بقلم: هيثم شلبي
كما كان منتظرا، فصّل “السيد الفرنسي” لوكلائه في الجزائر الثوب المناسب، الذي سارعوا للبسه دون كثير نقاش، والخلاصة: بوعلام صنصال حر طليق، دون أن يتراجع عن كلمة واحدة مما قالها! أما باقي القصة فهي مجرد تفاصيل “عرض مسرحي” بإخراج فرنسي يحاول خلق جو من التشويق والإثارة، لشد أنظار المتابعين داخل وخارج الجزائر، استمرارا لفصول المسرحية الأخرى، التي استعرض فيها نظام العسكر وأبواقه الإعلامية “عنترياتهم” المعتادة حول السيادة الوطنية لمكة الثوار التي لا تخضع!! فهل كان هناك ما يغري أصلا بالمتابعة، وهل يستحق الفصل الأخير أن يتصدى له أحد بالتحليل والنقد؟ لا نظن ذلك، وإن احتاج لبعض التعليقات البسيطة فقط لا أكثر.
أول الحقائق أو التعليقات تقول بأن تحرك الرئيس الألماني لا يمكن ان يتم بمعزل عن التنسيق مع الرئيس الفرنسي الذي يعتبر صنصال أحد رعاياه، بحكم حمله للجنسية الفرنسية. فالاعتبارات الإنسانية التي تعج بها مختلف مناطق العالم لم يسبق أن كانت مبررا لتدخل الرئيس الألماني ولا غيره من القادة الغربيين؛ وما مثال غزة عنا ببعيد، حيث تعرضت كتلة سكانية كاملة للإبادة، وبشكل مثبت وليس ظني، ومع ذلك اقتصرت تدخلات القادة الغربيين على الدفع باتجاه محاكمة كل من انتقد السلوك الإسرائيلي بأدراجه تحت بند الإبادة الجماعية، بحجة “معاداة السامية”. إذا فتدخل الرئيس الألماني هو تدخل سياسي وليس إنساني، وبصفته هذه فقد تم لمصلحة طرف آخر هي السلطات الفرنسية، حيث لا مصلحة سياسية لألمانيا في القصة برمتها.
ثانيا، لا يمكن اعتبار إطلاق سراح صنصال بعد ساعات من تصريح رئيس المخابرات الفرنسية بوجود مؤشرات قوية حول حلحلة الأزمة السياسية بين فرنسا والجزائر بأنه “محض صدفة”! الأمر الذي يؤكد (وليس فقط يوحي) بأن العملية برمتها قد جاءت في سياق ترتيبات يشرف عليها الإليزيه، من أجل توفير سلم يسمح للرئيس عبد المجيد تبون وزمرته بالنزول عن شجرة “العداء المصطنع” لفرنسا، بعد أن استنفذت أغراضها، وحان أوان إرجاع الأمور “علنا” إلى سابق عهدها، وتمكين الآلاف من حملة الجوازات الدبلوماسية الجزائرية من دخول بلدهم الأول فرنسا، والتمتع بخيراته وأموالهم فيه، والتي حرموا منها منذ بداية الأزمة.
ثالثا، وهنا نحن نتحدث عن شكوك قوية ولا نتحدث عن يقين، مؤقتا على الأقل. لا نعتقد أن صحة بوعلام صنصال قد ساءت أو حتى كانت مهددة أصلا في أي لحظة من لحظات “استضافته” في السجن الجزائري، لعلم النظام الجزائري بفداحة الثمن الذي يمكن أن يدفعه في حال التقصير في توفير أسباب الراحة للكاتب الفرانكو جزائري، فما بالك بإلحاق أي أذى به. ومن هنا، فقصة “الدواعي الإنسانية” و “تدهور أوضاع الكاتب الصحية”، والتي بررت طلب الرئيس الألماني للتدخل، وبررت استجابة الرئيس الجزائري للطلب، كلها مسرحية مكشوفة، تبدو بصمات المخرج الفرنسي واضحة فيها.
