وبسرعة، وبعضها (إيران ومصر) للمناورة مع القوى الغربية حول قضايا أخرى، وبعضها (تركيا) لحماية مصالح وطنية مباشرة تهددت من جراء الثورات المضادة والانقلابات التي أفرزت “تنظيم الدولة الإسلامية”، وبعضها الآخر (إسرائيل) ترنو إلى ما هو أبعد من تنظيم الدولة الإسلامية أي ترنو “لنزع سلاح المقاومة بتدخل خارجي بذريعة الإرهاب”.
1ـ دول الخليج:
نشط مجلس التعاون الخليجي في اجتماعات من أجل “التضامن الخليجي” ومن أجل التحذير من مخاطر الإرهاب على المنطقة وعلى الغرب ذاته. وحذر الملك عبد الله عاهل السعودية في 1/8/2014 في بيان مباشر الغرب من أن خطر تنظيم الدولة الإسلامية والإرهاب في المنطقة سينتقل إلى عقر دارهم وأنه لابد من تحالف دولي ضده [1]، كذلك أعلنت صحف لبنان 2/9 عن هبة سعودية لتسليح الجيش اللبناني من خلال فرنسا، بعد أن امتدت عمليات تنظيم الدولة الإسلامية إلى داخل لبنان (عرسال).
ورغم أن الخليج –بقيادة سعودية- وبقنوات رسمية وغير رسمية قد ساند ودعم فصائل معارضة عسكرية في سوريا، إلا أن صعود تنظيم الدولة الإسلامية قد نال من قوة هذه الفصائل وكان على حساب مواقفها على الأرض الأمر الذي نال من قدرات المعارضة المسلحة في مجموعها في مواجهة نظام الأسد.أي نال من إمكانية تحقيق هدف السياسة السعودية تجاه الثورة في سوريا، إلا وهو إسقاط بشار وليس نجاح هذه الثورة (بقيادة من؟).
ومن ناحية أخرى فإن السعودية كانت المساند والداعم لمطالب السنة في مواجهة نظام المالكي في العراق، ولذا اتهمها المالكي بمساندة الإرهاب في العراق، أشارة إلى مساندتها للحاضنة الشعبية لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق. فبعد تحالف الصحوات مع نظام المالكي لطرد القاعدة من الانبار وغيرها من المحافظات، وبعد حصار الدولة الإسلامية في العراق منذ 2008، فإن إرهاب نظام المالكي وميليشيات الشيعة المسلحة ضد سنة العراق وضد ثورتهم السلمية (عقب اندلاع الثورات العربية) قد استعاد لتنظيم الدولة الإسلامية حاضنتها الشعبية من سنة العراق المدعومين خليجيا وغيرهم مثل (البعث). وهو الأمر الذي أوقع السياسة السعودية والسياسية الخليجية تجاه سوريا والعراق في تناقض ناهيك عن العلاقة الخليجية مع إيران.
فبعد هجوم الدبلوماسية الخليجية على الدور الإيراني في مساندة نظام بشار الأسد، وبعد موجة التوتر في العلاقات الأمريكية – السعودية بسبب “التقارب الأمريكي الإيراني” منذ صيف 2013 [2]، وبعد مؤشرات رسمية على التهدئة في التوتر الخليجي – الإيراني (زيارة أمير الكويت لإيران، وتصريحات إماراتية وقطرية، وأخيرا سعودية) [3]، فلقد واجه صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق هذه الشبكة من العلاقات باختبار جديد على ساحة الشام وساحة شبه الجزيرة العربية وخاصة في اليمن، وفي قلب هذه الشبكة علاقة الطرفين الخليجي والإيراني مع الولايات المتحدة الأمريكية.
2ـ إيران:
في مواجهة صعود تنظيم الدولة الإسلامية، وكما يتضح من تصريحات حسن روحاني، وعلي خامنئي، والدبلوماسية الإيرانية (وزير الخارجية جواد ظريف ونوابه) قد تطورت مواقفها كالآتي: إعلان الاستعداد للتنسيق مع أمريكا والخليج ضد تنظيم الدولة الإسلامية وضد الإرهاب، شأنها في ذلك شأن حليفها نظام الأسد الذي أعلن بدوره عن استعدادة للمشاركة في الحرب الدولية على الإرهاب طالما لا يحدث تدخل في الشأن السوري.
وتكرر هذا الإعلان، قبل الضربات الأمريكية لتنظيم الدولة الإسلامية وقبل خروج نوري المالكي، مقترنا بالإعلان عن حيوية العلاقة مع السعودية. ولكن وبعد إخراج المالكي حليف إيران، وانكشاف أمر المساعدة الإيرانية العسكرية لمقاومة المالكي لتنظيم تنظيم الدولة الإسلامية، وبعد بداية الضربات الأمريكية وتصاعد الاستنفار الغربي من أجل تحالف دولي، تكررت الإعلانات الإيرانية عن عدم وجود تنسيق إيراني- أمريكي للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية بل وبدأ التلويح إلى أعداء الإسلام الذين يستخدمون الفتنة الطائفية للوقيعة بين الشيعة والسنة (خامنئي 7/9/2014).
والتطور الأهم في الموقف الإيراني، وخاصة بعد انعقاد قمة الأطلنطي والإعلان عن التحالف الدولي الإقليمي، تجسد في أمرين متلازمين بدرجة واضحة جدا؛ أحدهما: اتهام وزير الخارجية الإيراني (7/9) الولايات المتحدة بدعم تنظيم الدولة الإسلامية وأنها ليست جادة في محاربتها. والأمر الآخر توالي التصريحات الإيرانية عن أهمية العلاقة مع مصر واهتمام إيران بأمن مصر ومساندتها في حربها ضد الإرهاب وأخيرا أن التحالف بين إيران ومصر ضروري لمواجهة الإرهاب وخطر تنظيم الدولة الإسلامية.
فمن الواضح أن إيران مع اتضاح صعوبة دخولها على خط مواجهة الإرهاب (تنظيم الدولة الإسلامية) سواء من مدخل الغرب أو مدخل الخليج، أرادت أن توظف حالة الفتور في العلاقات المصرية – الأمريكية بعد انعقاد الجولة الرابعة من ملتقى دول الجوار الليبي – وخاصة بعد الموقف الأمريكي من التدخل المصري الإماراتي بضربات جوية لمساندة قوات حفتر – كما أرادت أن توظف حالة اللاوضوح في الموقف الخليجي والأمريكي بشأن شكل ودرجة مشاركة مصر في “محاربة تنظيم الدولة الإسلامية”.
3ـ مصر:
في مصر فإن قيادة الانقلاب قد بح صوتها من التحذير من خطر الإرهاب (كجزء من صراعها الداخلي) وفي عرض دورها وتسويقه في محاربة هذا الإرهاب تحت ذريعة حماية الأمن القومي للدول العربية.
إلا أن الخليج كان يتجه علنا وبقوة نحو الغرب لدعوته للتدخل. ورغم كل ما يتم تسريبه في بعض التحليلات عن وجود قوات خاصة مصرية في الحدود الشمالية السعودية مع العراق، وفي الإمارات فإنه لا يوجد إعلان رسمي مصري أو خليجي بهذا الشأن، فهل ستلعب مصر دور المقاول من الباطن على عكس ما كان يتصور قائد الانقلاب لنفسه من دور باعتباره منقذ المنطقة من خطر الإرهاب على مصر وعلى المنطقة كلها؟ ومن جانب آخر فإن الحماسة الخليجية لمساندة الانقلاب ماليا ودبلوماسيا قد تجمدت، ولا أقول انتهت؛ فلم ينعقد مؤتمر المانحين لمصر بدعوة سعودية، وظهرت تحفظات سعودية على التصور المصري عن ضرورة التدخل في ليبيا (لماذا). كما تقتصر الولايات المتحدة في تحالفها الواضح مع مصر على دور الأخيرة في حماية أمن حدود إسرائيل مع سيناء، ومن ثم محاصرة حماس والإعداد لتصفية سلاح المقاومة.
ولذا فإن “جون كيري”، وزير الخارجية الأمريكي، في لقائه مع سامح شكري وزير الخارجية (13/9/2014) أكد على التعاون مع مصر بشأن أمن سيناء والحرب ضد التطرف والإرهاب.
ولذا لا عجب أن نجد السيسي يلحق بركب الاستنفار الجماعي ويدعو إلى تكوين تحالف إقليمي ضد الإرهاب آملا أن يحقق فيه من النجاح ما لم يحققه من قبل، حين قدم مبادرة مصر لمحاربة الإرهاب إلى الجامعة العربية استعدادا لتبني القمة العربية التي انعقدت في الكويت مارس 2014 لها، ولتعلن الحرب “ضد الإخوان” بالأساس في المنطقة والعالم وكجزء من صراع السيسي مع الإخوان في مصر ومع الإسلام السياسي برمته في المنطقة. وهو التوجه الذي حظي بمساندة الخليج له وللانقلاب حتى انقلبت الأولويات مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية.
ففي حين لم يندفع الغرب (حتى الآن) وراء “حرب السيسي على الإرهاب” التي وضعت في سلة واحدة الإخوان (الحركة السلمية الأم) مع الحركات الراديكالية. إلا أنه اندفع في الاستنفار للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، بعد أن راقبها ولنقل وظفها لفترة حتى يحسم اختياراته حول استراتيجية المواجهة: غربية بالأساس أم أكثر اتساعا؟ وكيف؟ عسكريا بالأساس أم بتحالفات سياسية وأدوات ثقافية أيضا؟ وفي كل الحالات كان الانتظار والمراقبة يصب في صالح تنظيم الدولة الإسلامية وتوظيف الغرب لها.
وفي ظل إعداد السيناريوهات الغربية ضد تنظيم الدولة الإسلامية كان يتضح تدريجيا أن على مصر وإسرائيل أن ينتظرا قليلا ليستنفرا الخارج من جديد مع حربهما المشتركة على الإرهاب المزعوم من جانبهما: الإخوان في مصر، وحماس في غزة… ومع ذلك ظل لكل من إسرائيل ومصر مصلحة في الاستنفار الخارجي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، حيث إن كل منهما يوظف هذا الاستنفار لإلصاق الإرهاب بالإخوان في مصر وغزة باعتبارهما وتنظيم الدولة الإسلامية في سلة واحدة، ناهيك عن استعداد كل من مصر وإسرائيل للقيام بدور عسى أن يقود كل منهما إلى مراميه ولو بعد حين؟؟؟
4ـ تركيا:
تظل لتركيا حساباتها، التي تبين المعضلات أمام سياستها تجاه “تنظيم الدولة الإسلامية”، فتركيا – رغم انشغالاتها الداخلية بالانتخابات البلدية ثم الرئاسية ثمن البرلمانية المرتقبة في بداية 2015، ورغم التحديات التي واجهها نظام حزب العدالة والتنمية – فلقد ظلت أنقرة تتصدى لعقبات الثورات المضادة في سوريا ومصر وليبيا وللعدوان الإسرائيلي على غزة، والأهم بالطبع لتداعيات صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق على أمن تركيا. وخاصة ما يتصل بإقليم كردستان العراق وتداعيات عدم استقراره. ولقد ناور أكراد العراق ابتداء بين تنظيم الدولة الإسلامية” والحكومة العراقية ثم جرت المناورة بإعلان الإعداد لاستفتاء عن حق تقرير المصير والاستقلال.
