بقلم: هيثم شلبي
تعتبر “الكليشيهات” أو الشعارات المختصرة، من أكثر الأدوات أهمية وتفضيلا لدى محترفي الإعلام الدعائي في العالم أجمع، وذلك لسهولة حفظها وتردادها، وإمكانية ترسيخها في أذهان المواطنين العاديين، وأخيرا قدرة الدعائيين على “تأبيد” هذه الشعارات بطريقة لا تخضعها للفحص من قبل الأجيال اللاحقة. والأمثلة على هذه الشعارات، التي لا يعرف قائلها الأول، أكثر من أن تحصى، لاسيما تلك التي تشخصن الأماكن والأحداث، وتجعلها مرتبطة بشخص فرد واحد، أكثر من كونها نتاج تفاعل قوى عديدة أدت إليها. وفي ثقافتنا السياسية العربية عموما، يوجد “إسهال” في الشعارات المشخصنة من قبل الأنظمة المتعددة، مما يصعب مهمة من يريدون تدقيق هذه الشعارات ومراجعتها، وتصحيح سياقها التاريخي، وبالتالي كشف عوار توظيفها.
إحدى هذه الشعارات يتعلق بنسبة جنوب أفريقيا دائما إلى رئيسها الأول بعد التحرر من نظام الفصل العنصري، المناضل نيلسون مانديلا، وبالتالي لا يمكن ذكر اسم هذا البلد منفردا دون نسبته للشخص، لتصبح عبارة “جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا” هو الاسم المعتمد لدى الأنظمة المغرقة في الإعلام الدعائي، وبطريقة مريبة تنبه إلى الحاجة لتدقيق هذا الشعار، والغايات التي تقف وراء ترسيخه وتداوله بهذا الشكل المبالغ فيه.
لا نقاش في أن نيلسون مانديلا هو واحد من رموز النضال التحرري الأفريقي ضد الفصل العنصري في بلاده والقارة، وهو لذلك يحظى باحترام قل نظيره داخل بلاده وعلى مستوى القارة الأفريقية، بل وفي مجموع دول العالم الثالث. كما أن الكاريزما التي تمتع بها الرجل، حجزت له مكانا وسط كبار شخصيات العالم. لكن يحق لنا أن نتساءل بالمقابل، هل هذا هو السبب الوحيد الذي يقف وراء العبارة السابقة، العزيزة بالمناسبة على الإعلام الدعائي لنظام جنرالات فرنسا في الجزائر؟! الإجابة الأكيدة هي بالنفي. فنظام الجنرالات، وعكس ما يشيع إعلامه الدعائي، هو آخر من يهتم بالاحتفاء بمساندي النضال التحرري، بدليل موقفهم من جارهم الشرقي، الذي فتح لنضالهم التحرري، قواعد التدريب على أراضيه، وزودهم بالأسلحة، وقدم لهم، ولقادتهم، جميع أنواع الحماية والدعم المعنوي والعسكري والمادي، مما سهل لهم طريق الاستقلال “الصوري” عن فرنسا! بل إن الدعم المغربي للنضال الجزائري تحديدا، بدأ منذ دخول أول جندي فرنسي بدايات القرن التاسع عشر، ودفع المغاربة لذلك الثمن غاليا باقتطاع الفرنسيين وضمهم أجزاء واسعة من أرضهم، وبعداء تاريخي لا يزال مستمرا منذ قرنين وحتى يومنا هذا، من فرنسا لكل ما هو مغربي.
أما تحرر جنوب أفريقيا، كغيرها من الدول، فلا يمكن نسبته لشخص واحد، ولا حتى لشخص بعظمة مانديلا، لأن ذلك يقزّم نضالات شعب كامل؛ ثقافة ندمنها نحن العرب أكثر من غيرنا، ونستخدمها في صناعة “رموز” وتأبيدها، كما هو الحال مع عرفات وعبد الناصر وصدام حسين وغيرهم من قادة، نصرّ على إضفاء هالة من القدسية “الزائفة” عليهم، واختزال قضايا وشعوب بأكملها فيهم، بحيث لا يمكن الفكاك منهم سوى بإعلان وفاتهم!!
سؤال آخر من حقنا طرحه: ولو تجاوزنا جدلا عن نسبة النضال التحرري لجنوب أفريقيا إلى شخص مانديلا، وأسمينا بلدا كاملا باسمه، هل لا زالت جنوب أفريقيا الحالية هي جمهورية مانديلا؟ بكلام آخر، هل لا تزال وفيه للقيم التي دافع عنها مانديلا، وموقفه المعتز دوما بما قدمه له المغرب في نضاله التحرري؟! الجواب البسيط سيكون بالإيجاب في حالة واحدة: أن تنتفي الفروق بين مانديلا (ترأس جنوب أفريقيا من 1994-1999) وثابو مبيكي (2008-1999) وجاكوب زوما (2009-2018) وأخيرا سيريل رامافوزا (2018 وحتى الآن)!! إما إن وجدت فروقات شخصية وموضوعية بين مانديلا وخلفائه فلا يمكن بحال استمرار اعتبار جنوب أفريقيا الحالية هي بلاد مانديلا!! الواقع يقول أن خليفة مانديلا المباشر مبيكي هو الوحيد الذي حمل بعض أوجه الشبه، وبدرجات ضئيلة، أما من تلوه من رؤساء (زوما ورامافوزا) فدرجة شبههم بمانديلا مثيلة لتلك الموجودة بين القيصر الروسي رومانوف، ومن تولى الحكم بعد إسقاطه من قادة الاتحاد السوفييتي!! أو بين أبراهام لينكولن ودونالد ترامب، أو بين الحكام الأمويين والعباسيين وزعماء حزب البعث السوري والعراقي!!
