بقلم: هيثم شلبي
أخيرا وبعد انتظار دام أكثر من ثلاث سنوات، يبدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “زيارة دولة” للمغرب، هي الأولى له منذ توليه السلطة، رغم أنها ستكون ثالث زياراته للمغرب! حيث سبقتها زيارتان “عاديتان” بروتوكوليا. زيارة يعول عليها الجانبان في أن تشكل مناسبة “لاستخلاص العبر من أخطاء الماضي” على حد تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان- نويل بارو!! وبالتالي فتح صفحة جديدة بين البلدين اللذين يحتفظان بعلاقة دبلوماسية مستمرة منذ قرابة السبعة قرون (بدأت في القرن الرابع عشر!!). ولعل ما جعل هذه اللحظة ممكنة، هو الموقف الفرنسي الأخير، الذي حسم من خلاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موقف بلاده من عدم وجود فرصة لحل النزاع المفتعل حول الوحدة الترابية المغربية خارج إطار السيادة المغربية، وهو ما يشكل اعترافا صريحا بمغربية الصحراء. موقف نال ما يستحقه من ترحيب في المغرب، مع وصفه من قبل الملك محمد السادس بكلمات معبرة وذات دلالة عميقة: “هو موقف ينتصر للحق والمشروعية، ويعترف بالحقوق التاريخية للمغرب”!! ومَن أكثر من المغرب وإسبانيا يدرك هذه الحقائق التاريخية، التي ساهما وبشكل فاعل في صنعها!!
توضيح الرئيس الفرنسي ماكرون لمواقفه تجاه المصالح المغربية، وعلى رأسها وحدته الترابية، لا يأتي استجابة لاشتراطات المغرب، الذي يحبذ دائما إقامة علاقاته الاستراتيجية على أسس سليمة وصلبة فحسب، بل -بالأساس- استجابة لمواقف الطبقة الفرنسية السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية بمختلف أطيافها، والتي لا تجمع على أمر مثل إجماعها على أهمية الاحتفاظ بعلاقات دافئة ومميزة مع المغرب في مختلف المجالات. ولعل نظرة واحدة على تركيبة الوفد الفرنسي المرافق للرئيس ماكرون، يظهر بما لا يدع مجالا للشك، هذا “الإجماع” الفرنسي على مركزية العلاقة مع المغرب.
توقيت الزيارة بدوره جاء معبرا. فبعد اعتراف الرئيس الفرنسي بمغربية الصحراء، أزيلت آخر عقبة من طريق إتمام الزيارة التي يتم تأجيلها منذ أزيد من ثلاث سنوات، مع حاجة مسؤولي البلدين لبضعة شهور لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاقيات “والصفقات” التي ستوقع خلال الزيارة. وهنا، لم يكن متصورا أو مستساغا للقطاع الخاص الفرنسي، أن يبقى خارج كعكة “صفقات مونديال 2030” المليارية، والتي يشترط للمشاركة فيها، ومنافسة الصين وإسبانيا وألمانيا وكوريا الجنوبية، أن يتم تنقية الأجواء السياسية بين البلدين، مما لحق بها من ضرر، نتيجة رهانات خاطئة، أحسن التعبير عنها وزير الخارجية الجديد “بارو” بكلمة جامعة: أخطاء الماضي!
ولعل ما حسم خيار الرئيس الفرنسي فيما كان يصوّر على أنه مفاضلة بين تقوية العلاقات مع الجزائر مقابل المغرب، إضافة للأسباب التي ذكرناها سابقا، تأكده (أي ماكرون) من عبثية الرهان على أي علاقة مستقبلية مع نظام منتهي الصلاحية كالجزائر؛ وأخذه على محمل الجد، تحذيرات الخبراء والدبلوماسيين الفرنسيين الذين خدموا في الجزائر (كزافييه دريانكور على سبيل المثال، الذي شغل منصب السفير الفرنسي في الجزائر مرتين) من أن استمرار ربط مستقبل فرنسا بمستقبل مستعمرتها السابقة الجزائر، سيؤدي بالطرفين معا إلى “الانهيار”!! كما أن السلوكيات “المنفلتة” للأجهزة الأمنية الجزائرية (المخابرات على الخصوص)، مقابل التعامل المسؤول لنظيرتها المغربية، حسم قرار الأجهزة الأمنية الفرنسية، صاحبة الكلمة المؤثرة في اتخاذ قرارات البلد، باتجاه “فك الارتباط” مع “وكلاء” الأمس الجزائريين، لصالح “شركاء” الغد المغاربة!!