ثم تعرض الإقليم للهجوم المباشر من تنظيم الدولة الإسلامية والتدخل الغربي لجانبه سواء بتسليحه أو بتوجيه الضربات الجوية. ولا شك أن هذه الحالة ستنعكس على جنوب شرق الأناضول وعلى علاقات أكراد تركيا بحكومتها. وخاصة بعد أن تحرك حزب العمال الكردستاني لمساندة البشمركة (تصالح الإعداء الألداء) وتصاعد الحديث – في ظل مساعدات أكراد سوريا أيضا – عن وحدة الأمة الكردية.
إلا أن أوردغان كان شديد الوضوح، قبل وبعد انتخابه رئيسا، بشأن تنظيم الدولة الإسلامية. فهي ليست إلا نتاج النظم المستبدة في سوريا والعراق، وأن التصدي لها ضرورة لابد أن يتوافق حولها المجتمع الدولي ليس بالحل العسكري فقط ولكن بالحل السياسي للأزمتين في سوريا والعراق. بعبارة أخرى “الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية” اختبرت من جديد توجه تركيا –أردوغان ضد الثورات المضادة والانقلابات وآثارها السلبية على استقرار المنطقة ومستقبلها.
ثالثاً: الاستنفار: نحو تحالف دولي ـ إقليمي متعدد النطاقات والأدوات:
في الوقت الذي أخذت تتعرض فيه تنظيم الدولة الإسلامية لهجوم مضاد؛ فعلى على الأرض اجتمعت عليه –بعد تنازع- قوات حكومية عراقية مدعومة بميلشيات شيعية وقوات البشمركة (التي انضمت إليها قوات حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا وغير المرحب به من قبل على أراضي كردستان العراق)، كما انضمت إليه –وفق تصريح رسمي عراقي 7/9، قوات من عشائر السنة إلى القوات الحكومية في الهجوم على تنظيم الدولة الإسلامية في الأنبار، وفي نفس الوقت الذي توالت فيه الضربات الجوية الأمريكية ضد مواقع تنظيم الدولة الإسلامية وتدفقت الأسلحة الغربية على الجميع بذريعة إعداد “جيوش” المنطقة لتبذل جهدها في مقاومة تنظيم الدولة الإسلامية، في نفس الوقت الذي كان يقع التدخل العسكري الخارجي على هذا النحو، كان الرئيس أوباما مازال حتى ما قبل انعقاد قمة الاطنلطي يقول بأنه ليس لديه استراتيجية واضحة لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وأنه ما زال التفكير جاريا بشأن التدخل ضدها في سوريا أو بشأن توجيه ضربة لنظام الأسد لدفعه لقبول حل سياسي.
بعبارة أخرى كان يجري التهويل إعلاميا من بطش وقسوة ووحشية تنظيم الدولة الإسلامية ضد الجميع في العراق وسوريا، وكان الجميع يحذرون من مخاطرها على العالم برمته حتى هؤلاء الذين حاولوا تفسيرها كظاهرة ناجمة عن رد فعل لسياسات غربية فاشلة تجاه المنطقة منذ الثورات، وحتى هؤلاء الذين اقترب تفسيرهم من التبرير ساهموا في خلق حالة فزاعة تنظيم الدولة الإسلامية “العالمية التي لا تقتصر على العراق والشام فقط ولكن ستمتد آثارها إلى الخليج وبقية الشام وشمال أفريقيا ومصر بل وإلى قلب المجتمعات الغربية التي انضم أبناؤها إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية.
وبالفعل كان الإعلام يركز على مؤشرات هذا الامتداد، وعلى نحو قدم تنظيم الدولة الإسلامية “كوحش عالمي” كما قدم الإعلام القاعدة – من قبل- على هذا النحو. إنها سياسات الفزاعات مرة أخرى، التي اقترضها عبد الفتاح السيسي واستنسخها ليضخم من وجود عدو خطير ومن وجود حالة حرب كبرى تتطلب تكاتف الجميع في حين أن الواقع يشير، على ضوء تاريخ تنظيم الدولة الإسلامية منذ 2003 في العراق وما تلاه من تطورات، أنها ظاهرة يمكن إدارتها إلا أن الأصابع حولها ومن داخلها عديدة ومتشابكة، مما تزيدها تعقيدا، لأنها في الواقع تخدم مصالح أطراف عدة، كل منها يريد توظيفها على نحو ما يعلى من هذه المصالح، مهما أريق في سبيل ذلك من دماء.
إن تنظيم الدولة الإسلامية هي نقطة الارتكاز الجديدة للثورات المضادة الداخلية وحلفائها على الصعيد الخارجي لاستكمال إعادة المنطقة إلى حظيرة الاستبداد الداخلي والخارجي من جديد. ومن ثم فإن استراتيجية مواجهتها ليست إلا استراتيجية إعادة تشكيل المنطقة وإعادة بناء تحالفاتها بعد ما يبدو لأعداء الثورات أنه قد تم إجهاضها بالقوة العسكرية.
بعبارة أخرى لم يكن أوباما يكذب أو يقلل من شأنه أو شأن دور الولايات المتحدة حين أعلن أنه لا استراتيجية، فهو لا يخطط لدور أمريكي منفرد وسريع، مثل الذي يضغط الجمهوريون من أجله تصعيدا للحملة العسكرية الأمريكية في العراق لاجتثات تنظيم الدولة الإسلامية قبل أن تتمكن.
ولم يكن أوباما يخطط لعمل عسكري مباشر فقط، فهو يبحث عن إطار أوسع يستوعب الضربات العسكرية وغيرها من الأدوات الخادمة: إعداد جيوش الدول السنية لتبذل جهدا أكبر (هكذا صرح في 7/9/2011)، أو إعادة دور عشائر السنة المضاد لتنظيم الدولة الإسلامية وليس الحاضن لها (هكذا أعلنت حكومة العراق)، أو اعداد تحالف إقليمي يكون شريكا في التحالف الدولي الأوسع، ومن خلال استدعاء دور المؤسسات الدولية الإقليمية وعبر الإقليمية، مثل الجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي، ومنظمة التعاون الإسلامي، والأهم بالطبع من خلال حف شمال الأطلسي (الناتو).
ومن هنا أهمية تحرك وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للاتصال بالأمين العام للجامعة العربية حين اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة 6- 7/9/2014 للنظر في شأن المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية. ولقد أصدر الوزراء بيانا يؤكد اتخاذ كافة الإجراءات والجهود اللازمة للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية مشاركة في الحرب على الإرهاب (وهو ما لم يفعلوه بشأن الإخوان كما أراد السيسي في حينها في نهاية 2013).
ويظل الأهم هو ناتج قمة الأطلنطي (ويلز سبتمبر 2014)، التي تكشف القراءة فيها اللمسات الأخيرة في استراتيجية الغرب الجماعية تجاه المنطقة كلها وليس ضد تنظيم الدولة الإسلامية فقط، وذلك في ظل الثورات المضادة، وما أفرزته من حركات راديكالية، وما تسببه من معاناة مستمرة للشعوب.
رابعاً: وضع “تنظيم الدولة الإسلامية” في منظومة التهديدات والدفاع الغربية:
إن ذاكرة القراءة في وثائق قمم الأطلنطي منذ نهاية الحرب الباردة تبين التطور في الرؤية الغربية عن مصادر التهديد للأمن الأوروأطلنطي من ناحية، وعن التطور من ناحية أخرى في أدوار ووظائف الناتو وآلياته خارج نطاق أعضائه وذلك خلال إدارة الأزمات عبر أرجاء العالم. فقد أصبح الحلف ذراع الغرب العسكرية في العالم، وليس حلف الدفاع عن أراضي أعضائه فقط، ذلك لأن مفهوم “الأمن الأطلنطي الاستراتيجي” تعدى مصادر التهديد للأراضي فقط، كما أضحت حمايته استباقية أيضا وليست دفاعية بالمعنى التقليدي.
وبقدر ما اختبرت الأزمات والصراعات في عالمنا الإسلامي والعربي هذه التطورات عبر ما يقرب من الربع قرن، فها هي قمة ويلز تقدم نموذجا آخر على ذلك، سواء من حيث مصادر التهديد، الأهداف، الآليات الجديد في استراتيجية الدفاع، أجندة قضايا العلاقات مع العالم:
فالبند الأول من بيان القمة يحدد مصدران أساسيان للتهديد[4]. الأول هو “الأعمال العدائية الروسية ضد أوكرانيا التي تتحدى رؤيتنا عن أوروبا كلها الحرة وفي سلام، والثاني: عدم الاستقرار المتزايد في جوارنا الجنوبي، من الشرق الأوسط شمال أفريقيا، وكذلك التهديدات العابرة القومية والمتعددة الأبعاد، والتي تتحدى أمننا”.
ويؤكد البيان على أن الحلف (أي الناتو) هو المصدر الأساسي للاستقرار في العالم كله. وبقدر توحد والتزام ديموقراطيات أعضائه القوية بالتضامن وتجانس الحلف ووحدة أمن أعضائه، فإن التحالف بقدر مسئوليته عن حماية أراضي أعضائه والدفاع عن شعوبها، فهي تقف أيضا مستعدة للعمل معا وبحسم للدفاع عن الحرية والقيم المشتركة: الحرية الفردية، حقوق الإنسان الديموقراطية، حكم القانون. والوسيلة لتحقيق هذه الأهداف هي المهام التي يحددها المفهوم الاستراتيجي للحلف وهي: الدفاع المشترك وإدارة الأزمات والأمن الجماعي.
تم الإعلان في البند 5 عن موافقه القمة على “خطة الاستعداد للحركة” Naro Readiness Action plan، لمواجهة التهديدات المترتبة على سلوك روسيا والتهديدات من الجوار الجنوبي.
وتستغرق البنود (5-15) من البيان شرح الجديد في استراتيجية الدفاع والأمن الاطلسية ووسائلها ومواردها المالية.
والملاحظ أن الحديث عن التهديد الروسي لأوكرانيا ودلالاته وسبل التعامل معه قد استغرق جانبا كبيرا من البيان (م16- م31) مما يدل على الأولوية التي يحوزها هذا التهديد مقارنة بغيره مثل “الحرب على الإرهاب”. والجدير بالذكر أن كلمة “الإرهاب” واستراتيجية مواجهته لم ترد بصورة مباشرة إلا بعد استعراض دوائر الحركة الاطلسية في العالم (م32- م47) وبعد التفصيل في خطط الدفاع والأمن وبرامجها الجديد (م48 – م 78). وجاء ذلك في البند “79”: الإرهاب يمثل تهديدا مباشرا لأمن مواطني دول الحلف وللاستقرار والرخاء العالميين وسيظل خطرا قائما في المستقبل القديم وهو خطر عالمي على المجتمع الدولي أن يحاربه بصورة جماعية. ودور الناتو متعدد الأبعاد سواء من خلال التعاون العسكري مع الشركاء وبناء قدراتهم العسكرية لمواجهة هذه التهديدات.. وغيرها.
والجدير بالذكر، أن تهديدات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العابرة الحدود، وخاصة ما يتصل بتنظيم الدولة الإسلامية وسوريا والعراق، لم تحظ الا باهتمام ضئيل مقارنة بروسيا وأوكرنيا. ولعل الاهتمام بتحالف إقليمي مساند لدور الناتو خير دليل على ذلك حيث ينصرف الجهد الأساسي للناتو، من خلال أعضائه وشركائه إلى مواجهة التهديد الروسي لأوكرانيا ولنظام الأمن الأوروبي كله.
