لا تنحصر عومل فشل استراتيجية بوتين في خطته التفاوضية بفيينا، بل تتعدى إلى الشروط التي اعتقد أنه تمكَّن من توفيرها لإنجاح خطته، وهي إقناع مختلف القوى الفاعلة في الأزمة بأهداف مشتركة، وبقبول تدخله العسكري المباشر الذي يعيد ترجيح كفة النظام في موازين القوى العسكرية. فالأهداف تعاني من تناقضات تعمِّق التباعد بين أطراف الأزمة بدلًا من التقريب بينهم، ولا تمتلك روسيا القوة الكافية لفرض ميزان قوى جديد لا يستطيع خصومها تغييره، ويقوِّي تدخلها العسكري تنظيمَ الدولة فيفاقم المخاطر التي وعدت بالقضاء عليها.
انعقد اللقاء الثاني حول الأزمة السورية بفيينا وحضرته كل الدول التي شاركت في اللقاء الأول إلى جانب إيران. اتفق المشاركون في لقاء فيينا الأول، المنعقد في 30 سبتمبر/ أيلول، على دعوة الأمم المتحدة إلى جمع النظام السوري والمعارضة حول طاولة حوار، من أجل إطلاق عملية سياسية تقود إلى تشكيل حكومة جديرة بالثقة وغير طائفية ولا تقصي أحدًا، تتكفل بوضع دستور جديد، وتنظيم انتخابات تحدِّد شكل النظام السوري الجديد.
نجحت روسيا في إقناع خصومها بأن التوافق على آليات الحل، يؤدي إلى إنشاء جو من الثقة يُسهل التوصل إلى تسوية سياسية، فأعفت نفسها من التفاوض الجاد على المضمون الحقيقي للأزمة، وهو: مستقبل الأسد، ومصدر السلطة الجديد، ومستقبل النفوذين الروسي والإيراني في البلد. فما هي مثلًا علاقة هذه الحكومة مع الأسد: هل تخضع له أم أنها تتمتع بصلاحياته؟ وما سلطتها وأدواتها في تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة تعبِّر عن خيارات السوريين؟ ما علاقتها بالأجهزة الأمنية الموالية للأسد؟ وما مستقبل القوات الإيرانية والموالية لها؟ وما مستقبل الوجود العسكري الروسي؟
حصدت من هذا الاجتماع أول المكاسب السياسية لتدخلها العسكري المباشر في سوريا، فلقد فرضت لأول مرة مشاركة حليفها الإيراني في التفاوض، ومنعت مشاركة المعارضة السورية، ووضعت أسسًا للحل السياسي، وإن كانت فضفاضة، لا تضع رحيل الأسد ورحيل القوات الروسية والإيرانية شرطًا مسبقًا للتسوية السياسية، وباتت تفاوض، من موقع الندية، الولايات المتحدة، على أهم قضية قد تعيد صياغة نظام الشرق الأوسط بكامله.
تمكَّنت من تحقيق هذا الإنجاز لأن تدخلها العسكري أعطى انطباعًا بأنها قادرة على حماية النظام من السقوط ومنع أية تسوية لا ترضاها، أو إقناع حلفائها بتقديم التنازلات الضرورية لعقد صفقة سياسية تضمن مصالحهم الحيوية. لكن تعرضت لنكستين، بعد أكثر من شهر بقليل من الاجتماع الأول، ستجعلان موقفها أضعف في اجتماع فيينا الثاني:
أولًا: نجح تنظيم الدولة بمصر، حسب ترجيح دول غربية، في تفجير طائرة ركاب روسية، فأظهر أن موسكو التي تعجز عن حماية مواطنيها ستكون أعجز عن حماية مواطني البلدان الأخرى، وأنه قادر على منازلتها في السماء التي اعتقدت أنها تسيطر عليها، وأن يفرض عليها مواجهة شاملة كانت تريد حصرها داخل الحدود السورية.