ثالث العوامل التي حسمت قرار ماكرون (بعد ضغط القطاع الخاص والمؤسسة الأمنية) كان الاختراقات الدبلوماسية المغربية لأقطاب القارة الأوروبية، بعد الاعترافات الصريحة والضمنية بمغربية الصحراء من إسبانيا وألمانيا وهولندا وأوروبا الشرقية، وغيرها من دول القارة العجوز، وهو ما “عزل” الموقف الفرنسي داخل محيطه المباشر، بعد أن حاول في مناسبات عديدة أن “يشوّش” على العلاقات المغربية الأوروبية، دون أن ينجح بتشكيل ضغط كاف يصلح لتحويل دفة هذه العلاقات، بل إنه هدد بتجاوز الشركاء الأوروبيين الجدد للشريك الفرنسي التقليدي للمغرب، وهو ما لم تكن “الدولة العميقة” لتسمح به تحت أي اعتبار.
غير بعيد عن السبب السابق، نجد أن تبعات “الانسحاب” الفرنسي الاضطراري من مستعمراتها الأفريقية السابقة، وحلول روسيا والصين من خارج القارة مكان فرنسا في فضائها الأفريقي، لم يترك لها مناصا من التفاهم مع القطب الأفريقي الموازي للنفوذ الخارجي، ونقصد به نفوذ “المملكة الشريفة”. وعليه، فمهمة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من النفوذ الفرنسي غرب القارة، وإقناع شركائها الأفارقة بصدق نواياها في اعتماد مقاربات جديدة أكثر ندية وعدلا معهم، كانت بحاجة إلى مباركة شريك الأفارقة الموثوق، المغرب، وتزكيته للمقاربة الفرنسية الجديدة!
ويمكن اعتبار كل ما سبق، عبارة عن الجزء الظاهر من جبل جليد العلاقات المغربية الفرنسية، إذ أن العلاقات الدولية بين الدول الكبرى (على غرار المغرب وفرنسا) يوجد تحت مياهها -بعيدا عن الأنظار- أكثر بكثير مما هو متاح للإعلام من معطيات قابلة للرصد والتحليل! فحديث فرنسا عن ترتيب ملفات علاقاتها مع المغرب “للثلاثين عاما المقبلة”، يفترض التطرق إلى قضايا أبعد بكثير من حسم ملف مغربية الصحراء (الذي سيحسم خلال شهور) والمساهمة في “مشاريع المونديال”!! بل تتطلب مواكبة القضايا ذات الأولوية التي تهم البلدين، ما بعد عام 2030!
ختاما، فوجود رئيس فرنسي داخل الإليزيه، يحتفظ بعلاقات دافئة مع الجالس على عرش المملكة المغربية، لا ينبغي أن يكون استثناء يثير الاستغراب، بل على العكس من ذلك تماما، فهو القاعدة التي ينبغي تكريسها، بالنظر إلى عمق وتاريخية العلاقات بين البلدين -على ما شابها من مواجهات-، وتعكس، قبل كل شيء، المكانة المميزة التي تحتلها المغرب داخل الطبقة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية الفرنسية، بطريقة يندر نظيرها عربيا وأفريقيا. ولعل الحفاوة المستحقة التي يحظى بها الرئيس ماكرون وهو يحل بالمغرب، تسهم في تكريس هذه القاعدة، لكل من سيجلس مكانه في قادم الأيام.