بقلم: هيثم شلبي
شاءت الأقدار أن تولد الدولة الجزائرية المستقلة -نظريا- عن مستعمرها الفرنسي، في ظروف خاصة تميزت بتصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين، الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي والرأسمالي بقيادة زعيمة “العالم الحر” الولايات المتحدة.
ولأن فرنسا هي أحد أركان المعسكر الرأسمالي، علاوة على كونها استعمرت الجزائر لأزيد من قرن وثلاثة عقود، ارتكبت فيها مختلف أنواع الجرائم ضد الشعب الجزائري؛ ولأن مصر الناصرية كانت في أوج صعودها، حيث لم تكن قد تجرعت كأس الهزيمة المريرة في 1967، كان الخيار الطبيعي للنظام الجزائري هو الاصطفاف في المعسكر الاشتراكي (علنيا على الأقل) دون أن يفسد هذا الامر علاقة جنرالاتها “السرية” مع السيد الفرنسي! وهكذا، تأسست العلاقة بين الجنرالات وسيدهم، على ترك هامش يرفع فيه النظام الجزائري صوته بالخطابات الثورية في “مكة الثوار”، على غرار زعيمهم في بلاد النيل، شريطة الاستمرار في تنفيذ أجندات الفرنسيين محليا وإقليميا!
وهكذا، ولد النظام الجزائري، وولدت معه حالة “الشيزوفرينيا” التي لطالما حيرت كل المراقبين لسلوك هذا النظام، ما بين تبعيته لموسكو، وخضوعه لباريس، الموجودتان في معسكرين مختلفين ومتضادين! وعليه، فأي محاولة لتطبيق مفاهيم العلوم السياسية على سلوك النظام الجزائري وتخندقه ستبوء حتما بالفشل، والحل الوحيد هو إعادة هذه المحاولة للفهم عن طريق تحليل طبيعة النظام الجزائري ك “نظام وظيفي”، يقوم بما يسند إليه من مهام، بما ضمن له رضى من تشاركوا فيه (فرنسا وروسيا)، ناهيك عن باقي القوى العظمى (الولايات المتحدة والصين)، بل وحتى القوى الأقل شأنا (تركيا وإيران)!!
هذا الاستعداد لأداء الوظائف المتعددة التي تكلفه بها القوى التي يرى الجنرالات أنه لا قبل لهم بمواجهة غضبها، ضمن لعسكر الجزائر استمرار نظامهم، وتعاقب سيطرتهم على مقدرات الشعب الجزائري، وتسلطهم على رقاب أحراره!
صحيح أن اختلاف الشركاء قد يضع الجنرالات أحيانا في مآزق محرجة، كما حدث في حالة ميليشا فاغنر، الذين سهلوا دخولهم من ليبيا إلى مالي بناء على أوامر السيد الروسي، بعد ضوء أخضر من السيد الفرنسي طبعا، وهو ما تعاني تبعاته حتى الآن.
تصنيف النظام الجزائري ضمن المعسكر الاشتراكي خلال الحرب الباردة، والثوري خلال الحقبة الناصرية؛ وعضويته في “جبهة الصمود والتصدي” مع بداية حقبة السلام مع إسرائيل (إضافة للعراق وسوريا وليبيا واليمن الجنوبي إضافة لمنظمة التحرير الفلسطينية) ساعد جنرالاتها في التغطية على تبعيتهم للمستعمر السابق فرنسا، واستعدادهم للقيام ببعض المهام والوظائف لصالح الدول الكبرى، إلى أن جاءت لحظة الانقلاب على فوز جبهة الإنقاذ “الإسلامية”، وإقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، واستلام جنرالات فرنسا الحكم صراحة دون مواربة، حيث انكشف الغطاء عن “ثوريتهم” المزعومة على إثر الجرائم التي ارتكبوها بحق الجزائريين خلال ما يسمى “بالعشرية السوداء”.
جرائم لم يعد معها ممكنا لجنرالات النظام العسكري أن يتنصلوا من تبعيتهم للسيد الفرنسي، أو أن يستمروا في لعب دورهم الثوري المزعوم، في دعم حركات التحرر في أفريقيا والعالم!
ولعل أكثر مهامهم قذارة، كان انخراط جنرالات الجزائر في جهود فرنسا والغرب لمعاقبة المغرب، الذي لعب دورا محوريا في دعم حركات التحرر دون دعاية أو ادعاء، بدءا بثوار الجزائر أنفسهم، ومرورا بباقي حركات التحرر الأفريقية، وهو الدور الذي يعترف به كل منصف في جميع هذه الدول.
هذا العقاب الغربي اتخذ محاولة عزل المغرب جغرافيا عن امتداداته المغاربية شرقا، والأفريقية جنوبا، حيث تكفل النظام الجزائري بالمهمة الأولى عن طريق إغلاق الحدود البرية مع المغرب منذ 1994، بينما لا يزال يحاول استكمال مهمته جنوب المغرب عن طريق دعم مرتزقة البوليساريو، والدفع باتجاه تقسيم الصحراء بحيث ينشأ دولة “حاجزة” ما بين المغرب وموريتانيا، وبالتالي تكتمل محاولة عزل المغرب عن محيطه تماما.