بل إن البيان في البند “32” يشير إلى أن التهديدات عبر القومية ومتعددة الأبعاد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إنما تؤثر مباشرة في أمن شعوب المنطقة وكذلك أمن الأطلسي، ومن ثم فإن السلام والاستقرار في هذه المنطقة ضروري للتحالف. ولم يدعُ البيان لتدخل مباشر أو سريع ولكنه أشار إلى الاستمرار في المراقبة الدقيقة للوضع واستكشاف الخيارات أمام المساعدة الممكنة الواجب تقديمها للجهود الثنائية والدولية من أجل دعم الاستقرار والمشاركة في الاستجابة للأزمة المتنامية والتهديدات من منطقة الشرق الأوسط.
وتناولت البنود التالية ( م33 – م37) على التوالي: التأكيد على ما يمثله تنظيم الدولة الإسلامية من خطر كبير على المنطقة وعلى شعوب الحلف، وأن الحلف لن يتردد في اتخاذ كل الإجراءات الضرورية لتأمين الدفاع المشترك، والتأكيد على الشراكة مع العراق، ولكن دون تدخل عسكري مباشر، ثم الموقف من سوريا، وأخيرا مسئولية نظام الأسد عن ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية” في سوريا وامتدادها إلى الخارج، وأن “تنظيم الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق يمثل تهديدا للاستقرار الإقليمي، وأن شعبي سوريا والعراق في حاجة لمساندة المجتمع الدولي لمواجهة هذا التهديد. وأن منهجا دوليا تنسيقيا مطلوب في هذا الصدد.
وبعد استعراض الموقف في ليبيا ومالي انتقل البيان إلى البلقان وأفغانستان (م 32 – م 47)، ثم انتقل إلى تفاصيل الاستراتيجية الدفاعية الأمنية (م 48- م 78). ويتضح من القراءة المتعمقة فيها أن أساليب الدفاع لم تعد التقليدية ولكن يحدث التحول المستمر والمتراكم نحو أساليب الحركة السريعة والمحدودة باستخدام قوات وتكتيكات التدخل السريع.
وبعد التأكيد في بند 80 على مسألة القيم المشتركة بين أعضاء الحلف وبين الحلف وشركائه دفاعا عن أمنهم وأمن العالم، انتقل البيان إلى الشراكات في أرجاء العالم شرقا وغربا وجنوبا ثم إلى الرابطة الأورو أطلنطية والحوار بين الحلف والاتحاد الأوروبي.
والجدير بالتأكيد من واقع هذه القراءة الرأسية والأفقية لبيان قمة ويلز، أن خطر “تنظيم الدولة الإسلامية” لم يحظ من الاهتمام بنفس القدر الذي أشاعة الإعلام العربي. فليستيقط حكام المنطقة الذين مازالوا يدافعون عن كراسيهم في مواجهة ثورات شعوبهم، لأن استعداء الخارج على شعوبهم لن يحميهم بالقدر الذي يتوهمونه، كما أن هؤلاء الحكام – شأنهم شأن مصالح شعوبهم – موضع مساومات وحسابات خارجية قد تحفظ كراسي حلفاء وقد تسقط كراسي حلفاء آخرين.
وبالنظر إلى خريطة الأولويات في التوجه الأمريكي والأوروبي نحو المنطقة حتى ما قبل انعقاد القمة الاطلنطية، وباستدعاء خريطة التهديدات ذات الأولوية في بيان قمة الأطلنطي الأخيرة وآليات مواجهتها، يتضح لنا أنه لم يكن هناك حتى ختام قمة ويلز استراتيجية شاملة وكلية غربية معلنة للحرب على الإرهاب في جولتها الراهنة. فالحرب على تنظيم الدولة الإسلامية ليست إلا رأس الحربة للموجة الثانية في الحرب على الإرهاب المتزامنة مع الثورات المضادة. وفي المقابل فإن هناك استراتيجيات تجاه كل من: شمال أفريقيا، مصر وإسرائيل، الشام، الخليج وشبه الجزيرة العربية، وأخيرا الحزام الأفريقي. وتتوزع الأدوار الأوروأطلنطية في هذه الاستراتيجيات الجزئية، حيث نلحظ ثقلا لتحرك أوروبا نحو المغرب العربي وجنوبها الأفريقي، في مقابل تركيز أمريكي أكبر على الشام والخليج.
كذلك الجدير بالتأكيد هو أنه رغم أهمية المساحات جميعها للمصالح الغربية وتعرضها لتدخلات متراكمة متعددة الأشكال، إلا أن القلب (الشام) وجواره الخليجي ثم جواره الآسيوي (أفغانستان وباكستان) هو الأكثر عرضة للتدخلات المباشرة والحروب الممتدة. يكفي الإشارة إلى حرب الخليج الأولى، ثم حرب الخليج الثانية ثم احتلال العراق (حرب الخليج الثالثة)، وها نحن نعيش الآن، انطلاقًا من البؤرة السورية والبؤرة العراقية (نظامين حليفين يحاولان إجهاض ثورتي شعبيهما باسم محاربة الإرهاب) حربا رابعة ولكن بتكتيكات جديدة وأهداف إضافية وإن كان الاستنفار لها –عالميا وإقليميا- يتم أيضا باسم الحرب على الإرهاب.
ومن هنا كان التركيز منذ انتهاء قمة الاطنلطي على بناء استراتيجية لتحالف ناتو –إقليمي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية أولا، وتنطلق من استراتيجية الناتو الدفاعية، وتجري بقيادة أمريكية ولا تلتحف بالشرعية الدولية للأمم المتحدة فهذه مجرد مكون من المكونات وليس الإطار أو المنطلق، وهذا المسار تأكيد لاتجاه التدخلات الخارجية العسكرية في العالم الإسلامي وقلبه العربي بصفة خاصة منذ نهاية الحرب الباردة نحو التدخل الأمريكي المنفرد ثم استدعاء إطار الناتو وربما الأمم المتحدة كما حدث لأفغانستان ثم العراق ثم ليبيا، والآن في العراق، من جديد ولكن هذه المرة تحت عنوان “تنظيم الدولة الإسلامية”.
وهذا النمط الجاري من التدخلات يعكس معايير مزدوجة حيث يقع في مقابلها حالات يمتنع فيها الغرب عن التدخل، ولو بدرجة أقل، تحت ذريعة الحسابات والتوازنات، طالما أن المصالح المباشرة ليست في محل خطر، بل ربما يؤدي استمرار التأزم والصراع في المنطقة بدون تدخل حاسم لخلق فرصة توظيفه في خدمة هذه المصالح، والأزمة السورية خير مثال على ذلك، وعلى نحو يثير التساؤل هل تنظيم الدولة الإسلامية أكثر خطورة من نظام الأسد؟ ولكن على من؟ هل مجازر تنظيم الدولة الإسلامية أكثر وحشية من مجازر نظام الأسد وإسرائيل والنظام الانقلابي في مصر؟ فمن الذي له حق استخدام القوة العسكرية فقط وما هي ضوابطه؟
ومن ناحية أخرى فنحن أمام استراتيجية غربية، باستدعاء إقليمي واضح من جانب بعض الدول في المنطقة وعلى رأسها السعودية ومصر، وهي دول تستعدي الخارج للتدخل في الإقليمي والداخلي، وتقبل هذه الدول منه أن يقود تحديد الأدوار لها على أراضيها وفي أوطانها وتجاه جيرانها.
وإذا كانت هذه الدول الإقليمية أرادت أن تتخذ لها إطارا جماعيا إقليميا – مثلما انطلق الغرب من قاعدته في الناتو – فيأتي هنا اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية – في نفس فترة انعقاد قمة الناتو (5-7/9/2014)؛ فقد أصدر هذا المجلس في 7/9 بيانا تحت عنوان “الإرهاب الدولي وسبل مكافحته.
وهو بيان ملئ بالتأكيد على الإدانات القوية والتأكيد على رفض الإرهاب، والتأكيد على ما صدر من بيانات سابقة لاجتماعات مجلس الجامعة أو القمة الأسبق في بغداد، بشأن الإرهاب.
إنه بيان ملئ بالإدانة والرفض للأشكال التفصيلية لما يسمى إرهاب، وكذلك ملئ بالدعوات للدول العربية للتوقيع على اتفاقيات مكافحة الإرهاب أو تطبيق بنودها أو تفعيل آليات تنفيذها والدعوة إلى تبادل المعلومات بهذا الشأن، ووضع استراتيجيات “للوقاية من الإرهاب”.
إنه بيان لم يسم من حالات المنظمات “الإرهابية” الا تنظيم الدولة الإسلامية وحركة شباب المجاهدين في الصومال. ولم يشر لمبادرات من الدول الأعضاء في هذا الشأن (أسقط المبادرة المصرية المقدمة لمجلس الجامعة في سبتمبر 2013 قبل انعقاد قمة الكويت، كما أسقط الإشارة إلى موقف قمة الكويت مارس 2014) بما يعني أن الموقف الانقلابي المصري من الإرهاب لم يتم تبنيه كما أراده الانقلاب سبيلا لتجريم الإخوان والإسلام السياسي برمته في المنطقة.
ولم يشر البيان بالاسم لأي رئيس دولة الا خادم الحرمين الشريفين، وذلك حين الإشادة بتبرعه بمائة مليون دولار لدعم مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، والإشارة إلى مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار، كذلك عند التأكيد (قرب نهاية البيان م15) على ما ورد في خطابه في 1/8/2014، “والذي حذر من خلاله من فتنة التطرف والإرهاب باستخدام الدين لتحقيق مصالح دنيوية وتحذيره للذين يتخاذلون عن أداء مسئولياتهم التاريخية ضد الإرهاب”.
كأن البيان بإسقاطه للمبادرة المصرية وموقف قمة الكويت منها من ناحية، والتأكيد على دور خادم الحرمين من ناحية أخرى، إنما يعني أمرين: أحدهما قيادة السعودية للتحالف الإقليمي، مع التحالف الأطلسي، في استراتيجية مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، على عكس ما كان يتصور السيسي لدوره في المنطقة، والآخر إعطاء الأولوية لإرهاب تنظيم الدولة الإسلامية على حساب ما يدعيه السيسي عن “إرهاب الإسلام السياسي السلمي” الذي ابتدعه الانقلاب فزاعة للمنطقة، لتدعيم مواقفه الاقصائية الاستئصالية في الحرب على خصومه السياسين (وفق الرؤية الانقلابية تحولت الخصومة والصراع السياسي إلى حرب داخلية وإقليمية على الإرهاب).
بعبارة أخيرة فإن بيان الجامعة العربية لم يقترح استراتيجية، لأنه لا يملك بالطبع أدوات أو استراتيجية – مثلما يمتلك الناتو-. وأضحى التحالف الإقليمي المقصود، والذي ينتظر الدور الخارجي هو تحالف خليجي – مصري – أردني بالأساس، وليس تحالفا عربيا واسعا يتوحد في المواقف مثلما أعلنت وثيقة قمة الناتو من أن القمة كانت لحظة تاريخية في توحد “الغرب” في مواجهة التهديدات لأمنه، وأن الناتو هو مظلة الدفاع لحماية أمن العالم. إذن سيظل الأمن القومي العربي رهينة تدخلات الخارج وتابعا لرؤيته عن “من العدو؟ ومن الحليف؟ وما هو التهديد؟”.
