الرئيسية / وجهات نظر / إسبانيا.. قطبية حزبية مغايرة بين اليمين التقليدي واليسار الفوضوي؟
بوديموس

إسبانيا.. قطبية حزبية مغايرة بين اليمين التقليدي واليسار الفوضوي؟

تتجه إسبانيا، بما يشبه اليقين إلى قطبية حزبية  أخرى مغايرة،بين اليمين المحافظ واليسار الجديد الأخذ في التشكل منذ اقتحام حركة “بوديموس” الساحة السياسية كفاعل معبرعن رغبة عميقة في التغيير لدى القوى الصاعدة وقطاعات عريضة من المجتمع الإسباني، تضررت من سياسات اليمين مثلما صدمتها  تداعيات الأزمة التي تسبب فيها  الحزب الاشتراكي العمالي،وهو الضمير التاريخي لليسارالإسباني على مدى أكثر من قرن.

وبات من الواضح وفق استطلاعات رأي متوافقة أن الانتخابات التشريعية المقبلة،ستضعف الاشتراكيين، أمام القوة المزاحمة لهم؛ تلك التي ترعرعت في ساحات الاحتجاج وانتشرت كالنار في الهشيم  في شبكات التواصل الاجتماعي؛مستغلة حيوية واندفاع  الشباب ويأسهم أيضا وعدم مبالاتهم بالتضحيات التي أسداها الاشتراكيون لبلادهم، أثناء مقاومة حكم الديكتاتور”فرانكو”  وبعد رحيله لما انخرطوا بقوة وأمل  في التوجه الديمقراطي المعلن من قبل الملك “خوان كارلوس” وضعوا يدهم في يده وتعاونوا مع قوى أخرى من أجل إنجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي والتأسيس لنظام ملكية برلمانية،توافقت المكونات السياسية على هيكلتها وحدد الدستور آليات اشتغالها.

وسط ذلك الخضم، نجح السياسيون المدنيون والعسكريون المعتدلون في إقناع القوات المسلحة بفضيلة المرابطة في ثكناتها،بمنأى عن الخوض في غمار السياسة، كي لا تتكرر مآسي الحرب الأهلية.

ولا يمكن لمحلل موضوعي القفز على الانجازات الهامة التي حققتها حكومات الاشتراكيين؛ فقد نقلوا بلادهم من مخلفات حكم استبدادي منغلق ووضعوها على نفس الطريق الذي سلكته الديمقراطيات الغربية ثم  مكنوا إسبانيا من قاعدة صناعية وبنيات إنتاجية حديثة، توسعت معها الطبقة المتوسطة وازدهر اقتصاد السوق في عقد الثمانينيات.

انضمت إسبانيا في عهدهم  إلى الى الحلف الأطلسي وصارت عضوا في الأسرة الأوروبية ،مستفيدة من سخائها المالي دعما للعهد الديمقراطي الوافد، ما أتاح  عقودا من الرخاء ورغد العيش  تمتع بها  الإسبان خلال الولايات الحكومية الثلاث للزعيم الاشتراكي”فيلبي غونثاليث”(حوالي 12 سنة) مهدت الطريق للحزب الشعبي، لجني ثمار الإصلاحات التي باشرها الاشتراكيون قبل نضجها الكامل.

لم تعايش الأجيال الراهنة  ذلك الماضي الاشتراكي  المجيد ولا تحس أنها مدينة للحزب بشيء. يهمهم الحاضر والمستقبل، فلا غرابة إن  حملوا الاشتراكيين  صراحة  مسؤولية الأزمة المالية غير المسبوقة التي انفجرت خلال حكومة، خوصي لويس ثباطيرو، مجبرة إياه  على التنحي عن السلطة وزعامة الحزب، تاركا القارب غائصة في بحر الأزمة.