ثانيًا: لم يستبعد وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، أن تكون روسيا أخطر من تنظيم الدولة، وهو يعبِّر بلا شك عن تحول متدرج في موقف إدارته من الدعوة إلى التعاون بين البلدين لقتال التنظيم، إلى التشكيك في جدوى التدخل الروسي المباشر بسوريا، إلى إعطاء الأولوية للتصدي له.
يتضافر التحولان في التشكيك بجدوى انعقاد لقاء فيينا الثاني، وضرب المكاسب التي حققتها روسيا في جولته الأولى، وتفجير التناقضات بين أطرافه ومضامينه.
لا تنحصر عومل الفشل في الاستراتيجية التفاوضية المتبعة، بل تتعدى إلى الشروط التي اعتقد الرئيس بوتين أنه تمكَّن من توفيرها لإنجاح خطته، وهي إقناع مختلف القوى الفاعلة في الأزمة بأهداف مشتركة، وبقبول تدخله العسكري المباشر الذي يعيد ترجيح كفة النظام في موازين القوى العسكرية. فالأهداف تعاني من تناقضات تعمِّق التباعد بين أطراف الأزمة بدلًا من التقريب بينهم، ولا تمتلك روسيا القوة الكافية لفرض ميزان قوى جديد لا يستطيع خصومها تغييره، ويقوِّي تدخلها العسكري تنظيمَ الدولة فيفاقم المخاطر التي وعدت بالقضاء عليها.
أهداف متضاربة
يتضمن خطاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمام الأمم المتحدة، في 28 سبتمبر/أيلول، مجمل أهدافه من التدخل العسكري المباشر في سوريا، لكنه توسع بعد ذلك في تفصيلها في لقاءت إعلامية مختلفة، ويمكن تصنيفها إلى أهداف تكتيكية وأهداف استراتيجية:
القضاء على تنظيم الدولة والجماعات التي تصنِّفها روسيا إرهابية، وهي تقريبًا كل الجماعات السنِّية المسلحة التي تناهض روسيا وحلفاءها.
وراء هذا الهدف التكتيكي، تريد روسيا تحقيق عدَّة أهداف استراتيجية، أحدها داخلي، وهو استباق أي تنامٍ للتمرد المسلح داخل الأقلية المسلمة في روسيا، والتي تمثِّل تحديًا جديًّا في المستقبل القريب، لأن حجمها الذي يبلغ حاليًا نحو 20 بالمئة، يزداد بسرعة أعلى من الأكثرية الأرثوذكسية، وستزداد ضغوطها على النظام الروسي ليوسِّع مشاركتها في السلطة، ويجعل قيمها جزءًا من الهوية الروسية، التي تكاد تنحصر حاليًا في اللغة والمسيحية الأرثوذكسية والحنين للعظمة الإمبراطورية، ولا تعطي مكانًا للقيم الإسلامية.
الهدف الاستراتيجي الآخر، لعب دور الحامي من خطر تنظيم الدولة لعدد كبير من الدول بأوروبا والشرق الأوسط وآسيا، مقابل اعترافها بروسيا قوة دولية لا غنى عنها في إدارة النظام العالمي.
الهدف التكتيكي الثاني: الحفاظ على نظام الأسد.
توجد خلفه عدة أهداف استراتيجية:
منع أي تغيير ثوري، حتى لا يتكرر ما وقع في بداية التسعينات بجوار روسيا، في ما يسمى بالثورات الملونة، والتي سمحت للغرب بتوسيع نفوذه تحت شعارات نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق.
ترسيخ هيبة روسيا كحليف يمكن الاعتماد عليه، حيث وقفت إلى جانب النظام السوري سياسيًّا، باستعمال حق النقض لحمايته، وعسكريًّا، بإمداده بالسلاح والقتال إلى جانبه حينما اقتضت الحاجة. بخلاف الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي تخلَّى عن حلفاء أميركا من القادة العرب الذين أسقطتهم الثورات، ثم تخلَّى عن الثورات التي وعد بدعمها لما تصدت لها قوى الثورة المضادة، فخسر الأنظمة السابقة ولم يربح القوى الثورية.
