بقلم: هيثم شلبي
كلما تفاقمت أزمات النظام الجزائري، ومن أجل حرف أنظار المواطنين عن حقيقة أزمات هذا النظام، يلجأ جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، إلى استخدام نفس الحيل “المكشوفة”، التي لا أدري إن كانت لا تزال تنطلي على الرأي العام، وعلى رأس هذه الحيل المستخدمة منذ الاستقلال “الصوري” عن فرنسا، انخراط وسائل إعلام النظام الدعائية، في حملة تهجم على المستعمر السابق، بحيث يعاد فتح “ملف الذاكرة” العالق بين البلدين، وملحقاته المتعلقة بجرائم الاستعمار الفرنسي طيلة سنوات احتلالهم للجزائر. ولفرط تكرار هذا التكتيك، يمكن أن نشبه هذا الملف “بقميص عثمان” الذي يرفع زورا للإيحاء بوجود تعارض بين فرنسا وجنرالاتها الذين يحكمون الجزائر منذ عقود؛ أو “بقنبلة الدخان” التي يستخدمها العسكر من أجل التغطية على حقيقة ما يجري في ميدان العلاقة بين المستعمر ووكلائه؛ مع توظيف هذا الملف أحيانا في صراع الأجنحة المتنافسة على رضى فرنسا داخل النظام الجزائري.
ومؤخرا، وبعد أن فشل في الترويج لأي انتصار حقيقي على أي من الجبهات، وفي خضم محاولاته لنيل رضى جنرالات العسكر، يكثر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون من الحديث عن ملف الذاكرة المزعوم، بل ويعتبره “شرطا” للقيام بزيارته الأولى إلى فرنسا، مع علم الجميع بأن تأخر هذه الزيارة يرجع بالأساس إلى عدم حماس الرئيس الفرنسي ماكرون لتحديد موعد للرئيس تبون لزيارة باريس، ناهيك عن الضربات المتوالية التي يوجهها جناح المخابرات لجناح الرئاسة للحيلولة دون هذه الزيارة، التي يمكن لتبون أن يسوقها داخليا على أنها “مباركة” فرنسية لعهدته الثانية!! فبعد فبركة خبر اجتماع المخابرات الفرنسية والمغربية والإسرائيلية في تل أبيب لتنسيق عملية إثارة القلاقل والفوضى في منطقتي القبايل ووهران، فجرت المخابرات الجزائرية “قنبلة” تورط المخابرات الفرنسية في تهريب الناشطة الحقوقية أميرة بوراوي، وفي كل مرة، يضطر الإعلام الدعائي الجزائري لتوجيه سهامه إلى المستعمر السابق لعدم قدرته على نفي هذه الأخبار التي لفقتها مخابرات بلاده. ومع كل أزمة جديدة، كان التأجيل يطال زيارة تبون لفرنسا، التي تراقب الوضع الداخلي الجزائري، وتنتظر اتفاق جناحي المخابرات وهيئة الأركان على التجديد لتبون أو اختيار بديل له!!
إن ما يدفعنا للتقليل، بل والتشكيك، في أهمية “ملف الذاكرة” بين فرنسا وجنرالاتها في الجزائر، أن هؤلاء الأخيرين (الجنرالات) لا يمكنهم مجرد التفكير في فتح ملفات ذاكرة الحقبة الاستعمارية الفرنسية لبلادهم، لأنها ستكشف عن فضائح “عمالتهم” وتجلب لهم العار بدلا من المجد الذي يروجون له. فطيلة أزيد من 130 سنة، لا يمكن لعاقل أن يفترض أن الفضائح التي تسعى فرنسا لإبقائها طي الكتمان تخصها وحدها، دون أن تطال عملاءها المحليين، سواء خلال الحقبة الاستعمارية أو الاستقلال المزعوم! ويكفي للتدليل على ذلك، أنه لا يوجد على وجه اليقين، جزائري واحد داخل النظام وخارجه، يمتلك نسخة مكتوبة من أهم وثيقة في تاريخ الجزائر، “اتفاقيات إيفيان” التي نال الجزائريون -أو هكذا كان مفترضا- استقلالهم عن فرنسا!! فكيف لنظام لا يملك نسخة من وثيقة استقلاله، ولا يجرؤ أحد على مجرد التطرق لبنودها وملاحقها السرية، أن يكون حريصا على فتح شفاف لأرشيف الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر؟!!