ومن مفارقات السياسة أن خليفة “ثباطيرو” على رأس الأمانة العامة للحزب ووزير داخليته “الفريدو روبالكابا” وهو اشتراكي مخضرم، حقق في استحقاقات 2011 نتائج أفضل من تلك التي كسبها الأمين العام الحالي، الشاب، بيدرو سانشيث،  بينما تصدر الحزب الشعبي بزعامة “ماريانو راخوي” الواجهة الحزبية دون الظفر بالأغلبية المفقودة في مجلس النواب، غير أن خسارته كانت أخف  مقارنة بنكسة الاشتراكيين.

لم تضع انتخابات العشرين من ديسمبر 2015 حدا نهائيا  للقطبية الحزبية بين الكتلتين المتعارضتين: الشعبي المحافظ والاشتراكي اليساري المعتدل بل استبدلتها بمشهد مختلف. تراجع الحزبان  في التشريعيات الأخيرة، إنما كان بإمكانهما، لو اتفقا وأرادا، تشكيل تحالف مريح رغم فقدان الاشتراكي لموقعه الوازن في اللعبة  السياسية.

سيفيق الاشتراكي العمالي، صباح السابع والعشرين من الشهر الجاري  مرتبا الثالث في مجلس النواب المقبل بعد “بوديموس”. سيواجه احتمالين أحلاهما مر: إما التحالف مع هؤلاء وفصائل اليسار المتطرف والقومي، مع ما يحمله ذلك من أخطار عليه وعلى البلاد؛ أو الاصطفاف في معارضة الحزب الشعبي استمرارا لما  كان عليه الحال في السنوات الأربع الأخيرة …

وإذا تحققت توقعات استطلاعات الرأي، فستحدث صدمة عميقة في الاشتراكيين واليسار المعتدل عموما. هل يعني هذا “الانقلاب” في المشهد الحزبي أن الفكر الاشتراكي الديمقراطي فقد بريقه وقدرته على استقطاب الأنصار والمتعاطفين وبالتالي فقد اخلي الساحة لليسار الفوضوي؟

قد لا يكون الأمر صحيحا،بدليل أن كثيرا من  الناخبين الذين  مالوا بأصواتهم نحو اليسار الجديد هم في الحقيقة زبناء الحزب الاشتراكي الناقمون، معتقدين أنهم وجدوا ضالتهم في يسار حربائي لا يرى حرجا في تقديم نفسه تحت يافطات متعددة :اجتماعي وتشاركي، ورومانسي ثوري، جمهوري،  رافض للمؤسسات العتيقة ولما يسميه حكم”الطوائف”..

هذا اليسار القزحي، نجح في تقوية صفوفه بالمراهنة على  بقايا  الحزب الشيوعي، بمسماه الجديد “اليسار الموحد” ناسيا كل إساءات “بوديموس” وسخريته من قادته ومناضليه إلى وقت قريب.

لماذا عقد “اليسار الموحد وبوديموس” تحالفا شيطانيا؟ لا شيء يشرح ذلك ويبرره أكثر من الرغبة المشتركة  لزعيميه في توجيه ضربة ثأر للاشتراكيين الذين طالما استحوذوا على ساحات اليسار في إسبانيا، كي لا يرفعوا رأسهم ثانية.هل سينجح  تنظيمان بشعارات متعارضة:المطرقة والمنجل في يد اليسار الموحد، والابتسامة  العريضة على وجوه أتباع بابلو إيغليسياس. وهل ستمر التآلف بينهما؟

محللون يرون أن ليس من السهل طمس التراث النضالي للاشتراكيين ومحوه من المجتمع الإسباني.”خلفاؤهم” المتحركون في الميدان يمينا ويسارا، ليسوا قادرين على الاستخلاف. قد يكونون مجرد موجة عابرة  اجتاحت المجتمع في فترة الأزمة، بينما ظل حوالي نصفه مشدودا إلى الفكر اليميني بوجهيه التقليدي والليبرالي رغم حملة التشهير التي طالت  ممثليه  أي الحزب الشعبي وثيودادانوس.