حِفْظ منافذ الأسطول الروسي نحو البحر الأبيض المتوسط، يحقِّق هدفين: ضمان حركة القوات الروسية نحو مختلف مناطق العالم، فتحظى تعهداتها بدعم الحلفاء بالمصداقية، وهي شرط لأية قوة تتطلع للعب دور دولي. ومن جهة أخرى، يضع تركيا، العضو في الحلف الأطلسي، بين فكي كماشة يمزقان قواتها بين حماية الحدود الشمالية وحماية الحدود الجنوبية.
المدخل الخطأ والحصان الخاسر
يرتكز بوتين في خطته على قاعدتين: أولًا: إقناع القوى المتصارعة على سوريا بالتعاون لمواجهة خطر تنظيم الدولة المشترك، ثم بضرورة التسليم بأن نظام الأسد ضروري للتصدي له.
اعتقد بوتين بأن هدف مكافحة التنظيمات “الإرهابية”، الذي يُعد محل إجماع دولي، يسهل تمرير أهدافه وأهداف حلفائه الخاصة التي تُعد محل خلاف مع خصومه، مثل تصوير تنامي التواجد العسكري الروسي بأنه ضروري للإبقاء على نظام الأسد باعتباره القوة الشرعية الوحيدة القادرة على تخليص الجميع من الخطر المشترك. لكن هذه التركيبة لا تحظى بقبول الأطراف المناوئة التي تبني مواقفها بناء على النتائج المترتبة على قتال الجماعات “الإرهابية” وتنظيم الدولة، فمثلًا ترفض الولايات المتحدة الانخراط الكامل في أي قتال يقوِّي الميليشيات الشيعية وإحكام سيطرتها على الحكم بالعراق، وترفض تركيا المشاركة في أي قتال يقوِّي الانفصاليين الأكراد الذين تعتبرهم الخطر الرئيسي على أمنها. وتمتنع السعودية عن خوض أية مواجهة مسلحة تقوِّي من نفوذ إيران والميليشيات الشيعية الموالية.
تواجهه أيضًا صعوبتان في إقناعهم بضرورة الحفاظ على حليفه السوري:
الأولى: تعتقد دول عربية وغربية أن نظام الأسد أخطر من التنظيمات الإرهابية.
والثانية: يفتقد للقوة العسكرية الضرورية لإنجاح خطته، التي تعتمد بشكل رئيسي لحدِّ الآن على القصف الجوي، حيث لا يمكنه تحقيق نتائج لم تحققها 7000 غارة شنَّها طيران التحالف بقيادة أميركا، خلال نحو عام، على تنظيم الدولة في العراق، علاوة على أن سلاحه الجوي أقل كفاءة، لأنه يعاني من صعوبة التموين لابتعاده عن قاعدته الرئيسية بالبحر الأسود، ويضطر إلى قطع مسافات طويلة عبر إيران والعراق للوصول إلى سوريا، ولا يمتلك التقنيات المتطورة الكافية لتوجيه المقذوفات، وتنقصه المعلومات الاستخبارية الضرورية لتحديد الأهداف. وتدل تجارب الحروب السابقة على عجز سلاح الطيران عن حسم المعارك إذا لم يستند إلى قوات برية تقاتل على الأرض، ولا تعد حرب البوسنة استثناء، فمع أن الشائع أن طيران الحلف الأطلسي حسم المعركة من الجو، إلا أن الحقيقة بخلاف ذلك، فالعامل الحاسم كان سياسيًّا وليس عسكريًّا.
قد يعتمد السلاح الجوي الروسي على قوات نظام الأسد البرية والقوات الإيرانية والفصائل الموالية لها، لكن نجاحه في كسب الحرب ليس محسومًا، بل قد يعد انخراطه في القتال المباشر، اعترافًا من الكرملين بفشل الجيش النظامي السوري، ثم قوات حزب الله والميليشيات الإيرانية، ولن يكون الدعم الجوي، الذي لم يفتقدوه بشكل عام، عاملًا كافيًا لنجاحهم فيما أخفقوا فيه خلال السنوات الماضية.