لكن المغرب المتنبه إلى هذا الأمر، نجح في إنهاء هذا الاحتمال عبر تطهير معبر “الكركرات” من أي تواجد لقوات المرتزقة، وبالتالي ضمن تدفق سلعه بحرية إلى الغرب الأفريقي؛ قبل أن ينتقل إلى تكريس هذه الصلات عن طريق مشاريع عابرة للبلدان الأفريقية، من قبيل أنبوب الغاز النيجيري- المغربي، وكذا مبادرة ربط دول الساحل بالمحيط الأطلسي، وتقوية بنيته التحتية البحرية من خلال بناء ميناء الداخلة الأطلسي، الأضخم في غرب القارة الأفريقية، والذي سيصبح الجسر الذي ستمر فوقه تجارة غرب أفريقيا ووسطها مع أوروبا والأمريكيتين!
وأمام هذا الفشل في محاصرة المغرب، وانقلاب المواقف الدولية لصالح مغربية الصحراء، وتشابك مصالح هذه الدول مع المغرب بطريقة يجعل من الصعوبة بمكان إمكانية عزله؛ وأمام انتهاء التأثير “الثوري” للجزائريين على الفلسطينيين، رغم الحركات اليائسة -والبائسة في نفس الوقت- لاستضافة اجتماع لهذه الفصائل بين وقت وآخر؛ وأمام تفضيل القوى الكبرى والمتوسطة تنفيذ أجنداتها في القارة الأفريقية مباشرة، وليس عبر وكلاء كالنظام الجزائري، هل يمكن القول بانتهاء “الدور الوظيفي” للنظام الجزائري تماما، أم أنه مجرد تقليص مؤقت سرعان ما يعود إلى سابق عهده؟!
تبدو الإجابة الأقرب للمنطق على السؤال الأخير، منحصرة في الخيار الأول (انتهاء الدور الوظيفي للنظام الجزائري). فالتواجد الروسي المباشر في ليبيا ومنطقة الساحل، أنهى الحاجة “لخدمات” الجنرالات، ولم يتبق إلا الاستفادة من وجودهم لتنفيذ بضعة صفقات سلاح مليارية، تستطيع روسيا من خلالها تصريف سلاحها المستهلك، وضخ بضعة مليارات في ميزانيتها.
وبالنسبة لفرنسا، وإدراكا منها لعدم قدرة النظام الجزائري على “إعادة تأهيلها أفريقيا” وتأمين طريق لها بسمح بعودة بعض الشركات إلى أماكن نفوذها، أعلنت المراهنة على المغرب لمساعدتها في هذه المهمة صراحة، وعدلت موقفها المعلن من نزاع الصحراء المفتعل، باعتبارها أن سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية “واقعا لا يناقش”، مما أنهى بدوره الحاجة الفرنسية لخدمات جنرالات الجزائر، ليبقى محاولة تأمين جزء من موارد فرنسا الطاقية بثمن بخس منهم، مقابل تشكيلها (أي فرنسا) بيئة آمنة لجنرالات الجزائر وأموالهم المهربة، في انتظار لحظة “الهروب الكبير” وقفز الجنرالات من قارب السلطة المتهالك، وهي لحظة لم تعد بعيدة على كل حال!
نفس الحاجة الطاقية، هي التي تؤمن للجنرالات “تفهما” إيطاليا، دون أن يكون للإيطاليين مهام أفريقية محددة يمكن تكليف عسكر الجزائر بها. نفس الأمر ينطبق من باب أولى على الولايات المتحدة والصين، الذين لا يحتاجون لشركاء، لا سيما إذا كانوا بمثل “ضآلة” جنرالات الجزائر.
كخلاصة، يمكن القول أن “شبكة الأمان” التي طالما تمتع بها جنرالات الجزائر من طرف القوى العظمى، مقابل أداء بعض المهام والوظائف لصالحهم، قد انتهت، وأن أجل كتابة الفصل الأخير في عمر هذا النظام الفاقد للشرعية الشعبية سيأتي بمجرد انتهاء السيولة النقدية التي توفرت بين أيديهم عقب طفرة أسعار النفط والغاز، بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية، وذلك لحاجة هذه الدول الكبرى للمليارات التي يملك هؤلاء الجنرالات إنفاقها عندهم.
ساعتها، يعلم كل الجنرالات المتنفذين أن لحظة أخذ العمولات والهرب إلى “ملجأ آمن” قد حانت، ليترك قارب النظام يغرق، على أمل ألا تغرق معه البلد نفسها في الفوضى. حفظ الله الجزائر وشعبها، وعجل خلاصها من الجنرالات المتحكمين بها منذ استقلالها الصوري عن فرنسا!