بقلم: هيثم شلبي
أظهرت حركة حماس “سذاجة” غريبة عندما أصدرت بيانا يخاطب السلطات الجزائرية قبل تصويت مجلس الأمن على القرار الخاص بقطاع غزة (قرار 2803)، يعبر عن “ثقة حماس بأن الجزائر ستقف ضد مشروع القرار الأمريكي لما يحمله من ظلم لتضحيات الشعب الفلسطيني وتطلعاته”.، معتبرة أن “الحركة تعتبر الموقف الجزائري المرتقب أملا للشعب الفلسطيني في منع أي وصاية دولية جديدة على غزة”. لكن الذي أثار الاستغراب أكثر ليس خذلان النظام الجزائري لهذه “الثقة”، بل شعور “الصدمة” الذي عبرت عنه حماس وباقي الفصائل الفلسطينية المقاومة في غزة في أعقاب التصويت الذي أتى عكس مناشداتهم. فهل كان في الموقف الجزائري في مجلس الأمن ما يبرر هذه الصدمة، وما يمكن القول أنه “يخالف التوقعات”؟!
تعتبر القضية الفلسطينية، ومنذ نشأتها، بابا واسعا “للمتاجرة السياسية والإنسانية والوطنية”، من قبل سلطتها أولا، ومن قبل الحكومات العربية والإسلامية “الداعمة” لها. هذه المتاجرة لم تتوقف يوما منذ إكمال احتلالها عام 1967 وحتى اليوم. لكن كل دولة عربية وإسلامية، اختارت التعبير عن “دعمها” للقضية الفلسطينية بطريقتها. بعضها اختار ما أسماه “الواقعية” بالانخراط في إطار المقاربة الأمريكية، والبعض الآخر أعجبه الانخراط في المعسكر السوفييتي (والروسي لاحقا) في إطار ما كان يعرف بالحرب الباردة بين المعسكرين. وهكذا، تم خلق معسكر أطلق على نفسه اسم “جبهة الصمود والتصدي”، تكوّن تاريخيا من سوريا وليبيا والعراق والجزائر واليمن الجنوبي، إضافة لمنظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن تغرق رياح اتفاقية أوسلو ، هذا المركب “الاشتراكي” المتداعي منذ الولادة! ورغم تبدل الأحوال، وما جرى من حراك شعبي في معظم هذه الدول، فقد حافظ معسكر “دعم صمود فلسطين ظالمة أو مظلومة” على خصائص نضاله “اللفظي” الذي -بطبيعته- هو مجاني ولا يؤدي إلى أي فعل من أي نوع.
ومع وحدة اليمن واندثار اليمن الجنوبي، وغياب صدام حسين وبشار الأسد ومعمر القذافي وياسر عرفات من المشهد، لم يبق من هذا المعسكر سوى جنرالات الجزائر، الذين يرفضون الإحالة -طوعا- إلى التقاعد، على الرغم من بلوغ معظمهم سن التقاعد منذ قرابة العقدين!! ومعهم، استمر اعتماد الأدبيات الإعلامية الجزائرية على نفس الشعارات “العنترية” وإن بدأت منذ زمن بعيد في تخفيف لهجتها، والتمترس خلف “ما تقبله القيادة الفلسطينية” المنبثقة عن أوسلو، وما تبديه الدول العربية الملتزمة بمبادرة العاهل السعودي الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، من استعداد لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وافتتاح 22 سفارة إسرائيلية فيها بمجرد قبول إسرائيل مبدأ إعادة 18-22 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية التي احتلتها عام 1967. هذه المواقف الجزائرية المعلنة، تجعل من مصطلح “صدمة” أو حتى مفاجأة تجاه التصويت الإيجابي على قرار مجلس الأمن الجديد نوعا من المبالغة الساذجة، التي لا تلزم إلا الطرف “المصدوم”. فلم نكن بحاجة لتوضيحات وزير الخارجية عطاف أو مندوب الجزائر في الأمم المتحدة بن جامع من أجل تبرير التصويت بنعم على المشروع الأمريكي، وأنه يأتي “انسجاما مع الدعم العربي والإسلامي الذي لقيته مبادرة الرئيس دونالد ترامب لوقف الحرب في غزة”. لقد كان التصويت الجزائري ضد إرادة “فصائل المقاومة” الفلسطينية بديهيا وليس فقط متوقعا، مع التأكيد على أن أي تصويت آخر يدخل في خانة “المعجزات”. لماذا؟
بداية، لم تقدم الجزائر يوما أي دعم عسكري للثورة الفلسطينية، على الأقل منذ زوال الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بالقيادة العالمية؛ وجل ما قدمته هو دعم لفظي مرتبك ومتناقض، يزاوج بين دعم السلطة والمقاومة الفلسطينيتين على حد سواء، رغم وقوفهما على طرفي نقيض دون وجود أي شيء يجمعهما. دعم “لفظي” اختارت الجزائر وأبواقها أن تصفه ب “السياسي”، لإضفاء بعض الجمال عليه، وهو ما لم ينطلي سوى على بقايا الإسلامويين والقومجيين واليسارويين، الذي ينتظرون موتهم البطيء في عالمنا العربي العامر بالإخفاقات. وعليه، نظن أن شعور الصدمة الذي عبر عنه البعض -وليس كل المنتسبين لهذا المعسكر- كان مفتعلا إلى حد كبير.