لا تعاني موسكو من ضعف في الجانب العملياتي وحسب، بل من اختلالات في الاستراتيجية الشاملة المعتمدة، فهي تسعى إلى تطبيق استراتيجية غير تناظرية في سياق مختلف عن السياق الذي ساعد، من قبل، على نجاحها. ففي حملتيها العسكريتين بجورجيا وأوكرانيا، استعملت الرابط اللغوي لتشكيل جماعات متمردة موالية، ثم أعانتها للاستيلاء على مناطق محاذية لروسيا، وحرصت على أن تظل جزءًا من استراتيجيتها، تستعملها كأداة ابتزاز لدول الجوار التي ترفض هيمنتها. وقد كانت هذه الاستراتيجية فعَّالة إلى حدٍّ ما، في الحالتين الجورجية والأوكرانية، لأن المتمردين الموالين واجهوا دولًا تحرص على بقائها والسيطرة على إقليمها، وترضى، في بعض الأحيان، بخسائر جزئية، لكن الوضع في سوريا مختلف، فروسيا تقف إلى جانب النظام في مواجهة المعارضة المسلحة، ولا يمكنها ابتزازهم باقتطاع جزء من إدلب مثلًا أو حمص أو حلب لتغيير سياساتهم، بل إن حليفها، النظام السوري، هو الذي يعاني من الابتزاز، لأن حفاظه على وحدة الإقليم والسيطرة عليه أساس شرعيته الدولية، وأي خسارة لجزء منهما طعن فيها.
والملاحَظ، أن إيران تعتمد نفس الاستراتيجية وتواجه المعضلة نفسها، فلقد شكَّلت جماعات مسلحة موالية ترتبط في الغالب معها برباط أيديولوجي، ثم تشجعها على رفض الوضع السائد وتغييره لتكون متحكمة في الدولة أو تملك القدرة على شلِّها، وقد حققت نجاحات حين كانت تعارض السلطة القائمة، كما في لبنان، لكنها فشلت، لما تحوَّل حلفاؤها إلى سلطة بديلة، كما في العراق واليمن، أو مدافعين عن سلطة قائمة كما في دفاع حزب الله وفيلق القدس عن نظام الأسد.
تُخالف الدولتان أيضًا، مبدأ استراتيجيًّا مهمًّا، هو الامتناع عن تشتيت الجهد وتركيزه على مركز جاذبية الخصم، لكنهما وزَّعا قواتهما على عدة جبهات، فروسيا شتَّتت قواتها على ثلاث جبهات: الجورجية، والأوكرانية، والسورية، وقد اضطرت مثلًا إلى القبول بهدنة مع أوكرانيا حتى تتمكن من تخصيص قوات تخوض القتال في الجبهة السورية، وقد تفقد توازنها في أية لحظة لو اشتعلت الجبهات الثلاثة معًا، فتضطر إلى الموازنة بينها، وإعطاء الأولوية دون شك للجبهات المحاذية لها، والمخاطرة بخسران الحرب في سوريا.
وضع إيران مماثل، حيث تخوض قتالًا، في العراق، وسوريا، وتحرص على دعم الحوثيين في اليمن، وقد استنزف تعدد الجبهات وطول القتال قواتها، فخسرت مؤخرًا عددًا من قادة الصف الأول في معركها بسوريا، وقد تتفاقم مستقبلًا المخاطر المهددة لأمنها القومي، إذا تمكَّنت طالبان، كما هو مرجَّح، من السيطرة على أفغانستان، فتقع في مأزق الاختيار بين توجيه قواتها لحماية حدودها الشرقية من خطرهم، أو تركيزها على الجبهة الغربية لحمايتها من تنظيم الدولة، ومن تداعيات أي سقوط مفاجئ لنظام الأسد.