كيف نجح “بوديموس” في إحداث شرخ في المعسكر الاشتراكي المعتدل  وأغرى مكونات  اليسار الشيوعي بالركض وراءه  نحو وجهة مجهولة؟

إجابات وتأويلات كثيرة ترددت أخيرا في الصحافة الإسبانية.وقفت عند مسألتين أساسيتين: رغبة الشعب في التغيير وافتقاد الزعامة الكاريزمية بين قادة الحزب الاشتراكي.

لم يوفق الأمين العام الحالي في الاضطلاع  بدور القائد التاريخي الجامع والمخلص،فصار عبئا على حزبه وعلى مستقبله الشخصي. فقد وضعته الأقدار ليقود السفينة الاشتراكية المترنحة وليس له من التجربة والدهاء وتأييد كافة التيارات في حزبه  بما يمكنه من خوض المعارك  في واجهات متعددة ومقارعة خصوم شرسين.

” بيدرو سانشيث” جديد على الميدان.وصل للأمانة العامة بصورة فاجأت كثيرين في حزبه. لم يتوقعوا وهم ينتخبون أستاذ الاقتصاد،أن حربا ضروسا   تنتظرهم  مع “بوديموس” هؤلاء استعملوا كل الأساليب الشعبوية لاستمالة الناخبين الغاضبين على الاشتراكيين وسياساتهم، من كل حدب وصوب.

يصعب التكهن بمستقبل باسم للاشتراكيين وخصوصا أمينهم العام الحالي الذي اعترف شخصيا بفتور في  القاعدة الانتخابية الاشتراكية وعدم حماستها لاقتراع السادس والعشرين من الشهر الجاري وكأنه يمهد لانسحابه المبكر.

سجن، بيدرو سانشيث، نفسه في أقفاص كثيرة :حرم على نفسه المشاركة في حكومة يرأسها “ماريانو راخوي” ووضع الفيتو  القاطع على اسمه. رفض الخضوع  لابتزاز ومناورات “بوديموس” في جولات المشاورات التي أعقبت نتائج 20 ديسمبر؛ وأخفق  في مد جسور المودة مع  حزب “اليسار الموحد” وفيه تيارات أكثر استعدادا للتعاون مع الاشتراكيين. أوقف المحاولة وترك  الطريق سالكة لأمينه العام “ألبرتو غارثون” ليظهر أجندته الخاصة وتحقيق  مطامحه الشخصية ولو اضطره ذلك  لتفويت  ما تبقى من  الأصل التجاري الشيوعي  لتنظيم “بابلو إيغليسياس” باختصار انقلب الجميع على “سانشيث”

ليس أمام  الزعيم الاشتراكي خلاص من الورطة التاريخية سوى رفع يديه بالدعاء  إلى السماء،علها تهدي الناخبين ليكونوا رحيمين به.

دخلت إسبانيا في أتون أزمة عاصفة. ولربما هي بصدد تدشين فترة انتقال أخرى، قد تطول وقد تقصر، فالشعوب الحية لا تفقد القدرة  علىالخروج من الامتحان مهما اشتدت  الظروف، وأظلمت ااسبل.

يكفي إسبانيا  أن الحراك والتدافع السياسي غير المسبوق الذي تعيشه،يمر في أجواء سلمية دون عنف بالتزامن  مع مؤشرات  انتعاش اقتصادي نسبي وتراجع في  منحنى البطالة.هذا يعني ان البلاد مستقرة  رغم كل الضوضاء.

وما دام الفاعلون الحزبيون أكدوا على حاجة البلاد إلى حكومة، فإنهم لن يرغموا الناخبين على التوجه للمرة الثالثة لصناديق الاقتراع. وعلى افتراض انتصار الشعبوية، فإن عمرها سيكون قصيرا.

وإذن فالحكومة الجديدة قادمة لا محالة بعد السادس والعشرين من الشهر السادس. إنما بأي لون وفي ظل أي تحالف حزبي  وما مدة صلاحيتها؟

لا تستعجلوا الجواب ونتائج مباراة شعب يعشق فرجة كرة القدم ولا يتألم للدماء النازفة من الثيران ومصارعيهم؟