بقلم: هيثم شلبي
لم تكن العاصمة الكينية نيروبي -ولن تكون- العاصمة الأفريقية الأخيرة التي يطير إليها وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، في إطار سعي نظامه المحموم للحفاظ على ما تبقى من دعم شكلي لمرتزقة البوليساريو، و “جمهورية تندوف” التي ترعاها الجزائر. وهكذا، ما أن يعلن عن زيارة رئاسية للرباط، أو لقاء على مستوى وزراء الخارجية، بين أي دولة إفريقية لا تزال موجودة في لائحة الدول المعترفة بالبوليساريو (16 دولة) والمملكة المغربية، حتى يسارع النظام إلى إرسال من يحاول “فرملة” أي تحسن محتمل للعلاقات، مع ما يمثله ذلك من خطر احتمال سحب الاعتراف بالبوليساريو، أو الوقوف على الحياد ودعم المقاربة الأممية، التي تصب في النهاية -كما هو معلوم- في خانة دعم مقترح الحكم الذاتي، الآلية الوحيدة الموجودة على طاولة مجلس الأمن منذ 2007. لكن، هل لا زال النظام الجزائري قادرا على الحفاظ على دعم الدول الأفريقية لصنيعته البوليساريو، لاسيما بعد الصفعات التي تتوالى على هذا الصعيد، منذ عودة المغرب للاتحاد الأفريقي قبل سبع سنوات؟!
بداية، لا بد أن نميز بين نوعي المساندة الأفريقية لسردية الجزائر حول “التحرر” المزعوم للصحراء المغربية، حيث تتراوح مواقف ما تبقى من دول أفريقية تعترف بالبوليساريو، أو جمهورية الوهم، أو كليهما، ما بين دول تدعمها بنفس المنطق الأيديولوجي الموروث من حقبة الحرب الباردة، ودول اختارت الانفتاح على المغرب، وتقوية روابطها الاقتصادية معه، وبالتالي تجميد علاقتها بالبوليساريو دون أن توصل هذه العلاقات إلى حد القطيعة، مراعاة لعلاقاتها مع الدولة الراعية الجزائر؛ وبالتالي آثرت موقف الحياد “الإيجابي” الذي يترك تحديد مصير هذا النزاع إلى الأمم المتحدة! وبالنسبة للنوع الأول، ومن أصل دول الاتحاد ال 54 لم يتبقى سوى قرابة ست دول، تتفاوت نظرتها للصراع ما بين الأيديولوجيا والرغبة في الحفاظ على “المصالح” المالية الجزائرية؛ هي: جنوب أفريقيا، أوغندا، زيمبابوي، موزمبيق، بوتسوانا، وليسوتو، على الرغم من تحقيق الدبلوماسية المغربية لاختراقات متفاوتة في جدار دعم هذه الدول للبوليساريو، مع الأخذ بعين الاعتبار إلى أن هذه الدول -باستثناء أوغندا- هي دول تدور في فلك جنوب أفريقيا بحكم الجغرافيا، أو “تخضع” لها قسريا بحكم السياسة والاقتصاد!!
أما الصنف الثاني الذي اختار الحياد، فهو يضم بدوره طيفا واسعا من الدول التي نجحت في تطوير علاقتها الاقتصادية مع المغرب، وإن خرجت بين الفينة والأخرى بمواقف ترضي الجزائر وجنوب أفريقيا، وهي: نيجيريا، أثيوبيا، أنغولا، رواندا، تنزانيا، كينيا، موريتانيا، ناميبيا، مالي، غانا. صحيح أننا نطالع أحيانا -كما يحدث في المجموعة الأولى، مواقف قد تبدو معادية للمغرب أو مهادنة للجزائر، لدرجة قد تجعل البعض يخرج من هذه اللائحة دولا كأنغولا وتنزانيا وناميبيا بل وكينيا، وكما حصل مؤخرا من الرئيس الغاني في البيان المشترك الذي تلا زيارته لجنوب أفريقيا، لكن الواقع يقول بتعمق علاقات المغرب معها لدرجة يصعب فيها ضمها للفئة الأولى، حتى لو احتفى الإعلام الجزائري بكلمة من هنا أو لفتة من هناك، تصدر عن أحد مسؤولي أو وسائل الإعلام في أي من هذه الدول.
إن انفتاح المغرب عبر مؤسساته العمومية والخاصة على المشاريع التنموية التي تحقق رؤية عاهل البلاد الملك محمد السادس للشراكة رابح- رابح بين دول جنوب- جنوب، تسهم في تجذر مواقف دول المجموعة الثانية من النزاع المفتعل، وتجعل مسألة سحب الاعتراف بالبوليساريو و”جمهورية تندوف” مسألة وقت ليس إلا، حيث يتجلى الذكاء المغربي، وعلى النقيض تماما من سلوك غريمه الجزائري (والجنوب أفريقي)، في عدم وضع سحب الاعتراف كشرط لتقوية العلاقات الاقتصادية، أو وضع خبراته في خدمة القضايا التنموية لأشقائه الأفارقة؛ ولا أدل على ذلك من مبادرة الربط بالمحيط الأطلسي التي تضم أساسا جمهورية مالي التي لا تزال تعترف بالبوليساريو، على الورق!!