قد تحرص الدولتان على تفادي هذا الكابوس بالسعي إلى تحقيق نصر سريع في الجبهة السورية لتوجيه قواتهما إلى جبهات أخرى، لكنهما لا تسيطران على الوقت، بل تسيطر عليه المعارضة السورية المسلحة التي لا تمتلك خيارًا آخر غير الاستمرار في القتال، مهما طال، لأنها لا تمتلك وطنًا آخر ترحل إليه.
تمدد عسكري وانكماش اقتصادي
يستطيع الاقتصاد الروسي تحمُّل الحملة العسكرية في سوريا، بمستواها الحالي، لفترة طويلة، حسب وحدة الإيكونوميست للأبحاث، التي قدَّرت أعباءها، استنادًا لعدة دراسات مختصة، بين 1.5 مليار إلى 2 مليار دولار سنويًّا، لكن ستضغط عدة عوامل مستقبلًا على روسيا فتضطرها إلى زيادة انخراطها، مثل فشل القوات البرية المشتركة للنظام وإيران وأعوانهما في وقف تقدم قوات المعارضة المسلحة، وانكشاف القواعد الروسية أمام القصف أو الهجمات البرية، فترتفع تكلفة الحرب ارتفاع كبيرًا، لأن موسكو ستضطر إلى استعمال قواتها ببحر قزوين لإطلاق مزيد من الصواريخ الموجَّهة، التي تبلغ تكلفة كل منها 36 مليون دولار، أو تقرر اضافة قوات جديدة إلى 4000 جندي متواجدين حاليًا بقواعدها في سوريا.
ليست تلك التكاليف، مهما ارتفعت، إلا جزءًا بسيطًا من تداعيات العزلة التي ستفرضها الدول المناوئة للتدخل على الاقتصاد الروسي. مثلما كانت أضرار الاقتصاد الروسي من العقوبات الغربية أكبر من تكاليف حملة احتلال القرم. فمن المرجح، أيضًا، أن تتخذ الدول المناوئة للتدخل الروسي المباشر في سوريا حزمة من العقوبات الاقتصادية، قد تكون معلنة، أو قد تكون غير معلنة، مثل حرص السعودية على إبقاء أسعار النفط منخفضة، وتحركها لأخذ حصة من سوق الطاقة ببولندا، التي تعد سوقا للطاقة الروسية، وقد اعتبرت مجموعة بلومبرغ المختصة في الشأن الاقتصادي هذا التحرك جزءًا من استراتيجية سعودية تتوخى دعم الدول التي توجد بجوار روسيا وتناهض هيمنتها، وتصدت في السابق للاتحاد السوفيتي الذي يحنُّ بوتين إلى أمجاده.
ليس من المستبعد أيضًا أن تتصدى الدول الغربية لاستراتيجية بوتين الشاملة باستراتيجية عقوبات اقتصادية شاملة، فتتفق مع السعودية وتركيا وقطر على تبنِّي استراتيجية موحدة، تستنزف الاقتصاد الروسي، حتى يضطر الكرملين إلى التخلي عن أحلامه الإمبراطورية مقابل الانتفاع من فرص السوق العالمية. وقد أثبتت عدة تجارب تاريخية، مثل إيران مؤخرًا، أو الاتحاد السوفيتي سابقًا، أو الصين في عهد دنغ شياو بنغ، أنها تميل إلى الخيار الثاني.
يفتقر بوتين، في المحصلة، إلى الموارد الاقتصادية الضرورية لتمويل حملات عسكرية واسعة وطويلة الأمد، لأنه يواجه أوضاعًا اقتصادية غير مواتية، فسعر البترول يتأرجح حاليًا حول 50 دولارًا، فتفقد روسيا توازناتها المالية، التي تستند إلى سعر 105 دولارات للبرميل حتى تستطيع مداخيلها تغطية مصروفاتها في سنة 2015، حسب بيانات عدد من المؤسسات المالية.
تتضافر عدة عوامل على مفاقمة هذا الاختلال مستقبلًا:
رجحان تأرجح أسعار البترول حول 60 دولارًا خلال عشر سنوات قادمة، حسب الخبير الاقتصادي نوريال روبيني، فتظل الخزانة الروسية تعاني من العجز في توفير الموارد المالية لتغطية مصروفات الدولة.