ثاني الأسباب التي تنفي أي مبرر للصدمة، وتصف المصدومين بالكذب أو السذاجة، فهو أن الجزائر وخلال عامين من عضويتها في مجلس الامن لم تجرؤ على معارضة أي قرار تم تقديمه من طرف أي من الدول دائمة العضوية، فكيف نتوقع تجرؤها على معارضة القرار الخاص بقطاع غزة؟! وهنا، نحيل المصدومين إلى حقيقة أن “الجزائر المنتصرة” و “مكة الثوار” لم تستطع أو تجرؤ على معارضة قرار مجلس الامن الذي صاغته الولايات المتحدة حول الصحراء المغربية نهاية أكتوبر، وهو النزاع الذي رعته منذ البداية وجعل النظام وجوده كله معلقا بنتائجه! وهكذا، وأمام عجز الجزائر الواضح عن معارضة قرار أمريكي منح الطابع الأممي لمقترح المغرب حول الحكم الذاتي في أقاليمه الصحراوية تحت السيادة المغربية، فهل يتوقع أحد أن تتجرأ نفس الجزائر بعد أسبوعين، على التصويت برفض المشروع الأمريكي حول غزة؟!
إن مشكلة الناشطين الإسلامويين والقومجيين وزملائهم من أيتام الحرب الباردة، أنهم يرفضون رؤية الواقع كما هو، ويصرون على الترويج لواقع افتراضي، تتحول فيه الجزائر إلى “قائدة العالم الحر الثوري المناهض للهيمنة الأمريكية”، وخصومها السياسيين إلى “مطبعين عملاء للقوى الغربية والصهيونية”. وهكذا، وعندما يعيشون لحظات كاشفة كما حدث في التصويت الجزائري في مجلس الأمن، والذي يضع غزة تحت الوصاية والإدارية الدولية، ويرحب بنزع سلاح المقاومة، وبغض النظر عن موقفنا الشخصي من الأمر، فإنهم يبلعون ألسنتهم، وإن اعترضوا فإنهم يعترضون “بتمتمات” ضعيفة لا تجرؤ على إدانة النظام “الثوري” الذي صوت كما صوتت الصومال وباكستان، وما هو متوقع من أي دولة عربية أو إسلامية مكانهما.
كخلاصة، وبكلام أوضح، آن الأوان لإنهاء خرافة “الاستثناء الثوري” التي يمنحها “مرتزقة” الإسلامويين والقومجيين واليسارويين للنظام العسكري في الجزائر، حيث يعلم القاصي والداني أنه لا قبل لنظام جزائري فاقد للمشروعية الشعبية والقانونية، ومنتهي الصلاحية منذ الحراك الشعبي عام 2019 على الأقل، باتخاذ موقف مناهض لأي قوة دولية متوسطة كتركيا، ناهيك عن قدرته على معارضة الولايات المتحدة أو فرنسا أو روسيا أو الصين الخ؛ وأنه في ساعة الاختبار، سيتصرف مثل أي نظام رسمي عربي أو إسلامي لا يقوى على مواجهة كبار العالم؛ وأن جل ما يمكنه فعله هو استمرار السماح ببعض “الجهاد اللفظي” من طرف وسائل إعلامه و “مناضليه” القومجيين والإسلامويين، طالما كان هذا النضال لفظيا مجانيا لا يسبب غضب القوى العالمية المهيمنة، ولا يضطر الجنرالات لدفع أي أثمان. أما من يختار المكابرة تجاه هذه الحقائق، فعليه التخلي عن “افتعال” حالة الصدمة عندما تتكرر سلوكات مماثلة من مسؤولي “مكة الثوار”، والتي نزعم أنها لم تكن يوما كذلك، منذ استقلالها “الافتراضي” عن فرنسا وإلى يوم الناس هذا!
مشاهد 24 موقع مغربي إخباري شامل يهتم بأخبار المغرب الكبير