إن الانتماء لدولة واحدة، أو لحزب واحد، أو لثورة واحدة، لا يبرر الحديث عن شرعية انتساب كل من يستلم الرئاسة، إلى القيم التي تمثلها هذه الثورة أو الدولة أو النظام. وعليه، “فجنوب أفريقيا مانديلا” ذبلت بتنحيه عن الحكم، وماتت بموته، تماما كمصر عبد الناصر، وليبيا القذافي، وفلسطين عرفات، وعراق صدام حسين. كما أظهرت الأيام اللاحقة لوفاتهم عدم جواز نسبة هذه الدول و”الثورات” للأشخاص المذكورين، مهما علا شأنهم أو كانت مساهمتهم (إن كان لهم أثر محمود أصلا).
وبفك الارتباط بين جنوب أفريقيا ومانديلا، يمكننا ساعتها أن نفهم سياسة النظام القائم تحت رئاسة حزب المؤتمر، ونبحث عن أسباب هذا العداء الشرس من قيادة جنوب أفريقيا للمغرب منذ 2004، والذي ترجموه في اعترافهم ب “جمهورية تندوف”، ودعمهم لمرتزقة البوليساريو، في تناقض تام مع أي معنى للوفاء تجاه البلد الذي وقف بجانب نضالهم، ودعم سعيهم للحرية. فقد جاء هذا الاعتراف بعد خمس سنوات من تنحي مانديلا، الذي لا يمكن تفسيره -أي التنحي- سوى بأن جنوب أفريقيا التي ناضل من أجلها قد تغيرت، وأن هذا ليس زمنه، بل زمن رجال يفهمون السياسة بمنطق نفعي انتهازي، ولا مكان للمبادئ والأخلاق في قاموسهم. أما خليفته ثابو مبيكي فقد مثل مرحلة انتقالية، كانت سنواتها الخمس الأولى بمثابة تمهيد لإعلان وفاة جنوب أفريقيا مانديلا، والخمس سنوات التالية، هي التي انشغل فيها حزب المؤتمر تحت رئاسته بدفن وإعلان ولادة جنوب أفريقيا جديدة، تشبه زوما ورامافوزا أكثر بكثير مما تشبه مانديلا ومبيكي.
إن المحرك الوحيد لعداء “جنوب أفريقيا زوما ورامافوزا” للمغرب (وهذا الاسم أكثر مصداقية مما هو شائع) هو التنافس على رئاسة القارة، والذي سيتجسد في احتلال مقعد القارة الدائم في مجلس الأمن، والذي تدرك جنوب أفريقيا أن قوتها الاقتصادية منفردة لن تشفع لها باحتلاله بالتزكية، لاسيما وأن نفوذها الأفريقي يقتصر في محيطها المباشر جنوب القارة، ولا يتعداه إلى شرق ووسط وغرب وشمال القارة، اللهم باستثناء جنرالات فرنسا في الجزائر. وعليه، لا بد من العمل على عرقلة الصعود المغربي، وتسيده لغرب ووسط القارة خلفا لفرنسا، ومحاولة إفساد “حلف جنوب الأطلسي” الذي يتبناه، ويضم قرابة نصف دول القارة (بإضافة دول الساحل)؛ أما الأدبيات الفارغة التي لا يستعملها أحد بخلاف جنرالات الجزائر، ورؤساء جنوب أفريقيا والقلة من أتباعهم، حول “دعم نضال الشعب الصحراوي” فقد انتهى زمن الرهان عليها منذ 2006، ولم يعد “الاستفتاء المستحيل” يذكر في أي وثيقة لمجلس الأمن، ليتبقى مقترح الحكم الذاتي والذي هو جزء من مخطط الجهوية الموسعة في المملكة المغربية، وحيدا على الطاولة، ولن يملك لا رامافوزا ولا من سيخلفه، حتى لو استعان بديمستورا أو من سيليه، تغيير هذا الواقع، وإعادة إحياء مخطط دفنته الأمم المتحدة وأداتها الرئيسية مجلس الأمن.
ختاما، فالدعوى المقدرة والشجاعة أمام محكمة العدل الدولية، والموقف المخزي الداعم لانفصال الأقاليم الصحراوية عن وطنها الأم المغرب، موقفان متناقضان لجنوب أفريقيا لا يمكن أن ينسب كليهما إلى الزعيم مانديلا ونضاله التحرري، وبالتالي فواحد منهما فقط يمكن أن يمثل الدفاع عن الحق، وبالتالي يمتلك شرعية الانتساب إلى تراث الزعيم الراحل، وعلى الجنوب أفريقيين التراجع عن أحدهما، إذا أراد من سيأتي بعد رامافوزا أن يصحح مسار الانحراف عن قيم وتراث مانديلا، مرة وللأبد!