رابعا، نفس الشكوك -بالنسبة لنا على الأقل- تحيط برواية ممارسة الرئيس الألماني لضغط على شكل مساومة مع الرئيس تبون، تضع علاج الرئيس تبون المعتاد في ألمانيا، مقابل علاج صنصال فيها. فالرئيس تبون والنظام الجزائري كاملا بجنرالاته ومسؤوليه، لا يحتاج إلى ممارسة أي ضغوط عليه من أجل الرضوخ، لاسيما من طرف الدول الكبرى، حيث اعتاد تنفيذ الأوامر دون نقاش! وعليه، فقصة المساومة برمتها تأتي في سياق روايات تبرير الإفراج عن صنصال، المرتبكة، والمتعارضة أحيانا.
خامسا، نفس التهافت يطال رواية تبرير استجابة الرئيس تبون لنظيره الألماني شتاينماير، لاعتبارات اقتصادية، والحفاظ على “تميز” العلاقات السياسية الجزائرية الألمانية. فهذه الأخيرة ليست من ضمن المستفيدين من الصادرات الجزائرية الوحيدة المتمثلة في المحروقات، وتحديدا الغاز. وحتى الكميات المحدودة التي تستوردها من النفط الجزائري فلا تشكل شيئا يذكر بالنسبة لاستهلاك ألمانيا من هذه المادة. أما سياسيا، فمنصب الرئيس الألماني هو منصب “شرفي” محض، يكاد يخلو من أي صلاحيات تنفيذية، الأمر الذي لا يجعل هذا البعد حاضرا بقوة من جملة تبريرات التجاوب الجزائري للرغبة الفرنسية في إطلاق صنصال.
الآن، وقد تم الإطلاق، فما هي الخطوة التالية؟
بما أننا أمام سلوك نظام جزائري لا يحمل أي مفاجئات، بسبب قابليته للتنبؤ بناء على تقاليده الراسخة التي تتأكد مع كل قصة عنترية جديدة: تصعيد لفظي، يتلوه صعود على الشجرة، ثم فترة من المتاجرة بالموقف عبر الإعلام الدعائي للنظام، وتسويق المعركة داخليا لاكتساب بعض الجماهيرية التي تعوض غياب المشروعية الشعبية للنظام، ثم فترة تهدئة وانتظار لإحضار السلم الذي يتبعه عادة نزول سريع عن الشجرة! هكذا حصل مع إسبانيا، وليس هناك ما يمنع من تكراره مع فرنسا، لاسيما وأنها “ولي أمر” النظام الجزائري، وقد عاشت هذه المواقف عشرات المرات خلال عمر استقلال الجزائر المصطنع عنها.
وعليه، فالسيناريو الواقعي المنتظر هو كالتالي: هاتف من ماكرون لتبون لشكره على “البادرة الإنسانية” يتلوها أمر من تبون بعودة السفير الجزائري إلى باريس، بالموازاة مع عودة متزامنة للسفير الفرنسي إلى الجزائر، ثم تعليق مشترك للقرارات -الدبلوماسية في معظمها- التي اتخذتها الحكومتان خلال شهور “الأزمة المفتعلة”، وأخيرا عودة المياه إلى مجاريها أكثر حيوية وتدفقا، دون أن تغير فرنسا موقفها من مغربية الصحراء، أو تخفف من وتيرة علاقاتها مع المغرب، ودون أن تحصل الجزائر على أي مكسب من أي نوع وفي أي ملف!!
إن هذا السلوك المتكرر للنظام الجزائري، يظهر مدى الجمود والاهتراء الذي يعيشه، والذي يؤكد انتهاء صلاحيته، ويثبت وجهة نظر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنه نظام بلا “وزن أو هيبة” داخليا وخارجيا.
مشاهد 24 موقع مغربي إخباري شامل يهتم بأخبار المغرب الكبير