بقلم: هيثم شلبي
عندما تواجهنا مشكلة تحتمل عدة تفسيرات، فإننا نلجأ عادة إلى حصر وتقليل هذه الاحتمالات إلى حدها الأدنى، من أجل تسهيل التعامل مع المشكلة. هذه العملية نصل إليها عبر آلية تقليدية تتمثل في شطب الاحتمالات المستبعدة، بناء على قرائن وبراهين، أو تبعا لفهمنا لطبيعة أطراف المشكلة. وباعتماد هذه الطريقة من أجل فهم أبعاد حلقات الازمة المتصاعدة بين الجزائر وفرنسا، المفتوحة على عدة احتمالات، يجب أن نقوم بداية بشطب الاحتمالات المستبعدة، مهما بدت معتمدة من قبل المراقبين المحليين والدوليين، ووسائل الإعلام في البلدين، وصولا إلى حصر هذه الأسباب في اثنين أو ثلاثة.
نبدأ بالنصيحة الدائمة التي تعتبر أساسا صلبا لفهم جميع الأحداث المتعلقة بالنظام العسكري في الجزائر، وهي ضرورة الاستغناء عن وسائل التحليل التقليدية، المستندة إلى قواعد السياسة الدولية، على اعتبار انها أزمة بين بلدين مستقلين ذي سيادة، لأن هذا التوصيف ببساطة لا ينطبق على النظام الحاكم في الجزائر، المحكوم منذ عقود بصراع الأجنحة القوية التي تشكل عموده الفقري. والبديل هنا أن نلجأ إلى القوانين الناظمة لحياة “عصابات المافيا” وتقاليدها، لأنها ستساعد في فهم سلوك النظام الجزائري وأجنحته، وتجنبنا مشقة الخوض في احتمالات نظرية متضاربة، لا يفيد أي منها في قهم الازمة ولا مآلالتها.
يضاف إلى هذا المدخل الضروري، استبعاد مسلمة أو أكثر غالبا ما يسوقها ويروج لها الإعلام الدعائي للنظام الجزائري، لإلباسه لباسا وطنيا لا يمت له بصلة. من هذه المسلمات أن ردود الفعل الجزائرية نابعة من حرص النظام على المصالح الوطنية العليا للجزائر وشعبها. فالنظام لم يتحرك يوما إلا بأحد دافعين: الحفاظ على مصالحه الشخصية والوقوف في وجه ما يهددها؛ “وعقيدة” كراهية المغرب، وحربه “الدونكيشوتية” معها. هذين المحددين يحميان تحليلنا من إضاعة الوقت في الحديث عن “الكرامة الوطنية” الجزائرية والمصالح الوطنية العليا لشعبها، وينفيان عن الأزمة مع فرنسا أي طابع “وطني” غالبا ما يستخدمه النظام العسكري كتكتيك من أجل إضفاء صبغة وطنية على تصرفاته،علّها تكسبه شعبية مفقودة، أو احتراما خارجيا مفقودا. ومصداقا لهذا الأمر، وعلى مدى العقود الماضية، دائما ما استخدم النظام الجزائري استراتيجية افتعال أزمة مع المستعمر السابق فرنسا، والإيعاز لخدامه من برلمانيين وحزبيين وإعلاميين برفع سقف التهجم على فرنسا، بتنسيق اكيد معها، وذلك كلما أحس النظام أنه في ورطة داخلية لا يملك من أجل حرف اهتمام الشعب الجزائري عنها سوى التهجم على فرنسا، وإعادة رفع شعارات الذاكرة وتركة المجاهدين، وغيرها. وهنا، لا سبيل لنفي ما نقوله سوى افتراض أن شنقريحة/ تبون، هما وريثان شرعيان لمسار وثورة بن مهيدي/ بن بولعيد، وهو المستحيل الرابع الذي يمكن أن ينضاف إلى الغول والعنقاء والخل الوفي!!