رجحان استمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا نتيجة احتلالها لجزيرة القرم، ورعايتها لحركة انفصالية بشرق أوكرانيا. واحتمال أن تتعزز بإجراءت عقابية اقتصادية تتخذها السعودية وقطر وقد تشاركهما تركيا، ولكن بدرجة أقل، لأن اعتمادها على الطاقة الروسية، لإشباع خُمس حاجاتها الاقتصادية يحد من خياراتها.
ارتفاع المصروفات الحكومية، من أجل الاستيراد، والدعم الاجتماعي، والتوسع في تحديث المؤسسة العسكرية.
قد تعالج الحكومة الروسية الخلل الناتج في الموازنة باستعمال الحتياطي المالي، لكنه سينضب، حسب الخبير الاقتصادي أندرس أسلوند، نهاية العام القادم 2016، فتضطر إلى الاستدانة، لكن العقوبات الاقتصادية الغربية تحرمها من الوصول إلى الأسواق المالية الخارجية، فتلجأ إلى تخفيض النفقات، فتتردى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وقد تضطرب الأوضاع الداخلية، فتفقد القيادة الروسية التماسك الداخلي الضروري لحروبها الخارجية.
يواجه حينها بوتين نفس المعضلة التي واجهها الاتحاد السوفيتي في المفاضلة بين الزبدة والسلاح، أي الاختيار بين التنمية الاقتصادية والمجد الإمبراطوري، لكنه يعرف هذه المرة تبعات كل خيار، فقد أدَّى تجاهل أثمان المجد الإمبراطوري إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، وأدَّى خيار التنمية الاقتصادية إلى رفع الصين من مصاف العالم الثالث إلى الأول، وجعلها قاطرة العالم الاقتصادية، ووفَّر مزيدًا من الموارد لتطوير قواتها العسكرية.
مفاقمة المخاطر
منح التدخل الروسي المباشر تنظيم الدولة فرصة لعب دور حامي المسلمين السنَّة الذي كان يتطلع إليه، فنجح، بفضل فرعه في سيناء، في تفجير طائرة الركاب الروسية، كما ترجِّح عدة دول غربية، فأظهر أنه القادر على تكبيد بوتين خسائر بشرية تضطره إلى القبول بتنازلات، مثل إجلاء مواطنيه من مصر وتعليق الرحلات المتجهة إليها، حتى لا تنهار شرعيته الداخلية. ومن المرجح، أن يؤدي نجاح هذه العملية إلى التحاق أعداد جديدة من المقاتلين بتنظيم الدولة، فيحرص على تكرارها، والسعي إلى نقلها إلى داخل روسيا لضرب هيبة بوتين بإظهاره عاجزًا حتى عن حماية بلاده.
تقوِّي هذا الاتجاه عدَّة عوامل متضافرة:
لم تكن موسكو جدية أبدًا في قتال التنظيم، حيث رفضت المشاركة مع قوات التحالف التي شرعت منذ عام في قتاله بقاعدته الرئيسية بالعراق، التي تعد أهم من فرعه في سوريا، وأقل تعقيدًا، لأن النظام العراقي، بخلاف السوري، يحظى بقبول الجميع، ولا يسعى أي طرف لإسقاطه.
يركِّز طيرانها قصفه بشكل رئيسي على المعارضة المسلحة، التي تُصنَّف في معظمها بالمعتدلة، ويشارك بعضها في برامج التدريب الأميركية، وقد يكون ينفذ خطة تمليها اعتبارات استراتيجية وسياسية، فالمعارضة المسلحة المعتدلة تمثِّل خطرًا داهمًا على النظام السوري لأنها تضغط على مراكزه الحيوية، وتمثِّل بديلًا سياسيًّا له، وشريكًا للقوى الغربية، لكن نجاحه في إضعافها لن يكون مكسبًا للأسد بل قد يصب في مصلحة تنظيم الدولة، كما حدث في ريف حلب، حيث استولى على مواقع خسرتها المعارضة السورية المعتدلة.