سبب آخر، ربما يفوق سابقه أهمية، يتعلق بكشف حقيقة تشكل الدولة الجزائرية، وكيف عمل الاستعمار الفرنسي على “السطو” على أراضي جيران الجزائر، المغرب وتونس وليبيا، وضمها للجزائر الفرنسية. هدية “مسمومة” تمسكت بها أجيال الجنرالات التي تعاقبت على حكم الجزائر، حتى لو كان الثمن التضحية بعلاقاتها مع جوارها. فهل يعتقد واهم أن جنرالات الجزائر حريصون فعلا على كشف كامل ملفات الحقبة الفرنسية، بما في ذلك الحدود “الحقيقية” للجزائر، وليس ما ورثته عن فرنسا؟!
ولو نحينا جانبا هذين الملفين الحارقين (عمالة جنرالات الجزائر لفرنسا وحقيقة حدودها وتشكلها كدولة)، ندرك أن مطالب النظام الجزائري التي يتخذونها كورقة دعائية لدى الرأي العام المحلي، هي مطالب “فلكلورية” لا تتجاوز سيوف الأمير عبد القادر وبضع مئات من الجماجم، التي كشفت عودة الجزء الأول منها عن فضيحة، كون أصحابها من اللصوص وقطاع الطرق، وتم استقبالهم ودفنهم “كشهداء”! وحتى مطالبات النظام المحتشمة في ملف التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية، فإن استمرارها لمدة أربع سنوات بعد نيل الجزائر لاستقلالها المفترض عن فرنسا (التفجير الأخير كان في نوفمبر 1966)، يضع العديد من علامات الاستفهام على جدية النظام الحالي في متابعة هذا الملف.
أما حديث “كراكيز” النظام الجزائري كعبد القادر بن قرينة، وقادة حركة “حمس”، والذي يكرره الرئيس تبون نفسه حول أن ملف الذاكرة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر “لا يسقط بالتقادم” وأنه مصدر اعتزاز وطني، وغيره من الشعارات “الثورية” الفارغة، فهو ادعاء للوطنية من قبل من هم بعيدون كل البعد عن معانيها، لأن ملفا يحمل كل هذه الجرائم، يفترض أن لا يواكبه هذا التحكم الفرنسي بجميع مفاصل الحياة في الجزائر ونظامها، كما لو أن استعمارها لم ينته بعد.. وهو كذلك! لكن الواقع يقول، أن فرنسا تحكمت بالنظام الجزائري بطريقة غير مباشرة خلال السنوات الثلاثين الأولى من الاستقلال المزعوم، وبشكل مباشر منذ الانقلاب على الرئيس الشاذلي بن جديد، وهي للمفارقة، الفترة التي شهدت حملات إعلامية “أعلى صوتا” في مناهضة فرنسا ونفوذها وتاريخها الاستعماري!!
خلاصة القول، وحتى مع وجود مواطنين “سذج” يصدقون دعاية إعلام نظامهم، وتحركهم مشاعر صادقة في مناهضة فرنسا، ولديهم ما يكفي من أسباب للمجاهرة بكراهية مستعمرهم السابق، لا يمكن أن تكون الحملات الإعلامية المضللة ضد فرنسا بديلا عن مطالبة جنرالاتهم بسحب أموالهم من البنوك الفرنسية، وبيع أملاكهم فيها، والتوقف عن “الحج” إليها في كل شاردة وواردة. كما أن أولى متطلبات “وقت الحساب” مع فرنسا، الذي يتغنى به الجزائريون في نشيدهم الوطني، أن يتوقف جنرالات الجزائر عن أداء دورهم الوظيفي خدمة للأجندة الفرنسية في وسط وغرب قارة أفريقيا، بل وفي محيطهم المغاربي. فهل يجرؤ هؤلاء الجنرالات على دفع هذا الثمن؟! لا أعتقد أن أحدا يمكن له أن يتوهم ذلك!!