بقلم: هيثم شلبي
في ثقافتنا السياسية العربية، لا تختزن ذاكرتنا مشهد انتخابات يخسر فيها الرئيس الموجود في السلطة، خلال محاولته لتجديد انتخابه العدد الذي يرغب فيه من المرات. وعليه، تأتي الثقة لدى القائلين بأن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لن يشكل استثناء لهذه القاعدة، وأن بإمكان السلطات الإعلان عن إعادة انتخابه دون حاجة لناخبين، وصناديق اقتراع، واحتساب أصوات، وإعلان نتائج! وحتى تحارب “الملل” الناجم عن غياب الإثارة عن هكذا سباق، تجتهد السلطات الجزائرية في “إخراج” العملية الانتخابية بطريقة تظهر أن الشعب الجزائري قد “حج” إلى صناديق الاقتراع -وقد بدأت بترويج هذه الكذبة فيما يخص انتخابات الجالية الجزائرية في المهجر-، وأن التشكيك بمشروعية تبون والنظام الجزائري ليس واردا، نظرا لحيازته على أصوات غالبية الشعب الجزائري.
لكن، وبعد التأكد من إعادة انتخاب تبون بنسبة ستتراوح بين 80-90 بالمئة من الأصوات (لهزالة منافسيه)، ما هو السؤال أو الأسئلة التي تتبقى بعد انجلاء غبار هذا السوق الذي لم يجذب أحدا لبضائعه الكاسدة؟! يبدو أن السؤال الأهم هو: هل ستكون العهدة الثانية لتبون بردا وسلاما على النظام العسكري في الجزائر؟ وهل ستسهم في توليد شعور بالأمان والاستقرار لدى جنرالاته الممسكين بزمامه؟ أم أن هناك قضايا لا يفيد التهرب من حلها وتأجيلها على قاعدة: كم من حاجة قضيناها بتركها؟!!
قلنا سابقا أن عدم قدرة الجنرال القوي محمد مدين (توفيق) على فرض التغيير وتجديد الدماء الدائم في النظام الجزائري، قد أسهم في تفاقم مشاكل البلد، كما ويسهم في تأزم وضعية السلطة داخل الشارع الجزائري، بل ويضع النظام برمته أمام خطر الانهيار! وكدليل على ذلك، قاد عجز الجنرال توفيق عن فرض تغيير بوتفليقة بعد انتهاء ولايته الثالثة، وإحضار علي بن فليس بدلا منه، إلى خروج ملايين الجزائريين إلى الشارع بعد حوالي 5 سنوات، مطالبين بإسقاط النظام. وهذه المرة أيضا، فإن عدم التوافق على بديل لتبون، الذي يطل على عقده الثامن، هو أسوأ الخيارات بالنسبة لرجل يعرف النظام حق المعرفة كالجنرال توفيق. وإذا ما أضفنا إلى ما سبق، أن الجنرالات الممسكين بتلابيب المؤسسة العسكرية (السعيد شنقريحة وجبار مهنا) كلهم قد دلفوا عقدهم الثامن أو يشارفون على دخوله (مثل تبون)؛ بل وإن صالح قوجيل رئيس مجلس الأمة في منتصف عقده التاسع؛ ناهيك عن كون غالبية أو كثير من المسؤولين والوزراء قد تجاوزوا سن التقاعد المفترض بسنوات عديدة؛ هذا المشهد المزري، يقوي الخشية الداخلية من انهيار النظام، نتيجة “انتهاء صلاحية” معظم أركانه.
والسؤال هنا، هل لا زال بإمكان الرئيس تبون استدراك ما فشل في إنجازه خلال عهدته الأولى، على الصعيد السياسي والاقتصادي، على الرغم من عدم تفرده باتخاذ القرار داخل النظام العسكري المتهالك؟ نقول، وبعيدا عن الأكاذيب التي يشيعها النظام ورأسه، والترويج الدعائي لأبواق النظام الإعلامية، والذي لم ينجح في تغطية هزالة الواقع اليومي للجزائريين: يصعب تصور تحقيق اختراقات على أي صعيد لأسباب موضوعية وذاتية يصعب حصرها، يمكن أن نشير إلى أوضحها بعجالة.
