بقلم: هيثم شلبي
قديما قالت العرب: “أعذب الشعر أكذبه”! لكن مع تبدل الأزمنة والأحوال، اصبح سياسيونا ينافسون شعراءنا في هذه الخصلة: “الكذب”، حتى تفوقوا عليهم بمراحل، وصار الكذب توأم السياسة، بعد أن كان لصيقا بالشعر. هذا المعنى تجسد مؤخرا عبر جملة من التصريحات التي أثارت الكثير من الاستغراب، بل الاستهزاء، كان نجمها “الشاعر” عبد المجيد تبون، الذي سعى عبر هذه التصريحات إلى إضفاء بعض الإثارة على الانتخابات الرئاسية المحسومة سلفا لصالحه، علّها تنجح في جذب الجزائريين إلى صناديق الاقتراع، لتجنيب نظامه فضيحة العزوف الجماعي عن المشاركة، وبالتالي الاضطرار لرفع جهود التزوير إلى مستويات “فضائحية”!
وسنتجاوز عن تصريحات الرئيس تبون السياسية، رغم ما حملته من إثارة وسخرية، لاسيما حديثه عن استعداد جيش بلاده لدخول غزة بعد فتح حدودها مع مصر! وذلك لبناء ثلاثة مستشفيات ميدانية، وليس للحرب كما قد يتبادر للأذهان في أول وهلة. وسنركز هنا على تصريح اقتصادي مقتضب في جملة من سطرين، وعد خلالها الجزائريين بأن بلادهم “الجديدة” ستحتل الريادة عالميا في ثلاثة ميادين، في ظل قيادته الحكيمة: إنتاج وتصدير الحديد، والفوسفات، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، لتخرج من قائمة أكبر مستوردي هذه المادة عالميا!! “كذبات” ما كان الرئيس تبون ليتجرأ على إطلاقها على الملأ، لولا كونه مطمئنا إلى عدم تجرؤ إعلام بلاده، ولا حتى منافسيه الصوريين في الانتخابات الرئاسية، على “تسخيف” هذه الوعود بالأرقام والإحصائيات. لكننا سنقوم بالمهمة -كما تعودنا- لعل مراجعة الإحصائيات والأرقام الموضوعية، تسهم في كشف زيف هذه الادعاءات، واستحالة تحققها.
ولنبدأ بالفوسفات. فالمكان الوحيد الذي نجد فيه ذكرا للجزائر هو لائحة الدول صاحبة أكبر احتياطيات، حيث تحتل المركز الرابع عالميا بامتلاك قرابة 2.2 مليار طن، قبل الصين الخامسة (1.9 مليار طن)، وبعد تونس الثالثة (2.5 مليار طن) ومصر الثانية (2.8 مليار طن)، وبالطبع المغرب الأولى باحتياطيات تتجاوز 50 مليار طن؛ فكيف يمكن للجزائر أن تقفز للريادة إنتاجا وتصديرا بهذه الاحتياطيات؟! لا سيما إذا علمنا أنها خارج قائمة أكبر عشرة منتجين ومصدرين للفوسفات في العالم!! حيث تتصدر الصين قائمة المنتجين بحوالي 90 مليون طن سنويا، تليها المغرب ب 35 مليون طن، بينما تتذيل تونس قائمة الدول العشر الأكثر إنتاجا بقرابة 3.6 مليون طن. أما بالنسبة للجزائر، فإنتاجها بالكاد يتجاوز 1 مليون طن!! فكيف ستحقق هذه القفزة التي تحتاج نموا بواقع 3500% لتجاوز المغرب لا الصين؟!! وإذا انتقلنا إلى التصدير فالجزائر أيضا خارج القائمة التي تحتل المغرب صدارتها بقرابة 900 مليون دولار، بينما تقل صادرات الجزائر عن ربع هذا الرقم؟! الإجابة فقط عند الرئيس تبون الذي سرعان ما يبدأ وزراؤه بترديد أحلامه، ومحاولة تحويلها إلى أرقام رسمية، ليتلقفها إعلام الجنرالات دون تمحيص ويبدأون بترويجها.
وبالتحول إلى الحديد، كان “الشاعر” عبد المجيد تبون أخصب خيالا. فالجزائر هي أصلا خارج قائمة الدول ال 25 الأكثر إنتاجا وتصديرا، بل تتخلف عربيا عن دول كموريتانيا ومصر. أما أسطوانة “غار جبيلات” والتي يحلو للشاعر تبون التغني بها، فهي لا تبرر بحال كيف يمكن “للجزائر الجديدة” أن تصبح رائدا عالميا في مجال إنتاج وتصدير الحديد، لاسيما مع المشاكل التي لا حصر لها، التي تعترض طريق هذا المنجم. فمن التعقيدات القانونية بسبب مشاركته مع المغرب في اتفاقيات دولية، إلى نسبة شوائب الفوسفور العالية فيها (خمسة أضعاف الحد الأقصى المسموح)؛ مرورا بحاجته إلى سكة حديدية طولها 1000 كيلومتر وتكلفتها تزيد عن 18 مليار دولار، من أجل تصديره عبر البحر المتوسط؛ وصولا إلى حاجته إلى حجم مياه تتجاوز 3 ملايين متر مكعب سنويا في هذا الجزء الصحراوي من البلاد، التي لا يجد فيها الناس ماء للشرب أو الوضوء!! فمتى يمكن للجزائر والحالة هذه أن تتجاوز إنتاج استراليا من خام الحديد، والذي يقترب من 900 مليون طن؟!