دلَّت التجربة أيضًا على أن القضاء على جماعات المعارضة المعتدلة يدفع قطاعات واسعة من السوريين، الذين كانوا تحت حمايتها، ليس إلى الرضوخ للنظام، بل إلى البحث عن حام جديد، قد تجده كما حدث في العراق في تنظيم الدولة، الذي انضمت له عشائر سنِّية لطرد القوات العراقية من الموصل، فوفرت له حاضنة شعبية، تمنحه عُمقًا اجتماعيًّا يرسِّخ وجوده. وقد اعترف باراك أوباما بوجود هذا الرابط، ودعا إلى كسره بتلبية تطلعات المتذمرين الاجتماعية والسياسية.
تضفي روسيا صفة “الإرهاب” على كل معارضيها حتى تنزع عن المعتدلين أي شرعية سياسية، فتسد آفاق الحل السياسي أمامهم، فلا تترك لهم من خيار إلا تغليب خيار القوة، فتتولى القيادة جماعات متشددة، قد تعتقد أن تنظيم الدولة على حقٍّ في استهانته بالحلول السياسية، فتتحالف معه أو قد تذوب فيه لتوحيد الجهد في مواجهة الخطر المشترك. وتمثِّل دعوة أيمن الظواهرة الجماعات المقاتلة إلى تجاوز خلافاتها والتركيز على القوات الروسية مؤشرًا على هذه الإمكانية.
يسهم الاستقطاب الأيديولوجي أيضًا في تقوية تنظيم الدولة، فلقد اعتبر حربه جهادًا للشيعة والصليبين، وقد وفَّرت إيران الوقائع الداعمة لذلك، فهي تعتمد في عملياتها القتالية بسوريا، على فيلق القدس المكلَّف بنشر الثورة الإسلامية، والميليشيات الشيعية من العراق وأفغانستان ولبنان وباكستان. أمَّا روسيا، فلقد صورت كنيستها الأرثوذكسية التدخل في سوريا حربًا مقدسة لحماية المسيحيين. لا يحتاج التنظيم لأكثر من ذلك لإقناع السنَّة بالالتحاق به للجهاد، وكما يقول المثل: مع مثل هذا النوع من الأصدقاء ستنهزم دون جهد من الأعداء.
أحجية الحل السياسي
تحُول عدة اعتبارات دون توصل الأطراف المتنازعة إلى حل سياسي توافقي، فلو اتفقت مثلًا على الاحتكام إلى الانتخابات، فإن النتيجة ستكون، حسب التركيبة السكانية والاستقطاب الطائفي، إمساك السوريين السنَّة بمفاصل السلطة، وهو ما توعد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالتصدي له، وتخشى إيران من تبعاته على نفوذها بالعراق، ولبنان.
ولو أرادت مثلًا، تشكيل نظام محاصصة طائفي شبيه بالنظامين اللبناني والعراقي فإن المكوِّن السنِّي يمثِّل من جديد الأغلبية، ولا يمكن للمكوِّن العلوي أن يصمد في مواجهته إلا إذا حافظ على ميليشيا مسلحة أقوى من الجيش النظامي كما هي الحال في لبنان، أو أنشأ إقليمًا شبه مستقل تحميه ميليشيات معترف بها، كما هي الحال في إقليم كردستان بالعراق، لكن يحتاج في الحالتين إلى أن يظل مسيطرًا على الدولة حتى يفرض عليها توفير الغطاء الشرعي لبقاء النفوذين الإيراني والروسي في سوريا. يفتقر هذا الخيار إلى عوامل تحققه، لأنه يدفع الرافضين لنظام الأسد والرافضين للنفوذ الإيراني والروسي إلى توحيد جهودهما لتقويضه.
لا يحظى خيار التقسيم بفرص أفضل، لأن المعارضة المسلحة والقوى الداعمة لها، تتشارك في رفضه، لأنه يوفر غطاء لاستمرار التواجد العسكري الإيراني والروسي، وقد تواصل حربها على النظام حتى ينهار، وعلى القوات الروسية والإيرانية حتى تضطر إلى الرحيل.