فقد استفاد النظام خلال عهدة تبون الأولى من طفرة في أسعار النفط والغاز وفرت له موارد مالية هائلة، نتيجة أزمة الحرب الروسية الأوكرانية. واقع لا يبدو أنه مرشح للاستمرار، بدليل تراجع صادرات الجزائر الطاقية عاما بعد آخر، بدل أن ترتفع! هذه الأرصدة المالية لم يتم استثمارها بشكل حكيم، وقد نثر الرئيس تبون خلال حملته الانتخابية العشرات من الوعود -كعادته- التي يعلم هو ومن حوله استحالة الوفاء بها، نظرا لعدم الاطمئنان لاستمرار طفرة الموارد المالية النفطية. لكن ما يأمل به الجزائريون، من جملة الوعود المستحيلة، أن ينجح النظام في توفير الماء والكهرباء والمواد الغذائية الأساسية، بطريقة تقيهم الحر والعطش، وتنهي حاجتهم للوقوف في طوابير الحصول على المواد الغذائية المهمة. أما المشاريع “الكبرى” للنظام الجزائري ورئيسه، كمناجم غار جبيلات، وطريق الجزائر- تمنراست العابر للصحراء، وسكة حديد تندوف- وهران، وغيرها من تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح والحليب، والتحول لرائد تصدير الفوسفات عالميا، الخ، فهي لا تعدو كونها “فناكيش” على رأي إخوتنا المصريين، يتسلى بها النظام وإعلامه، ويبقون حالة انتظار معظم الجزائريين البسطاء لها قائمة.
إن الاستغناء عن الريع النفطي المتناقص، وزيادة الصادرات المصنعة خارج المواد النفطية، هي مجالات تحتاج لنفس طويل، وسياسات وخطط متوسطة وبعيدة المدى، وهو ترف لا يوجد من بين “شيوخ النظام العجزة” من يستطيع، أو يريد، التفكير فيه، وتوفير شروط تحقيقه، وذلك ببساطة، لأنهم لا يمتلكون الكفاءة العقلية للتفكير في مثل هذه الخطط؛ ناهيك عن أنه لا يهم من كان على مشارف الثمانين، أن يخطط لواقع هو يعلم يقينا أنه لن يعيش ليشاهده بعد عقدين او ثلاثة!
أما على الصعيد السياسي، فملامح الفشل المستمر تبدو أكثر وضوحا. فلا العلاقات مع دول الجوار المغربي والمالي والليبي، بل وحتى النيجري والموريتاني والتونسي، مرشحة لأي تحسن، طالما بقي راسموا السياسات تجاه هذه البلدان في مناصبهم. وبالنسبة للقضية الأهم، والتي حولها النظام الجزائري إلى “رهان وجودي” يهون في سبيله الغالي والرخيص، ونقصد بها قضية محاربة الوحدة الترابية المغربية، ودعم مرتزقة البوليساريو، فلا يحتاج أحد من مسؤولي هذا النظام، لأدلة إضافية لتأكيد ما يعلمونه جميعا، من كون المغرب قد أقفل الملف واقعيا، ويضع الرتوش النهائية على إقفاله سياسيا على صعيد الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة؛ وأنه لا توجد قدرة على وجه الأرض يمكنها أن تعيد عقارب الساعة إلى ثمانينيات القرن الماضي، والتي رغم ظروفها المواتية للجزائر والبوليساريو، لم يحققوا شيئا يذكر “لقضيتهم المقدسة”. فكيف نتصور قدرتهم على العمل الآن، وقد تقلصت رقعة الداعمين للبوليساريو بأكثر من خمسين دولة (يعترف بها حاليا بشكل بارد أو دافئ ما لا يزيد عن 29 دولة من أصل 193 دولة معترف بها في الأمم المتحدة)، ويكسب المغرب يوميا، دعما متزايدا لمغربية صحرائه، ومخططه للحكم الذاتي للمنطقة تحت سيادته. هذا الواقع السوداوي بالنسبة للنظام الجزائري، هو الذي سبب قراره “المجنون” بمنع مجلس نواب الشعب، رسميا، من نقاش أي شأن يخص السياسة الخارجية أو المؤسسة العسكرية، في سابقة غير مسجلة في أي مكان من العالم!!
كخلاصة، وأمام قناعة جنرالات النظام بعدم قدرة الرئيس تبون على تحقيق أي إنجاز ذي معنى يسهم في قلب الأوضاع المعيشية للجزائريين للأفضل؛ وأمام عجز أركان النظام العسكري من الجنرالات على التوافق على بديل لتبون؛ وأمام استبعاد إمكانية التفكير بآليات جديدة لتجديد دماء النظام وأساليب إدارته المالية، وتفضيلهم استمرار الواقع الفاسد منذ الاستقلال؛ يمكن القول بثقة أن تزكية العهدة الثانية للرئيس تبون، ما هي إلا محاولة لكسب الوقت، والهروب إلى الأمام، وتأجيل لحظة الانهيار القادم لا محالة، بالرهان على نفس الأدوات والسياسات، مع وضع خطط طوارئ “للخلاص الفردي” عندما تحين ساعة “الهروب الكبير”؛ وما عدا ذلك ما هو إلا مجرد سفسطة لغوية لوسائل إعلام منفصلة عن الواقع!