أما ثالث “القصائد التبونية” فهي المتعلقة بالاكتفاء الذاتي من القمح.. قبل أن يضيف مسؤولو الجزائر كلمة “الصلب” بصوت خافت، لتلافي زلات الرئيس. هذه الكذبة التي كثر تردادها مؤخرا، يمكن أن تتبخر أمام حقيقة واحدة، او مفارقة يصعب تبريرها حتى على الإعلام الدعائي للنظام الجزائري. فأرقامهم الرسمية تقول أن إنتاج الجزائر من الحبوب سجل في عام 2022 حوالي 4.1 مليون طن، ساهمت بتغطية إنتاج البلاد من القمح الصلب بنسبة 95%، بينما ارتفع الإنتاج عام 2023 إلى 7 ملايين طن، وانخفضت تغطيته لحاجات القمح الصلب إلى 80%!! هل تنخفض تغطية الحاجات كلما زاد الإنتاج؟! ثم كيف نفهم أن الإنتاج الجزائري “يتضاعف” سنويا، بينما تحافظ على متوسط استيراد ثابت يتراوح ما بين 7-8 ملايين طن، علما أن استهلاك الجزائر السنوي من القمح بنوعيه يراوح 11.5 مليون طن!!
أما “قصيدة” الاستثمار القطري الإيطالي التي يتغنى بها الرئيس الجزائري، فهي لا تقل عن سابقاتها سخرية. فحسب الأرقام المعلنة، يتعلق الأمر باقتناء القطريين ل 117 ألف هكتار، والإيطاليين ل 36 ألف هكتار، إضافة لمستثمرين محليين سيقتنون 120 ألف هكتار. هذه الهكتارات هي “عمود” ارتكاز كذبة الرئيس تبون، كيف؟ الرئيس افترض أن إنتاجية هذه الأراضي ستصبح 5.5 طن للهكتار الواحد (مع أن الإنتاجية الحالية لا تتجاوز 4 أطنان). ولو سلمنا جدلا بفرضيات الرئيس تبون، فإن الاستثمارات الأجنبية (القطرية الإيطالية) ستعطي 840 ألف طن من الحبوب، بينما سيتكفل الاستثمار المحلي بزيادة 660 ألف طن أخرى؛ بكلام أوضح، فإن مجمل الزيادة المأمولة من هذه الاستثمارات، بعد ست سنوات من الآن، بالكاد ستصل إلى 1.5 مليون طن من الحبوب، فمن أين ستوفر الجزائر باقي ال 4 ملايين طن التي تستهلكها (على فرض أن إنتاجها القياسي العام الماضي سيتكرر سنويا، وأن استهلاك الجزائريين سيبقى ثابتا خلال ست سنوات)؟! الأكثر إثارة للسخرية، أن الرئيس تبون لا يشير بكلمة واحدة إلى ما ينبه إليه خبراء جزائريون من كون تحقيق هذه النتائج مرهون بحفر 10 الاف بئر لسقي هذه الهكتارات على مدى ست سنوات، أو ما معدله 5 آبار يوميا!! فهل بدأ في هذا الحفر؟! الفضيحة الأكبر، أن الاستثمار القطري هو في الأساس من أجل إطعام 270 ألف بقرة!! ولهذه الغاية، فهم سيزرعون ال 117 ألف هكتار بالأعلاف والذرة والشعير والقمح بهدف إطعام أبقارهم وليس الجزائريين، الذين من الواضح أنه لن يصلهم طن واحد من حبوب هذا الاستثمار، وإلا سيحرمون من حليب أبقاره!! نفس الأمر ينطبق على الاستثمار الإيطالي، الذي يبدو أن الشركات المستثمرة ستصدر الغلة إلى بلادها من أجل استخدامها في تصنيع منتجاتها!!
خلاصة القول، أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مصمم على رفع سقف وعوده المثيرة للسخرية، لسبب بسيط: أنه يعتقد أنه قد أمن سوء العاقبة المترتب على عدم الوفاء بها. فهو لا يهتم بمقاطعة الجزائريين للانتخابات، كما صرح هو شخصيا، وهو يعتقد بأن قبضة جنرالاته الأمنية كفيلة بإبعاد شبح الحراك المليوني عن الشارع. وعليه، فنحن أمام عهدة ثانية لا تحتاج سوى لمحرك بحث وآلة حاسبة، لاكتشاف زيف كل ما ينطق به هذا النظام ورئيسه!!