ويمكن من متابعة الجهود المعلنة والتصريحات الصادرة عن المسئولين الأمريكيين والأوروبيين بعد انتهاء القمة الاطلنطية [5] أن نتبين الملامح الكبرى للاستراتيجية الجاري إعدادها، والتي قيل إنها ستزداد تبلوراً، بعد خطاب أوباما في 10 سبتمبر 2014، واجتماعات جدة في 11 سبتمبر 2014، بين وزير الخارجية الأمريكي، وبين وزارء خارجية مجلس التعاون الخليج الست والأردن ومصر وتركيا والعراق، وذلك للنظر في كيفية توزيع الأدوار والالتزامات لتنفيذ هذه الاستراتيجية.
وتتلخص هذه الملامح في الآتي:
* توحد أعضاء الناتو ضد التهديدات لأمنهم والتي تمثلها تنظيم الدولة الإسلامية وقوة الحلف وقدرته على التصدي لها.
* الاقتراب الكلي والمنهج الشامل المتكامل للتعامل مع هذا الخطر سواء من حيث الأدوات أو الأطراف المتحالفة ونطاق المواجهة أو المدى الزمني وعلى نحو يعكس استراتيجية متكاملة تتضح معالمها يوما بعد يوم انطلاقا من منهج كلي.
* عدم التدخل العسكري البري بقوات على الأرض ولكن قيام الناتو بمهام متعددة من التدريب والمعلومات والمراقبة والمساعدة والاستشارة، والإمداد بالأسلحة والذخائر. إلى جانب الضربات العسكرية المحدودة التي قامت بها القوات الأمريكية ضد مواقع تنظيم الدولة الإسلامية.
* البعد العسكري بمفرده لا يكفي بدرجاته المختلفة، ولابد أن يدعمه تجفيف الموارد المالية والبشرية، وخاصة فيما يتصل بالمحاربين الأجانب بالإضافة للمساعدة الإنسانية والاقتصادية لإعادة إنهاض العراق على قدمية.
* العراقيون بأنفسهم يجب أن يتصدوا لتنظيم الدولة الإسلامية بالتعاون مع الشركاء الإقليميين المستعدين للقيام بذلك في إطار استراتيجية شاملة للتعاون مع الناتو ودوله.
* لابد من منع تنظيم الدولة الإسلامية من الاستيلاء على الأراضي والسيطرة عليها. وتفعيل إرادة التصدي لها من أجل اجتثاثها؛ فلا سياسة لاحتواء تنظيم الدولة الإسلامية لأن استمرار بعض قدراتها بعد ضربها سيمكنها من العودة من جديد. ومن هنا ضرورة التحالف متعدد الأدوات والمستويات اللازم بناؤه للقيام بهذه المهمة. ولابد من وضوح هذه الاستراتيجية وخاصة وضوح الدور الذي سيقوم به كل عضو. ومع الاقتناع بتوافر القدرة على تدمير تنظيم الدولة الإسلامية لابد من الانتباه إلى أن المهمة ليست سريعة وقصيرة، فقد تستغرق عاما أو ثلاثة أعوام.
وهكذا وإذا كان أوباماـ في مؤتمره الصحفي عقب انعقاد القمة قد أكد ثقته أن حلفاء الناتو وشركاءه مستعدون للانضمام إلى جهد دولي واسع لمحاربة تهديد تنظيم الدولة الإسلامية بكافة الوسائل العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية، إلا أنه رأى أن هناك خطوة تالية، وهي استكمال بناء التحالف مع الحلفاء في المنطقة ذاتها.
ومن الملامح الجديرة بالذكر، في هذه الاستراتيجية الغربية، وإن كانت لم تحظ في التصريحات والوثائق الرسمية الغربية بقدر كاف من التوضيح والاهتمام ذلك الملمح الثقافي المرتبط بالحوار بين أصحاب الديانات والثقافات ونفي تهمة الإرهاب عن “الإسلام”.
فكعهد السياسة الأمريكية في الجدْل أو الدمج بين القوة الصلدة والقوة الناعمة، في إطار استراتيجيتها العالمية لمكافحة الإرهاب منذ 2001 سواء مع إدارتي بوش أو إدارتي أوباما، وبعد أن تراجع الاهتمام بحوارات الأديان والثقافات بين المسلمين والغرب منذ اندلاع الثورات العربية (مقارنة بالعقد السابق عليه)[6] ، يمكن استدعاء الجانبين التاليين:
الجانب الأول: ما تم إعلانه في 5 سبتمبر 2014، أي مع بداية القمة الأطلنطية عن تعيين واشنطن مبعوثا إلى العالم الإسلامي (شريك مظفر الباكستاني الأصل) للمساعدة في جهود التوعية الدينية التي تقوم بها وزارة الخارجية الأميريكية، والتواصل مع القيادات الدينية ومنظمات المجتمع المدني لتحقيق التسامح والتفاهم. وفي الاحتفال الذي عُقد في مقر وزارة الخارجية الأمريكية بهذه المناسبة، لم يفت كيري أن يؤكد، ما كان يؤكده إسلافه في المنصب، من الإشادة بالجاليات المسلمة في أمريكا: “المسلمون الأمريكيون” هم مصدر القوة لنا جميعا، إنهم جزء أساسي من النسيج الوطني لدينا، ونحن ملتزمون بتعميق شراكاتنا معهم. كما لم يفته أيضا الإشارة إلى أن “الإرهابيين انتهكوا الإسلام بهمجيتهم” وأن الولايات المتحدة ستلاحق الإرهابيين الذين قتلوا مواطنيها في أي مكان في العالم[7].
وإذا كان تعيين ذلك المبعوث وتلك التصريحات تشير إلى الاهتمام بالمكون الثقافي في الاستراتيجية الأطلسية –الإقليمية الجديدة، إلا أنها تستدعي أيضا كل الخبرة السابقة حول التوظيف السياسي للحوارات وحول العلاقة بين القوة الناعمة والقوة الصلدة وحول الرؤية الغربية عن العلاقة بين الإسلام والمسلمين وبين الغرب، وهذه الخبرة قبل الثورات العربية بينت – ما أكدته المواقف الغربية من هذه الثورات ومن الثورات المضادة – أن التمييز بين الإسلام والمسلمين لا يعني قبول كل المسلمين السلميين في نطاق “التعددية والتسامح والقبول بالآخر السياسي” من جانب القوى الغربية ولا يعني اعترافا بأن “الديمقراطية المقدسة على النمط العلماني يمكن أن تقبل بمشاركة إسلامية أو تعتبر النضال الوطني ضد الاحتلال حقا مشروعا وليس إرهابا.
وبغض النظر عن تفاصيل هذه الخبرة قبل الثورات وما بعدها[8]، فمما لا شك فيه أن إعادة استدعاء ذلك الجانب قبل أيام من التدشين الرسمي للتحالف الإطلسي –الإقليمي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وهو قائم بالفعل على الأرض منذ سنوات، يعني أن هناك ردود فعل سلبية شعبية ضد هذه الأنماط من التدخلات الخارجية، بعضها بسبب ما تمثله هذه التدخلات من عدوان وبعضها الآخر بسبب ما تراه فيها من عداء للإسلام ذاته، ناهيك عن الجانب المذهبي المتفجر حول الصراع في العراق وسوريا ولبنان بين السنة والشيعة، أو عن أدوات الاستراتيجية المرتقبة لتفكيك حاضنات تنظيم الدولة الإسلامية الشعبية والمدنية الداخلية والإقليمية منها على حد سواء، في كل من العراق وسوريا.
ومن ناحية أخرى إذا كان جون كيري يترصد الإرهابين الذين قتلوا مواطنيه في كل مكان، ماذا عن الإرهابين من النظم العربية التي تفتك بأبناء شعبها دون أن تحرك أمريكا ساكنا ضدها أو لعلها تتحالف مع بعضها؟
الجانب الثاني: أن بيان جامعة الدول العربية “الإرهاب الدولي وسبل مكافحته” الصادر في 7/9/2014 لم يفته أن ينص في بنده الثاني على رفض ربط الإرهاب بأي دين أو جنسية أو حضارة، والدعوة إلى تعزيز الحوار والتسامح والتفاهم بين الحضارات والثقافات والشعوب والأديان. وإذا كان ذلك البند المتقدم يعني إعطاء الأولوية للأسلوب الدفاعي!! إلا أنه لا يمكن أن ينفي أمرا آخر، ازداد صعوده بعد الثورات وخاصة بعد الثورات المضادة وما اقترن بها من هجوم على كافة التيارات السياسية الإسلامية السلمية وإسقاط بعضها واتهام بعضها بالإرهاب –وهذا الأمر هو “من المتحدث باسم الإسلام” وكيف يمكن التمييز بين الإسلام والمسلمين والحركات الإسلامية؟ وهل النظم الحاكمة هي التي تحدد للفرد أو المجتمع نمط إسلامه المقبول؟ … وغيرها من الأسئلة التي تتصاعد كلما تعاقبت تصريحات قادة عرب عن ممارسات متنوعة سواء سلمية أو عنيفة باعتبارها جميعا توظيفا للإسلام في السياسة وإثارة للفتنة والفوضى وإساءة للإسلام… ومن ثم لا يرى هؤلاء القادة حماة للإسلام إلا هم، ووفق رؤيتهم الأحادية.
إن استدعاء هذا الجانب الثقافي –الديني في غاية الأهمية الآن ويجب الانتباه إليه. إلا أن إدارته تقتضي إطارا أكبر من الحريات واحترام حق التعبير والتعددية على نحو لا يتوفر الآن في ظل الثورات المضادة والانقلاب في مصر بصفة خاصة. إن الحالة القائمة في مواجهة الحركات السياسية الإسلامية والحركات الإسلامية المجتمعية السلمية تقود إلى “فاشية دينية” يتم توظيفها سياسيا بما يحقق ويحفظ مصالح النظم المترهلة أو المتهاوية أو الانقلابية ومصالح حلفائها من الخارج، وكل ذلك تحت ستار “الحرب على الإرهاب” دون تمييز بين السلمي والراديكالي بين السياسي والمسلح، بين الإرهابي والمقاومة للاحتلال بين الإرهاب وبين الأعمال المسلحة المعارضة للنظم التسلطية…
وها هي “الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية” تختبر كل ذلك من جديد وتدشن لمرحلة أخرى مما يسمى الحرب على الإرهاب من حيث العلاقة بين الداخلي والخارجي، وبين الفكري والسياسي، وبين السلمي والمسلح، وبين النظم وشعوبها، وبين الديني والسياسي، وبين العقدي والمذهبي، بين الأوطان والأمة والعالم، … بين الإسلام والمسلمين، وفيما بين الحركات السياسية الإسلامية ذاتها.
وفي خطابه المنتظر –التي لم تكف أجهزة الإعلام عن التذكرة به- لم يكشف أوباما عن جديد لم يذكره وزراء خارجية ودفاع كبار الحلفاء في الناتو وعلى رأسهم وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيين. ولكن بيان أوباما دشن رسميا قيادة أمريكا للتحالف فهي التي تحدد الرؤية والاستراتيجية. كما دشن أسلوبا جديدا للتدخل العسكري يتجاوز ما حدث في أفغانستان والعراق (2001- 2013). فلقد أعاد أوباما التأكيد على أنه لا تدخل بريا أمريكيا وأن الضربات الجوية الأمريكية ستقترن بإعادة بناء الجيش العراقي ودعمه بالاستشارة والتدريب والأسلحة.