وهكذا، وإذا ما أردنا تجنب الغرق في نظرية المؤامرة، ماذا يتبقى لدينا من احتمالات؟ إذا راعينا طبيعة النظام الجزائري نقول إن التفسير الأرجح لهذه الأزمة التي نصفها بالمفتعلة، هو كونها تأتي في سياق حرب الأجنحة داخل النظام الجزائري، ما بين طرف لا يدين بالولاء للسيد الفرنسي (كما هي الغالبية) يريد تسميم العلاقة ما بين فرنسا وحزبها داخل النظام الجزائري ومؤسساته. أما الاحتمال الآخر، فهو ينسجم مع طبيعة النظام كنظام وظيفي طالما خاض معارك بالنيابة عن مشغليه، وتحديدا الروس والفرنسيين، وحديثا الأمريكان، وهو ما يعني أنها أزمة افتعلها طرف لا يدين بالولاء لفرنسا، وليس لديه مصالح فيها، لحساب خصم لفرنسا، وهو ما يحيلنا تقليديا إلى روسيا، مع أن هذه النظرية “الكلاسيكية” نفسها تحتاج لإعادة نظر. ثالث الاحتمالات، وربما أضعفها، وهو أن هذه الأزمة هي امتداد لردود الفعل غير المحسوبة على الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء؛ ومرد ضعف هذا الاحتمال إلى كونه يفترض في النظام الجزائري شجاعة لا يمتلكها.
وإذا تعمقنا أكثر في الاحتمال الأول، نقول إن ما يرجحه هو كثرة الأزمات المشابهة خلال الأعوام القليلة الماضية، من اتهام فرنسا (وإسرائيل والمغرب) بتنسيق مخابراتي لافتعال أزمات وفوضى داخلية، ومنها حرائق القبايل، رغم معرفة الجميع بمسؤولية هذا النظام عن هذه الحرائق. يضاف إليها أزمات تهريب الناشطة بوراوي، واتهام المخابرات الفرنسية بتهريبها؛ محاسبة صنصال والصحفي الرياضي الفرنسي؛ محاولة اغتيال الناشط الجزائري المعارض أمير دي زد على الأرض الفرنسية؛ وغيرها من الأفعال التي لم يكن لها هذف سوى توريط جناح فرنسا في النظام، وتحديدا الرئيس عبد المجيد تبون. أزمات ليس من قبيل الصدفة تزامنها دائما مع خروج نبرة تهدئة عن قصري الإيليزيه والمرادية.
أما ثاني الاحتمالات، والذي له أيضا سوابق، ويقويه ما يعرف عن هوى الجنرال شنقريحة الروسي، فنقطة ضعفه أن العلاقات الروسية الجزائرية ليست في أفضل حالاتها، وتحديدا من الجانب الروسي، الذي بدأ يرسل إشارات بقرب استغنائه عن خدمات الجزائر بعد أن أخذ زمام المبادرة في ليبيا وتشاد وباقي دول الساحل عبر “الفيلق الأفريقي”، ولم يعد بحاجة لخدمات وكلائه في الجزائر، لاسيما مع تراكم المؤشرات على تقارب مغربي روسي يؤذن بقرب تغيير موقف هذه الأخيرة من مغربية الصحراء!
خلاصة القول، وأيا كان ما يدفع في اتجاه التأزيم مع فرنسا، فإن قوة حزب فرنسا الجزائري سرعان ما تتغلب عليه، لسبب بسيط، وهو أن فرنسا -وليس الجزائر- هي مركز حياتهم الحقيقي، فيها أموالهم التي نهبوها، أملاكهم، أبناؤهم، ذكرياتهم، علاقاتهم.. باختصار مصالحهم، وهم من الكثرة والامتداد في مختلف مفاصل النظام الجزائري لدرجة لا تجعلهم قادرين على استمرار أزمة التأشيرات فترة طويلة. وعليه، فمن المنتظر أن يجد النظام الجزائري سريعا سلما ينزل به عن الشجرة التي أصعدهم عليها فريق لديه مركز حياة في مكان آخر.
مشاهد 24 موقع مغربي إخباري شامل يهتم بأخبار المغرب الكبير