وهنا، يبرز سؤال: ما مدى قدرة الجزائر على الاحتفاظ بدول المجموعة الأولى، بعيدا عن الضغط الجنوب أفريقي، الذي يمكن بدوره أن ينقلب في أي لحظة؟!! وتحتاج الإجابة طبعا أن نحدد بداية: ما هي مقومات هذه القدرة الجزائرية المفترضة؟ لو نحينا جانبا الشعارات الأيديولوجية المرفوعة لدى بعض الدول الأفريقية والأمريكية اللاتينية، لأنه ببساطة، لم يعد يصدقها أحد! يبقى مبرر استمرار هذه المواقف هي المصالح، الاقتصادية بالأساس. وهنا، ودون الحديث عن بلد بعينه، يتفاوت فهم مصطلح “المصالح الاقتصادية” بين ما إذا كانت تتعلق بتلك الخاصة بالرئيس والمتنفذين في دولة معينة، أو العلاقات الاقتصادية للدولة برمتها. وبنظرة سريعة على حجم التجارة بين الجزائر وبين هذه الدول، نصدم عندما نعرف أنه باستثناء صادرات جزائرية لجنوب أفريقيا، بلغت عام 2022 زادت قليلا عما قيمته 26 مليون دولار، وواردات من هذا البلد في حدود 20 مليون دولار، وهي أرقام تبقى شديدة التواضع بالنظر إلى الحجم الكلي لتجارة البلدين مع باقي دول العالم؛ بينما كانت تجارتها مع زيمبابوي وموزمبيق وأوغندا وبوتسوانا وليسوتو في حدود “صفر” دولار!! من هنا، يتضح جليا ما المقصود من الرهان “المالي” على استدامة دعم هذه الدول، التي لا تربطها بالجزائر أي علاقات تجارية، ولا يسجل القطاع الخاص الجزائري أي حضور فيها! وقد تم مؤخرا الحديث عن “تسريبات” تتعلق بخلفيات زيارة رئيس موزمبيق الأخيرة للجزائر شهر مارس الماضي، والحديث عن تعهد الرئيس تبون لنظيره “بالتكفل” بالمساهمة في حل مشكلة الديون المستحقة للصين على موزمبيق، والتي تجعل البلد مهددا بإشهار الإفلاس والعجز عن سداد ديونها!! على غرار أثيوبيا وغانا وزامبيا وتشاد!! لكن، وعلى فرض صحة هذه الأخبار كليا أو جزئيا، هل تملك الجزائر أن تتكفل بتحمل عشرات المليارات من ديون حلفائها للصين؟! الإجابة قطعا لن تكون بالإيجاب، لسبب بسيط، وهو أن الدين الإجمالي للجزائر نفسها يبلغ قرابة 70 بالمئة من ناتجها المحلي الخام، وأن أسعار الغاز، موردها الوحيد تقريبا هي في تقهقر، وبالتالي فهي ليست في وضع من يقدم المساعدات التي تتطلب مثل هذه الأرقام. صحيح أن بإمكانها الاستمرار في تلبية طلبات في حدود عشرات الملايين، كما حصل مع الرئيس التونسي، ويحصل عادة لحث الدول الدائرة في فلك جنوب أفريقيا على المشاركة في اجتماعات “أصدقاء البوليساريو”؛ أو ما يدفع عادة مقابل هذا الموقف أو ذلك التصريح، الذي يسمع جنرالات الجزائر ما يودون سماعه!!
إجمالا، ولأنه لا يصح إلا الصحيح، يدرك جنرالات الجزائر أن المسألة برمتها هي مسألة وقت فقط، وقد حانت ساعة التخلص من هذا الملف، ودفن البوليساريو ومعها “جمهورية تندوف”، وهو ما يفسر الإشارات اللطيفة التي بدأت في الصدور عن فرنسا وجنوب أفريقيا، ودولا أخرى لطالما اعتبرتها الجزائر مساندة “لخرافة” تقرير المصير “للشعب الصحراوي” ودعم حقه في الاستقلال عن وطنه الأم المغرب. وستكون البداية من الاتحاد الأفريقي، الذي لم يبق على تحقيق المغرب لهدف جمع أغلبية الثلثين الكافية لطرد البوليساريو منه سوى دولتين فقط من بين الدول التي تختار حاليا الوقوف على الحياد، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره منذ اللحظة متيسرا وفي المتناول.
وختاما، تدرك جميع الدول الأفريقية، في أي معسكر وقفت، أن نهاية هذا النزاع قد أزفت، وأن عليها المسارعة للوقوف مع الجانب المنحاز للمستقبل، ولا تبقى مرتبطة بجنرالات الجزائر، الذين شاخوا ولا يملكون النظر إلى أي مستقبل، حتى مستقبلهم الشخصي!!