والجديد في خطاب أوباما هو الإعلان عن أن العمليات العسكرية ستمتد إلى سوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية دون ذكر لضربات ضد نظام الأسد وأنه سيتم تدعيم وتدريب المعارضة السورية المسلحة المعتدلة، وأن السعودية وافقت على القيام بذلك على أرضها. ولكن ماذا عن المعارضة المسلحة التي تلقى دعما سعوديا وخليجيا؟
وبهذا يكون أوباما قد قفز إلى السلة السورية بعد طول تردد، ولكن محملا بكثير من الفخاخ هل سينفذ الخطة هذه المرة، أم سيتراجع كما حدث من قبل أكثر من مرة وخاصة بعد مذبحة الغوطة الكيميائية (أغسطس 2013)؟ وإلى أي حد سيلقى مساندة داخلية من الكونجرس؟ وماذا عن ردود فعل روسيا وإيران داعمي نظام الأسد؟.
خامساً: بين سبتمبر 2001 وسبتمبر 2014:
كيف نفكر في حالة الاستنفار التي يفرضها الغرب والخليج على المنطقة والعالم. واجتماع جدة (سبتمبر 2014) من أجل التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والذى يتزامن مع الذكرى الثالثة عشرة لأحداث 11/9/2001 التي دشنت الولايات المتحدة بعدها “الحرب العالمية على الإرهاب”؟
بعد خطاب أوباما (10/9/2014) واجتماع جدة بين كيري ووزراء خارجية مجلس التعاون ومصر والأردن والعراق ولبنان وتركيا (11/9/2014)، بل وانتظارا لما سيلي ذلك الاجتماع من اجتماعات ثنائية ومؤتمرات عالمية [9]، وما ستسفر عنه المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية بعد ذلك في إطار خطة التحالف وتنفيذها، ومع الأخذ في الاعتبار أن المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية قد بدأت منذ عدة أشهر وبأدوات مختلفة، إلا أنه لابد أن نسجل الملاحظات التالية المبنية على كل التحليل السابق.
من ناحية: رغم أن صعود تنظيم الدولة الإسلامية لم يكن مفاجأة لأحد، ورغم أن التحذير من خطورتها وتهديدها لقيم النظام العالمي وأمنه واستقراره ليس بجديد أيضا، فإن الاستنفار لمحاربتها اقترن بتعظيم هذا التهديد وتضخيمه بحيث يغطى على غيره من الأحداث الجارية في المنطقة، وخاصة العدوان الإسرائيلي الوحش البربري على أهل غزة، والعدوان الوحشي الممتد والمستمر للنظام السوري على شعبه، وعنف المليشيات الشيعية في العراق والذي دفع بسنة العراق (الذين سبق وكونوا الصحوات ضد القاعدة في العراق وضد الدولة الإسلامية حين إعلانها في العراق 2008) ليكونوا بمثابة حاضنة لتنظيم الدولة الإسلامية بل وإعلان ثورتهم ضد نظام المالكي في تزامن مع استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل وما تلاها.
ومن ثم فإن من أهم من الشكوك التي ستثور حول التحالف الدولي –الإقليمي ضد تنظيم الدولة الإسلامية هي: لماذا الآن ولماذا التأخير في مواجهتها بل وفي التصدي لنظام الأسد الذي أفرزها ونظام المالكي الذي حفزها؟ ومن ثم ماذا عن مدى النجاح في تحقيق أهداف التحالف وسرعتها بعد أن إزدادت تنظيم الدولة الإسلامية تمكنا؟ وما الأهداف البعيدة – عدا احتواء تنظيم الدولة الإسلامية أو تدميرها – المراد تحقيقها في ظل امتداد أجل مهمة هذا التحالف؟ وهل كان الدور الأمريكي المنفرد ومع الناتو ضد القاعدة في إطار احتلال أفغانستان وفي إطار الحرب الأمريكية العالمية ضد الإرهاب، قد حقق أهدافه حتى يحقق هذا التحالف أهدافه؟ أم ستظل هذه الحروب “ضد الإرهاب” رؤوس حربة للتغطية على عودة الاستعمار للمنطقة متحالفا مع النظم المستبدة والتي تقمع ثورات شعوبها؟
من ناحية ثانية: على ضوء تدشين الدعوة لتكوين التحالف من قمة الأطلسي وعلى ضوء السياق الإقليمي العام الذي يشهد ثورات مضادة وانقلابات النظم ضد شعوبها التي ثارت عليها، وعلى ضوء الإخفاقات المتكررة والانتقادات المتتالية والاتهامات التي واجهتها الاستراتيجية الأمريكية العالمية ضد الإرهاب منذ 2001، فإن التحالف الدولي-الإقليمي ضد تنظيم الدولة الإسلامية ليس إلا الموجة الثانية من الحرب الدولية على الإرهاب في نظام ما بعد الحرب الباردة، وهو يعكس التكيف الغربي بقيادة أمريكية في مواجهة اخفاقات الموجة الأولى والاتهامات الموجهة لها.
فهو ليس عملا أمريكيا منفردا، وهو ليس تورطا عسكريا على الأرض، وهو ليس حربا مفتوحة في أرجاء العالم، وهو يلقي استجابة ومساندة، من الحلفاء الإقليميين ولو بدرجات مختلفة، وهو رأس حربة لإعادة بناء تحالفات المنطقة “في مواجهة الإرهاب”، وليس في مواجهة إسرائيل أو التدخل الخارجي، أو في مواجهة نظم المنطقة بعضها مع بعض، وهو اختبار للجديد في استراتيجية الناتو التي أقرتها قمة ويلز والجاري تطويرها منذ القمة السابقة في إطار تجديد دور الناتو، الذراع العسكري لحماية مصالح الغرب في العالم.
وهو، كما قال كيري، نموذج يجري بناؤه لتطبيق الجديد في قدرات الدفاع الأطلسية، وبيان أنها ليست متجمدة عند النموذج التقليدي القديم الذي قد يبدو غير قادر على مواجهة تهديد مثل الذي يمثله تنظيم تنظيم الدولة الإسلامية. ومن ثم فإن نجاح التحالف في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية –كما يأمل كيري- سيكون خطوة لتطبيقه في مواجهة حركة شباب المجاهدين في الصومال وبوكوحرام في نيجيريا.
كما ستظل التحالفات تحت راية الحرب على الإرهاب وسيلة لدعم مصالح غربية مثل بيع السلاح، والحصول على قواعد جديدة باسم التدريب والاستشارة، وتدعيم التسهيلات الجوية والبحرية وإعادة بناء جيوش (هياكل وعقيدة) بما يتفق ورؤية الناتو، لتستكمل هذه الجيوش – في العراق وليبيا واليمن والأردن ولبنان، ناهيك عن الخليج ومصر – أدوراها وإن بثوب جديد، في خدمة أهداف القوى الغربية التي قامت بها في أطوار متتالية منذ الاستقلال (سواء في إطار من التعاون مع الغرب أو المواجهة معه).
بعبارة أخرى: يظل هذا التحالف تجسيدا لاستمرار الاستدعاء الإقليمي للخارج لحل مشاكله، ولاستمرار التغير في أشكال التدخل، من حلف إلى حلف منذ ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة. ولكن يظل الجوهر واحد: كيف أضحى الإقليم يعجز عن مواجهة التهديدات من داخله وبعد أن كان يتحالف مع الخارج لمواجهة تهديدات من خارجه (الشرق أو الغرب) أضحى يتحالف أساسا ضد بعضه البعض (لمحاربة الثورات أو الإرهاب) وتتحالف النظم مع الخارج ضد شعوبها.
إن المدقق في تاريخ تطور الأحلاف عبر ما يزيد عن النصف قرن من عمر النظام العربي ليدرك كم التدهور الذي أصاب قيم التحالفات والتحالفات المضادة وأهدافها. حيث إن التحالفات أداة من أدوات إدارة السياسة الدولية، قد تكون شرا وقد تكون خيرا. ومن أكثرها شرا تلك التي تتحالف فيها النظم مع الخارج ضد شعوبها وبذرائع مثل الإرهاب لتغطي على الإرهاب الأصل أي الفساد والاستبداد والتبعية ووأد حريات الشعوب وقتل أرواحها وسرقة أقواتها وتدمير أحلامها في الكرامة الإنسانية والعدالة والحرية..
ومن ناحية ثالثة: التحالف تم تدشينه بقيادة أمريكية لحقت به القيادة السعودية؛ فمن بين كل الدول الإقليمية حازت السعودية سواء في بيان الجامعة العربية، كما سبق الإشارة، أو في البيانات الأمريكية نصيب الأسد في التنوية إلى دورها وأهمية وتأييدها للتحالف، بل لعل جدة تصبح مقرا إقليميا لهذا التحالف. وسيواجه التحالف عوائق من خارجه ومن داخله على حد سواء، ناجمة بالأساس عن عدم تطابق أهداف أعضائه من وراء المشاركة فيه، وناجمة من ناحية أخرى من سياق الفواعل الإقليمية المعارضة له أو غير المشتركة.
ومع استبعاد إيران من الدعوة تزايد هجومها على التحالف وعلى السياسة الأمريكية لدرجة اتهام رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجابي التحالف بأنه يضم دولا تساعد الإرهابيين والمتطرفين في سوريا (إشارة للسعودية ولتركيا بالطبع، في حين أن انقلاب مصر يبدو أكثر قربا للنظام السوري من هاتين الدولتين).
ومن ثم فإن مساندة إيران للمليشيات الشيعية في العراق ستمثل عائقا أساسيا من عوائق إعادة تعبئة السنة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، فكيف يتجهون لذلك والقوات العراقية، مدعومة بالمليشيات الشيعية تضرب مناطق السنة في مطاردتهما لتنظيم الدولة الإسلامية؟ ومن ثم بقدر ما تمثل تنظيم الدولة الإسلامية عدوا للنظام السوري إلا أن الأخير وحلفاءه قد استفادا من دورها في تفكيك صفوف المعارضة الإسلامية ووقف المعونات الغربية للجيش الحر والمعارضة المسلحة غير الإسلامية، ومن ثم فإن عدم تدميرها أو اجتثاتها تماما يظل هدفا وورقة للمناورة من جانب نظام الأسد وحلفائه.
ناهيك عن استمرار قدرة إيران على المناورة بورقة البرنامج النووي الإيراني، حيث بدأت تصريحات إيرانية عن المشاكل التي تواجه الاتفاق. فإذا لم يكن شهر العسل الأمريكي-الإيراني قد انتهى، فمازالت المساومات بين الطرفين قائمة وراء الكواليس، كما حدث دائما منذ 2001.
ويبقى الهجوم على التحالف وإعاقة أعماله في مواجهة نظام الأسد ورقة أساسية بالنسبة لروسيا تناور بها خلال المواجهة الكبرى مع الناتو حول أوكرانيا وأمن شرق أوروبا. ففي نفس الوقت الذي تتدخل فيه روسيا عسكريا في شرق أوكرانيا، فهي تعتبر أن أي هجوم على تنظيم الدولة الإسلامية في الأراضي السورية بمثابة انتهاك للسيادة واعتداء على القانون الدولي، ومن ثم لابد من قرارات من الشرعية الدولية لضرب “الإرهاب”.