الفشل المتوقع
اعتقدت القيادة الروسية أن تدخلها العسكري المباشر في سوريا يجعلها لاعبًا مركزيًّا في التسوية، ويضطر جميع الأطراف المتنازعة إلى القبول بشروطها، لكن ديناميات التدخل ترجِّح حدوث نتائج معاكسة تضر أهم دعامتين راهن عليهما وقامت عليهما استراتيجية بوتين، وهما:
تشكيل نواة حلف دولي واسع مناهض للقوى الغربية.
فكُّ الطوق الغربي ولعب دور شريك الولايات المتحدة في إدارة الشؤون الدولية.
يعاني الحلف الروسي-الإيراني المناوئ للغرب من معضلة أساسية، حيث تعتبر إيران إسرائيل خطرًا مباشرًا على أمنها ونفوذها، وتحرص على تقوية حزب الله ليكون رادعًا لها، بينما تعتبرها روسيا شريكًا تحرص على مصالحه، وترفض الإسهام في أي عمل يخلُّ بموازين القوى الراجحة لصالحه، وسينفجر التناقض بين الرؤيتين إذا زالت حاجة البلدين للتعاون للحفاظ على النظام السوري، خاصة إذا نجحا في مسعاهما، واضطرت إيران إلى التخلص من القيود الروسية، لتعزيز قواتها لمواجهة تنامي القوة الإسرائيلية.
لا يحظى هدف استعادة الدور المركزي في شؤون العالم بفرص أفضل، فمن المرجح أيضًا أن تزداد عزلة روسيا الدولية، فلقد أدَّى احتلالها القرم إلى خسارة الشعب الأوكراني الذي بات يعتبرها دولة احتلال، وتوثيق التضامن الأوروبي-الأميركي بدلًا من إضعافه كما كانت ترجو، وأفرغ تجمعها الأوروآسيوي من أي مضمون استراتيجي وحصره في التعاون الاقتصادي، وأيقظ مخاوف الدول التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي، والدول التي تخشى من أن يستعمل بوتين مبدأ حماية الناطقين بالروسية ليحتل جزءًا من إقليمها.
سيوقعها تدخلها العسكري المباشر في سوريا، في عزلة بجنوبها، حيث ستبدو دولة احتلال، ومساندة للأقليات الطائفية والمذهبية على حساب الأكثرية السنِّية. وليس من المستبعد أن تنتهز أميركا الفرصة لتكوين طوق مشترك يحيط بغرب روسيا وجنوبها، فيستنزف قدراتها، حتى تضطر إلى التخلي عن سياساتها التوسعية. وما يؤشر إلى هذا المنحى الجديد، تصريح وزير الدفاع الأميركي بأن روسيا قد تكون أخطر من تنظيم الدولة. وتدل التجربة على أن الولايات المتحدة قد تتحالف مع الخطر الثانوي للقضاء على الخطر الرئيسي كما تحالفت مع ستالين للقضاء على هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، أو تحالفت مع المجاهدين الأفغان لإلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفيتي. وحتى إن لم تتحالف، فلقد تتسامح مع الخطر الثانوي إذا كان يشاركها في قتال الخطر الرئيسي. وقد يجعلها هذا الترتيب الجديد للمخاطر، ترفع الحظر عن تسليم المعارضة الصواريخ المضادة للطيران الروسي رغم احتمال وقوع بعضها بيد الجماعات التي تضعها أميركا في قوائم الإرهاب.
يُشبِّه خبراء استراتيجيون مهارات بوتين الاستراتيجية بمهارته في الجيدو، حيث يعتمد في كلتيهما على استعمال قوة الخصم لإلحاق الهزيمة به، لكنه اختار في سوريا الرهان على قوته بدلًا من قوة خصمه، فلا يتوقع في فيينا نتيجة مغايرة للتي ألحقها سابقًا بخصومه.
* مركز الجزيرة للدراسات