وبالمثل فإن إسرائيل التي لن تشارك صراحة، بل من وراء الكواليس، لتحقيق أهداف تتعدى تدمير تنظيم الدولة الإسلامية فقط، قد بدأت تصريحاتها الموضحة لحقيقة هذه الأهداف ألا وهي التحذير من مخاطر امتداد تنظيم الدولة الإسلامية إلى إسرائيل وفلسطين ناهيك عن الربط بين إرهاب حماس وإرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، تذكرة للذين يضعون حماس على قوائم الإرهاب، بأن هناك تنظيمات إرهابية أخرى تقتضي التدخل الدولي ضدها، ومن هنا مغزى المقترحات الإسرائيلية التي تتوالى عن مناطق عازلة تحت إشراف دولي أو عن نزع سلاح حماس مقابل المعونة الإنسانية لغزة.
والجدير بالذكر هنا أيضا أن الحملة التي بدأتها إسرائيل ضد قطر تتهمها فيها بالإرهاب ومساندته، وهي حماة مستمرة في التصاعد الآن. والعجيب أن أذرعا انقلابية إعلامية وسياسية في مصر تشارك إسرائيل هذا التوجه؛ إذ ينتهزون فرصة النقاش حول التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية لاستدعاء الهجوم على قطر واتهامها بمساندة الإرهاب والإخوان بصفة خاصة[10].
ومن ناحية رابعة: وماذا عن العوائق من داخل التحالف ذاته؟ ماذا عن الدعوة المفاجئة للعراق ولبنان لحضور اجتماع جدة ليصبح عدد الدول العربية 10 إلى جانب تركيا والولايات المتحدة.
إن مشاركة العراق ولبنان تزيد من وطأة البعد الطائفي على إدارة التحالف، وكذلك قد تكون بابا خلفيا لتأثير إيران سواء فيما يتصل بإعادة بناء الجيش العراقي أو اللبناني على حساب المليشيات المسلحة الشيعية في العراق وحزب الله في لبنان، ناهيك عن أن حكومة العراق الجديدة مازالت واهية ولم تتضح بعد مواقفها من البعد الطائفي ومن العلاقة مع إيران. فمهما كان اعتماد العراق على التدخل الأمريكي (بضربات جوية أو إمدادات عسكرية) فتظل الأرض العراقية وجوارها الإيراني مليئة بالمفاجأت! ألم تؤسس الولايات المتحدة قبل انسحابها من العراق جيشا عراقيا؟ أين ذهب؟ ألم يكن هو سبب الثغرة التي اقتنصتها تنظيم الدولة الإسلامية للتدفق في شمال العراق وغربه؟ ماذا عن الميلشيات الشيعية، وخاصة ما يسمى مؤخرا (الحشد الشعبي).
ولا تعني مشاركة العراق أن مشاكله مع السعودية قد انتهت بذهاب المالكي. قد تفرض الضرورة اللقاء ولكن يظل تطبيع العلاقات بسرعة صعبا لأكثر من اعتبار على رأسها اتهام السعودية بأنها من مولت سنة العراق الحاضنة لتنظيم الدولة الإسلامية في وقت ما، وأنها التي تمول فصائل سورية إسلامية مسلحة، وأنها التي تدعم الجيش اللبناني على حساب ميلشيات لبنان المسلحة الشيعية أو التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية.
والأهم ماذا عن تركيا ومصر؟ ألا يعنيهما الأمر بنفس درجة الخليج والعراق ولبنان والأردن؟ وكيف ستتعاون تركيا مع النظام الانقلابي في مصر الذي ترفض شرعيته؟؟؟ وكيف ستدير علاقاتها مع قائد حلف الناتو الذي تشترك فيه تركيا.
إن التحالف يفرض تحديا على كل من مصر وتركيا بصفة خاصة. وبقدر ما يمثل قيدا قد يمثل فرصة للمناورة. فلا يمكنهما رفضه بسهولة ولا يمكنهما قبوله براحة أو المشاركة فيه بلا شروط أو ضوابط أو حسابات. فالمتغير الكردي حاضر بقوة في حسابات تركيا ناهيك عن خبرة مساندتها للثورة السورية وما آلت إليه. ولذا ليس من المستغرب أن تعلن الحكومة التركية مبدئيا أنها لن تشارك في أعمال عسكرية في نفس الوقت الذي تتوالى تلميحات في صحف تركية معارضة للحكومة إلى مواقف تركية مساندة لتنظيم الدولة الإسلامية (علاج قياداتها الجريحة في تركيا، ومساعدة رجال أعمال أتراك في بيع بترول عراقي يعود دخله إلى تنظيم الدولة الإسلامية).
هذا فضلا عن دعوة تركيا المستمرة للتدخل ضد نظام الأسد واعتباره السبب في إفراز هذه الكيانات المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية. فهل يتجه التحالف لعقاب السبب والنتيجة، كما ترى تركيا، أم ستقتصر على عقاب النتيجة فقط؟
لقد استطاعت تركيا أن تجري حساباتها الوطنية والإقليمية والعالمية تجاه العدوان الأمريكي على العراق في 2003، وعلى نحو تجلى فيه نجاح موازناتها في الحفاظ على مصالحها. وذلك في وقت كان حزب العدالة والتنمية يبدأ مشواره السياسي كحزب حاكم. وها هي تركيا الآن بعد عقد مع هذا المشوار، وفي نفس وقت مراجعات الحزب الحاكم لحساباته الداخلية والخارجية في ظل قيادة جديدة للحزب ورئاسة جديدة للجمهورية، تواجه تحديات أخرى تفرضها حالة العراق وعلى رأسها العلاقة مع الولايات المتحدة والسعودية والإمارات.
أما مصر: فإنها تتحدث منذ أن بدأ الاستنفار الخارجي ضد تنظيم الدولة الإسلامية عن تحالف ضد “التنظيمات الإرهابية”، في حين أن الجميع يتحدث عن تنظيم الدولة الإسلامية بالأساس. وهذا يتناقض بالطبع مع التوجه الانقلابي الداعي لمحاربة الإرهاب في المنطقة باعتباره “إرهاب الإسلام السياسي” أيضا وليس إرهاب الحركات المسلحة المتطرفة فقط. فهل تقبل مصر فشلا آخر في حشد الإقليم مع معركتها الداخلية؟ بعد أن خاب أملها في قمة الكويت مارس 2014، وفي مواقف القوى الغربية والولايات المتحدة التي لم توافق حتى الآن على إعلان جماعة الإخوان منظمة إرهابية. والتي لم توافق أيضا على المخطط المصري للتدخل عسكريا في ليبيا ضد ما يسميه الانقلاب “إرهابا” أيضا.
ناهيك عن أن دور مصر في التحالف الدولي يبدو حتى الآن دورا تابعا للدور السعودي بل والخليجي (بما فيه قطر)، ولم يعط أوباما أو كيري أو غيرهم من المسئولين الغربيين أي تميز للدور المصري. فهل يقبل النظام في مصر بسكوت الغرب عن الانقلاب وممارساته في الداخل ولا يطالبه بالمزيد من المساندة في حرب الانقلاب على “إرهاب المعارضة في الداخل؟.
إن السياق الإقليمي المتمحور حول “الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية” الآن لا يمثل فرصة للنظام الانقلابي بقدر ما يمثل قيدا عليه بل واختبارا جادا لحقيقة توجهاته الخارجية. حقيقة قد تستغل الدبلوماسية المصرية (كما اتضح من خطاب وزير الخارجية سامح شكري أمام مؤتمر جدة) الفرصة للتذكير بالتنظيمات الإرهابية الأخرى وللضغط لاتخاذ إجراءات ضد جماعة الإخوان من ناحية، وللمساومة لتضمن استمرار المعونة العسكرية الأمريكية من ناحية أخرى (حتى الآن لم يتم تسليم الأباتشي التي أعلن كيري الافراج عنها في مايو 2014). ولتكف الدبلوماسية الأمريكية الرسمية عن إدانة انتهاكات الانقلاب لحقوق الإنسان، من ناحية ثالثة… إلا أن القيود والتحديات أمام مصر تبدو أكثر من الفرص.
فقد تمثل حسابات استراتيجية للمحور السعودي-الغربي تتصل بالحاجة لبناء تحالفات ضد تنظيم الدولة الإسلامية مع قوى إسلامية سنية جهادية أو إخوانية في العراق وسوريا، أو تتصل بالوضع في اليمن والأردن ولبنان والعلاقة ضاغطا على الانقلاب نحو قدر من “التهدئة الداخلية سياسيا” ولا أقول حلا سياسيا للأزمة يقتضي الابتعاد عن وطأة الحل الأمني القمعي. وبفرض وقوع هذا الاحتمال فلا يجب أن يؤدي إلى توقف الحراك الشعبي ضد الانقلاب بدون شروط مسبقة توفر البيئة اللازمة للنظر في أفق للحل السياسي.
إلا أن الأرجح هو أن يظل الانقلاب على نفس مساره أو أن يتمادى أكثر؛ أي أن يقوم على مزيد من الاحتواء والإقصاء للحركات السياسية الإسلامية وغيرها من الحركات السياسية المناهضة للانقلاب، وذلك مع الاستمرار في تهيئة الظهير السياسي للانقلاب في البرلمان بشراء واصطناع وتصعيد نخبة انقلابية قسرا إلى ساحة البرلمان من خلال عملية انتخابات فارغة من المحتوى التعددي الحقيقي. وتظل مشاركة الانقلاب في التحالف فرصة للمقايضة بسكوت الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين عن انتهاكات المسار الديمقراطي التعددي. بعد أن قبلوا أكبر انتهاك من قبل، ألا وهو وقوع الانقلاب العسكري.
ويستند ذلك الاتجاه الانقلابي على تأكيد الربط واستمراره بين تنظيم الدولة الإسلامية وبين الإخوان، ولا يعدم النظام الانقلابي أصدقاء له في الولايات المتحدة، سبق وشاركوه حملة الفزاعات ضد الإخوان باعتبارهم إرهابيين.
والمقصود بالطبع عتاة الجمهوريين من المحافظين الجدد وحلفائهم من الأصوليون المسيحيين والمسيحيون الصهاينة الذين قادوا حين وقوع الانقلاب حملة لمساندة الانقلاب في مواجهة الإخوان ولمساندة إسرائيل في عدوانها على غزة.
وهم أنفسهم الذين قادوا من قبل مع إدراتي بوش الحملة ضد “القاعدة” والإرهاب الإسلامي والذين لا يميزون بين الراديكاليين وبين السلميين من الحركات السياسية الإسلامية حيث اعتبروا الأخيرين –وفق تعبير دانيال بايبس- الجهاد الناعم الخفي. ولم يتأخروا كثيرا في تقديم العون لمصر في مأزقها على صعيد التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية وهو في الواقع عون أكبر للحليف الأساسي وهو إسرائيل التي ما فتأت بدورها –كما سبقت الإشارة- تربط بين تنظيم الدولة الإسلامية والمقاومة وحماس.
ولذا نجد حديثاً صريحاً وفجاً لنائب الرئيس الأمريكي السابق “ديك تشيني” في 10/9/2014، في نفس يوم إعلان أوباما مبادرته وقبل يوم من انعقاد مؤتمر جدة، مفاده استعداء واضح على جماعة الإخوان المسلمين في العالم، حيث قال: “إن جماعة الإخوان المسلمين هي المصدر الأيديولوجي الأساسي لجميع الجماعات المتطرفة في جميع أنحاء العالم، منتقدا مساندة إدارة أوباما لهذه الجماعة”. وطالب بسرعة إرسال طائرات الأباتشي إلى الحكومة المصرية؛ لمساعدتها في حربها ضد الإرهاب في سيناء، وإدراج جماعة الإخوان المسلمين على قائمة المنظمات الإرهابية، وتوفير الدعم للحكومات التي تقف ضد جماعة الإخوان في جميع أنحاء الشرق الأوسط”. وأضاف قائلاً: “أنا آمل أن أسمع من الرئيس أوباما استراتيجية قوية وجريئة لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية؛ فأي استراتيجية واقعية يجب أن تدرك أن تنظيم الدولة الإسلامية تشكل تهديدا استراتيجيا خطيرا للولايات المتحدة، وهزيمة هؤلاء الإرهابيين تتطلب عملا فوريا يتزامن مع إجراءات عبر جبهات متعددة، دون أي تراجع تدريجي، لأن استراتيجية التراجع ستؤدي إلى إطالة أمد الصراع وزيادة عدد الضحايا”[11].
ولهذا، وعلى ضوء ملامح الهجوم على القيادة الأمريكية للتحالف وأهدافها والتي بدأت تغزو الفضائيات والصحف الانقلابية، وعلى ضوء طبيعة التعليقات على كلمة وزير الخارجية المصري في مؤتمر جدة، يتضح لنا أن مصر الانقلابية قد كشفت صراحة وعلانية وبعصيبة عما حاولت إخفاءه طوال شهرين سابقين: وهو أنها لم تعد تحظى بنفس المساندة الإقليمية التي اغدقت بها السعودية في البداية والتي ناورت بها الولايات المتحدة في البداية بدون شروط أو بدون ثمن.
ولهذا فإن مؤتمر جدة وما أحاط به من ردود فعل رسمية إيرانية وروسية من ناحية، ومن ردود فعل معارضي أوباما من الجمهوريين من ناحية أخرى، يبين أن مصر تدخل مرحلة مفصلية تختبر حقيقة توجهات الانقلاب الخارجية: نحو الولايات المتحدة كما تؤكد العديد من الأمور منذ الانقلاب رغم كل الحملات الإعلامية الانقلابية ضد المؤامرة الإخوانية الأمريكية، أو نحو روسيا ونظام بشار الأسد وإيران كما تفصح عن ذلك مناورات السيسي (الذي زار روسيا مرتين) وبعض التصريحات عن الحياد في الأزمة السورية وبوادر التملق الإيراني لمصر الآن.
ولعل أصحاب فكر المؤامرة الأمريكية الإخوانية على مصر من أجل تقسيمها يجدون أنفسهم في مأزق ومعضلة جديدة تضاف إلى سوابقها الخاصة بحقيقة التوجه الاستقلالي الوطني للانقلاب مقارنة بمعارضيه وعلى رأسهم الإخوان. ولقد بدأ المازق مبكرا حين حول الانقلاب الصراع السياسي إلى حرب ضد الإرهاب مستخدما فيها أكاذيب وتلفيقات تستدعي الخارج وها هو المأزق يتفاقم الآن: كيف ستسلك مصر في مواجهة مبادرة التحالف؟ ومن هو الذي ينفذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، النظام الانقلابي أم الإسلاميون؟.
إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست صديقة دائمة وحليفة أبدية إلا لإسرائيل وتدخلاتها لا تعبأ الا بمصالحها بالأساس. وهي لا تستنفر الجميع الآن ضد تنظيم الدولة الإسلامية الا ليحارب أهل المنطقة بعضهم بعضا بأبنائهم وأموالهم ومواردهم وعلى أرضهم تنفيذا لمخطط وضعه الناتو بقيادة أمريكية ولحماية المصالح الغربية الأمنية والاقتصادية. وفي نفس الوقت يقولون لنا احموا أنفسكم لن نقوم بدوركم الأساسي. وفي المقابل، فإن حكام الأنظمة يهرعون إليهم طلبا للحماية: من الذي يهدد من؟ ومن الذي يتحالف مع من؟
خاتمة:
إن التحالف الدولي ـ الإقليمي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ينطلق بالأساس من المكون العسكري وينبني عليه وأن ادعى غير ذلك، تحت غطاء المنهج الكلي والشامل شأنه في ذلك شأن الحرب الأمريكية على الإرهاب بدرجة أو بأخرى، حقيقة تلك الحرب الأمريكية بدأت بعدوان عسكري أمريكي واحتلال لأفغانستان، وتلاها ما تلاها من أعمال عسكرية أمريكية منفردة وخاصة احتلال العراق، واقترنت بمحور ديني –ثقافي- حضاري في إطار ما عرف بمبادرات حوار الحضارات، إلا أن هذا المحور واجه انتقادات حيث كان يُجمّل الوجه العسكري الغاشم للقوة الصلدة. كما لم تقترن الحرب الأمريكية بحلول سياسية ناجحة للصراعات والأزمات التي مثلت بيئة خصبة وجذورا لكل ما أطلق عليه “إرهاب” ولم تتبدل السياسات الأمريكية والغربية الظالمة، سياسيا واقتصاديا، والمتعدية على حقوق ومصالح الشعوب العربية والإسلامية، وخاصة من حيث مساندة فساد وظلم النظم الحليفة لها الحاكمة لهذه الشعوب.
ومن ثم، ورغم حرص الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على عدم التورط العسكري المباشر في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، ومطالبة الدول العربية بالقيام بدورها هذه المرة، ورغم استدعاء الحديث عن محاور أخرى مكملة: إنسانية، قانونية، مجتمعية إعلامية، فإن البعد الغائب عن التصور الذي طرحه أوباما وغيره هو البعد السياسي والبعد الثقافي.
والمقصود الحلول السياسية للأزمات وعدم الاقتصار على الحل العسكري فقط، سواء بأيدٍ أمريكية عن بعد، أو بأيدٍ عربية على الأرض، ناهيك عن أن التحالف ينعقد مع النظم العربية التي عادت الثورات أو ساندت الثورات المضادة أو انقلبت على الثورات. مما يعني تكريسا للحالة التي قامت ضدها الثورات، بل مساندة لما هو أسوأ والذي تولد عنه موجات “التطرف والعنف” من جديد بعد أن سادت “السلمية” كوجه للتغيير حين اندلاع الثورات 2011.
بل إن التمعن في دوافع الاستنفار للتحالف والمنطق الذي ينبني عليه والسياق الذي يحيط به وتوقيت التدشين له، يبين أن الحلول السياسية، في سوريا أو العراق أو مصر أو ليبيا لا تحوز الاهتمام على الإطلاق بقدر ما يحوز الاستنفار العسكري كما لو كان لسان حاله هو تحويل الانتباه عما هو أسوأ، وخاصة العدوان الإسرائيلي على غزة، والانقلاب في مصر، والثورة المضادة في ليبيا، ومصاعب الانتقال في اليمن.
وعلى نحو يسدل الستار على المقاومة وعلى الثورات الشعبية باعتبارهما سبب البلاء والفوضى التي أفرزت تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها، وعلى نحو يعيد تشكيل الصورة الذهنية لدى المخطوفين ذهنيا من شعوبنا باسم الخوف على الاستقرار والأمن ولو في مقابل الحرية والتغيير.
إن التحالف الدولي-الإقليمي على تنظيم الدولة الإسلامية لا يسقط فقط البعد السياسي المطلوب. مثلا أين المفاوضات بشأن غزة وأين المساعدة الإنسانية لإعادة إعمار غزة؟ أين الضغوط على الانقلاب العسكري بسبب جرائمة ضد حقوق الإنسان؟ أين الحوار الوطني في ليبيا من أجل حل سياسي؟ وأين… وأين…؟ هل جميع هذه الأزمات الممتدة ستظل على قائمة الانتظار حتى تسفر التوازنات على الأرض عما يستوجب التدخل، كما حدث في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية؟ إن هذا لا يعني إلا أن الحلول السياسية لن يفرضها على الأرض إلا الداخل بنفسه… ولكن من الواضح أن السلمية تتراجع أمام بطش النظم المتهاوية بشعوبها الثائرة، سلميا أو عسكريا. والناتو يجد فرصة لتدعيم استراتيجيته الجديدة.
وسيمثل هذا البعد السياسي عائقا أساسيا أمام انعقاد التحالف وعمله، وخاصة من حيث وضع الحكومة الجديدة في العراق وعدم مصداقية تعهداتها التوافقية حتى الآن، وتهاوي ما تبقى من الجيش العراقي… وكذلك من حيث آفاق فرض حل سياسي على نظام بشار إن لم يتحقق سقوطه. ومن هنا مغزى موقف وزير الخارجية الألماني –وهو من قبيل الاستثناء- والذي ذكر بضرورة الحلول السياسية. وإن كان ذلك لم يمنع حكومته من الإنخراط في مسلسل دعم البشمركة عسكريا.
ولذا لا عجب أيضا أن لا يقفز البعد الثقافي الديني في المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية إلى الصدارة مثلما قفز خلال المواجهة مع القاعدة. ومع ذلك فسيظل هذا البعد هو الحاضر الغائب، حيث بدأ يطل برأسه هنا وهناك ولكن على استحياء. لأن القناع قد سقط عن الوجه الحقيقي للاهتمام بهذا البعد. الذي كان يتم توظيفه سياسيا في خدمة البعد العسكري وتبريرا له وليس في خدمة السلام المجتمعي والأهلي لبلداننا أو لخدمة السلام العالمي وحل الأزمات سلميا.
والآن فليس بمقدور التحالف أن يحشد لهذا البعد مرة أخرى. وذلك لاعتبارين أساسيين:
الاعتبار الأول: أن الحوارات المفترضة الآن ليست بين الإسلام والغرب هذه المرة، ولكن فيما بين المسلمين نظما وشعوبا أو بين كافة التيارات والحركات الإسلامية أو بين العلمانين ومن بقى من الإسلاميين السلميين خارج نطاق تهمة الإرهاب.
فإذا كان التمييز بين التيارات السلمية والراديكالية في قلب الحوارات بين الإسلام والغرب منذ 2001، وإذا كان الإسلاميون والعلمانيون العرب شاركوا فيها جنبا إلى جنب، وإذا كان التهديد المزعوم حينئذ كان في قلب مصالح الغرب، وكانت القوة العسكرية الغاشمة تتدخل في أوطاننا بكافة الأشكال ولا يعتبرها بعض من أهلنا تهديدا وخطرا بل رد فعل لما يمثله المتطرفون من تهديد “للحضارة العالمية” وللنموذج الغربي للحياة والمصالح الغربية، إذا كان كل ما سبق صحيحا منذ 2001 فإن الصورة الآن تبدو معكوسة تماما.
فالنظم العربية في عقر دارها هي التي تستشعر التهديد المباشر بالقوة المسلحة (بعد أن أجهضت الثورات السلمية وقمعتها)، ولا تلجأ للحوارات مع معارضيها حول الإسلام أو غيره وخاصة الديمقراطية ولكن تلجأ للقوة العسكرية تحت زعم مواجهة الإرهاب، النظم بمفردها تحتكر الحديث باسم الإسلام، وتدعى أنه لا حامي له (وفق الصورة التي تريدها) إلا هي في مواجهة الثورات التي حملت الفوضى والإرهاب باسم الإسلام، لم يعد الغرب في حاجة للتجمل بعد أن ادعى مساندة الثورات وبعد أن ادعى إدانة الانتهاكات ضد الثوار ومساندة حقوق الإنسان وحريات التعبير.
وبعد أن حدث تحول في أيديولوجية الحركات الراديكالية من محاربة “الشيطان الأكبر وفي عقر داره وفي قلب مصالحه في المنطقة، إلى محاربة الشياطين الأصغر أي حلفاءه من حكام المنطقة، وبعد أن اعتقد العلمانيون، زهوا وافتخارا أجوفاً، أنهم يخوضون المعركة الأخيرة في حرب تصفية الإسلام السياسي الذي يقحم الدين في السياسة. ولا عجب أن هذه المعركة توظف الدين في السياسة بفجاجة غير مسبوقة على معارك العلمانين، ذلك لأنهم يتحالفون مع فاشية عسكرية توظف الدين أيضا، ومع عصابة الفساد والمصالح التي أقحمت الدين أيضا بفجاجة. كما يتحالف مع حليف خارجي درج دائما على توظيف الدين بأكثر من صورة وفي كل مكان وفي سياقات مختلفة (أفغانستان، بولندا، أمريكا اللاتينية خلال تصفية الحرب الباردة في الثمانينيات).
الاعتبار الثاني: إن خبرة استكمال التحالف ثم بداية تنفيذ خطته (إن تم الاتفاق على خطة توزع الأدوار) ستقدم الإجابات أو التأكيدات أو التعديلات على أبعاد التحليل السابق. واستدعي في النهاية على سبيل المثال واقعة واحدة من المؤتمر الصحفي الذي عقده كيري في القاهرة بعد لقائه للسيسي في 13/9/2014. وهي بشأن البعد الثقافي- الديني الذي يغلف الصراع السياسي من الثورات والثورات المضادة وحلفائها على نحو ينوء به كاهل الديمقراطية وحكم القانون. فلقد قال كيري نريد لمصر دورا في معركة الأفكار؛ فالمؤسسات الدينية في مصر وعلى رأسها الأزهر والإفتاء هي القادرة على مواجهة أفكار التطرف والتشدد في المنطقة.
وماذا عن الفكر السلفي الوهابي من عقر دار السعودية ذاتها؟ هل هو من الأفكار المتشددة المتطرفة التي لابد أن يواجهها شيخ الأزهر؟ وماذا عن العلاقة المصرية- السعودية حينئذ؟ أم أن الأزهر سيقيم التوازن اللازم مثلما فعل مع العلمانيين في مواجهة الحركات السياسية الإسلامية؟
هل أضحت مشكلاتنا في مصر والمنطقة لصيقة بالفكر الإسلامي المتطرف والمتشدد؟ وماذا عن العلمانية المتطرفة والفاشية العسكرية المتطرفة وشبكة المصالح الفاسدة؟ لقد انكشفت كل الأقنعة: حرب ضد الثورات السلمية التي قامت من أجل التغيير وحرب ضد الديمقراطية والحريات وحرب ضد “الإسلام”، بأيدي المسلمين بعضهم ضد بعض وكما لم يحدث من قبل.
إنه عصر الطوائف العربية .. فماذا بعد؟

هوامش
[1] تضمنت الكلمة التي ألقيت بالنيابة عن العاهل السعودي في 1/8/2014: التحذير من خطر الإرهاب والجماعات التي تمارسه باسم الدين، والتنبيه إلى المجازر الجماعية المرتكبة في فلسطين، وانتقاد عدم تفاعل المجتمع الدولي بشكل جدي مع فكرة قيام المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، التي طرحتها السعودية في وقت مبكر. انظر: سعود الريس، “خمس رسائل من الملك عبد الله لأطراف متورطة في تمزيق العالم الإسلامي”، الحياة ٢/8/٢٠١٤. على الرابط

وأنظر أيضا: “خادم الحرمين: المتخاذلون سيكونون ضحايا الإرهاب”، الشرق الأوسط 2/8/2014. الرابط
[2]لمزيد من التفاصيل حول حدود هذا التوتر وموضوعاته وطبيعة الاختلافات بين سياستي واشنطن والرياض تجاه الثورات العربية وملفاتها، راجع: مروان قبلان، “العلاقات السعودية- الأمريكية: انفراط عقد التحالف أم إعادة تعريفه؟”، سياسات عربية، العدد 6، يناير 2014، ص 5- 18.
[3] – لمزيد من التفاصيل راجع المصادر الآتية:
– “الكويت وإيران توقعان ست اتفاقيات للتعاون الثنائي، روحاني بعد لقاء الشيخ صباح: لا توجد عوائق في سبيل تعزيز العلاقات.. واستقرار المنطقة لا يتحقق إلا بالتعاون بن دولها”، الشرق الأوسط 2/6/2014. على الرابط
– “دول الخليج تتطلع إلى ترجمة التوجهات الإيرانية لواقع إيجابي، وكيل وزارة الخارجية السعودي: ما تقوم به الكويت يصب في مصلحة دول المجلس”، الشرق الأوسط 3/6/2014. على الرابط
– رأي القدس، “التقارب الكويتي- الإيراني: قمة المأزق السعودي”، القدس العربي 3/6/2014. على الرابط
– “إنشاء شركتين في قطر وإيران لإدارة التبادل التجاري من المنطقة الحرة، طهران توفد مساعد وزير خارجيتها إلى الخليج بعد توقيع اتفاقية اقتصادية مع الدوحة”، الشرق الأوسط 8/7/2014. على الرابط
– منصور المرزوقي البقمي، “دعوة السعودية لإيران: مؤشر ضعف أم دليل قوة؟”، مركز الجزيرة للدراسات 11/7/2014. على الرابط
[4] – راجع بيان قمة الناتو في ويلز، الموقع الرسمي لحلف شمال الأطلسي 5/9/2014. على الرابط
[5] انظر على سبيل المثال: المؤتمرات الصحفية لباراك أوباما، وديفيد كاميرون، وجون كيري، الروابط الآتية:
– President Obama Holds a Press Conference at the NATO Summit, الرابط
– NATO Summit 2014: PM end of summit press conference,الرابط
– Remarks, Secretary of State John Kerry, Wales, United Kingdom, September 5, 2014. الرابط
[6] أنظر: د. نادية مصطفي: “الجديد في الموجه الثانية من التحالف الدولي ضد الإرهاب”، موقع مركز الحضارة للدراسات السياسية. على الرابط.
[7] أنظر: “واشنطن تعين مبعوثا إلى العالم الإسلامي على خلفية تهديدات داعش، وزير الخارجية الأميركي: تصرفات التنظيم “إساءة قبيحة” للدين الإسلامي الذي يحترم كرامة كل البشر”، الشرق الأوسط 5/9/2014. على الرابط.
[8] انظر من إصدارات مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بهذا الصدد ما يلي على سبيل المثال:
– د. نادية مصطفى (محرر)، السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الإسلام والمسلمين: بين الأبعاد السياسية والاستراتيجية والأبعاد الثقافية، القاهرة: برنامج حوار الحضارات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2002.
– د. نادية مصطفى، العلاقات الدولية في الفكر السياسي الإسلامي: الإشكاليات المنهاجية وخريطة النماذج الفكرية ومنظومة المفاهيم، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية ودار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2013.
– د. نادية مصطفى، الديمقراطية العالمية من منظورات غربية ونحو منظور حضاري إسلامي في العلاقات الدولية، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية ودار البشير للثقافة والعلوم، ط2، 2013.
– د. نادية مصطفى، الثورات العربية في النظام الدولي، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية ودار البشير للثقافة والعلوم، 2014.
– علياء وجدي (محرر) أوروبا وحوار الثقافات الأورومتوسطية: نحو رؤية عربية للتفعيل، القاهرة: برنامج حوار الحضارات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2007.
– وسام الضويني (مراجع)، أزمات حوار الثقافات والأديان ، القاهرة: مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2010
– وسام الضويني (محرر)، حوار الأديان: مراجعة وتقويم، القاهرة: مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات ودار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، 2011.
[9]- قام وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بزيارة لتركيا والتقى الرئيس رجب طيب أردوغان، ثم زار كيري مصر والتقى عبد الفتاح السيسي وسامح شكري. كما زار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند العراق في 12/9، تحضيرا لمؤتمر باريس “المؤتمر الدولي بشأن الأمن والسلام في العراق” الذي عقد في 15/9/2014. لمزيد من التفاصيل راجع المصادر الآتية:
– “استقبال فاتر لكيري في أنقرة مع تحفظات تركية على المشاركة في عمليات قتالية، مصدر تركي: ضبط الحدود واستقبال اللاجئين والتسهيلات اللوجستية.. أهم من المشاركة القتالية”، الشرق الأوسط 13/9/2014. على الرابط:
– “كيري: نتفق مع مصر في رؤيتها لمكافحة الإرهاب، أكد أن العلاقات مع القاهرة استراتيجية وإن اختلفنا في بعض الأمور”، الشرق الأوسط 14/9/2014. على الرابط:
– “هولاند: ندعم العراق لأنه يواجه عدوا لا يعترف بالحدود, الرئيس الفرنسي يصل إلى بغداد وكردستان ويعد بضربات جوية ضد داعش.. والعبادي يعتذر رسميا عن عدم مشاركته في مؤتمر باريس”، الشرق الأوسط 13/9/2014. على الرابط:
[10] انظر:
– “مفاوضات القاهرة تنطلق بعد أسبوعين وتبدأ بمواد الإعمار، توصيات إسرائيلية بنشر قوات دولية في غزة.. وحماس ترد بأنها ستعدها قوات احتلال”، الشرق الأوسط 8/9/2014. على الرابط.
– “إسرائيل تشن هجوما على تركيا وتتساءل عن سبب استقبالها مهندس خطف المستوطنين”، الشرق الأوسط 10/9/2014. على الرابط.
[11] أنظر: “تشيني: الإخوان المسلمون مصدر أيديولوجي لجميع الجماعات المتطرفة، نائب الرئيس الأميركي السابق يطالب بضرب إيران”، الشرق الأوسط 11/9/2014. على الرابط.

* مديرة مركز الحضارة للدراسات السياسية‏/”المركز الدبلوماسي”

اقرأ أيضا

تونس

تونس.. خبراء في القانون يطالبون بالإفراج عن معارضين سياسيين يوجدون في حالة احتجاز قسري

يستنكر سياسيون وحقوقيون تزايد اعتقال المعارضين والصحافيين والتضييق على حرية التعبير في تونس، منذ تولي الرئيس قيس سعيد السلطة.

تونس ليبيا الجزائر

بعد أن أقبرت مناورته.. النظام الجزائري يدعي أن التكتل الثلاثي “ليس موجها ضد أي طرف”

بعد أن أقبرت كل من موريتانيا وليبيا المناورة الخبيثة للنظام العسكري الحاكم في الجارة الشرقية، التي كان يسعى من خلالها خلق "تكتل مغاربي"، يستثني المملكة، في محاولة يائسة لعزلها عن محيطها الإقليمي،

الجزائر وتونس

مرصد حقوقي تونسي.. دبلوماسية قيس سعيد فقدت بوصلتها بتنفيذها للأجندة الجزائرية

انتقد ائتلاف صمود بتونس (تكتل واسع يضم خبراء وحقوقيين وجمعيات في المجتمع المدني)، على لسان منسقه العام، المحامي حسام الحامي، اللقاء الأخير، الذي جمع الرئيس قيس سعيد بنظيريه الجزائري والليبي،

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *