بقلم: هيثم شلبي
لطالما اتخذت العرب موقفا سلبيا من عملية “تجريب المجرّب”، واعتبروها عبثا يدل على إفلاس صاحبه، بل “جنونا” ودليلا على وجود خلل في عقل من يقوم بالأمر، إذا اقترن هذا التجريب ليس فقط بمحاولة إعادة التجربة، بل باستخدام نفس الأدوات والفاعلين، مع انتظار الحصول على نتيجة جديدة لهذه التجارب القديمة المستهلكة. والنظام الجزائري، المنكوب بجنرالات فرنسا، كان وما زال، أحد “أساتذة” إعادة تجاربه الموروثة من عالم الحرب الباردة، مع علمه أن الفشل الذي عاشته تجاربه السابقة، سيكون مصير التجارب الجديدة- القديمة.
آخر هذه المحاولات العبثية كانت تجربة “غبية”، حولت قادة هذا النظام، وتحديدا قياداته الأمنية، وعلى رأسهم الجنرال جبار مهنا إلى أضحوكة في نظر الجزائريين في الداخل والخارج، ولجميع المتابعين لشؤون هذا النظام “منتهي الصلاحية”. فقد قرر جنرالات فرنسا إنشاء مكتب لكيان وهمي جديد هو “جمهورية الريف” في تكرار مضحك لتجربة احتضان مرتزقة البوليساريو، وإنشاء “جمهورية تندوف”. ومثل سابقتها، تكلف النظام الجزائري، في “مكة الثوار” كما يحلو للإعلام الجزائري أن يصف بلاده، بإنشاء الحركة الانفصالية “الريفية”، وتحديد مطالبها “الاستقلالية”، وتعيين قياداتها، وبدء رحلة هدر ونهب جديدتين لأموال الشعب الجزائري، في تعبير صارخ عن إفلاس هذه الطغمة وعبثها الذي لا ينتهي!
زيادة هذه “الفيلة” الريفية، إلى “الفيل” الصحراوي (على حد تعبير المثل الشعبي المغربي)، لن يؤدي سوى إلى إضافة عبء جديد، إلى سابقه الذي ينوء النظام الجزائري أصلا بحمله، ووصل معه إلى لحظة الحقيقة، حيث سحبت منه جميع الاعترافات التي سبق وتحققت في أجواء الحرب الباردة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ولم يتبق منها إلا بضع دول أفريقية ولاتينية، تبحث عن فرصة للتخلص من التزامات أسلافها، والتي تقف حجر عثرة أمام تعاون حقيقي ومثمر مع المملكة المغربية. وإذا كانت تجربة “جمهورية تندوف” وبالرغم من الاعترافات السابقة التي حصلت عليها، والوضعية الاعتبارية التي تحتلها كطرف مقابل للمغرب على صعيد الأمم المتحدة، قد فشلت، فكيف يتوقع جبار مهنا وزملائه، أن ينجحوا هذه المرة مع تجربة “جمهورية الريف” بدون اعتراف دولي، ولا ملف أممي، ولا عصابات مسلحة، ولا أي من المزايا التي استفادت منها سابقتهم الصحراوية؟! هل هناك عاقل في الجزائر يعتقد حقيقة بقدرة النظام العسكري على جلب أي اعترافات “بجمهورية الريف” المزعومة وبحزبها الوطني؟! وهل تملك الجزائر “العظمى” عبر عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن، أن تدخل ملف الجمهورية الجديدة إلى أروقة الأمم المتحدة ولجنتها الرابعة، وتبدأ بالترويج لقضية “تصفية استعمار” جديدة؟!
ندرك أن الضربات التي وجهتها الدبلوماسية المغربية لنظيرتها الجزائرية أفقدت هذه الأخيرة صوابها، وسببت لجنرالاتها ما يشبه “الارتجاج في المخ”، لدرجة أفقدتهم صوابهم وقدرتهم على التمييز. لكن فشل التجربة الأولى، والأثمان الباهظة التي دفعت خلالها من خيرات الشعب الجزائري، وسمعة عسكرهم، هي من الوضوح لدرجة تجعل كل من يمتلك حدا أدنى من العقل والإدراك يقلع عن مجرد التفكير في محاولة تكرارها. نفس البؤس في التفكير، والدليل القاطع على انعدام البدائل أمام جنرالات فرنسا (ومن ورائهم سيدهم في الإليزيه) هو محاولتهم الأخيرة للرد على مبادرة ربط دول الساحل بالمملكة المغربية، بتكوين “اتحاد مغاربي بديل” عن ذلك الذي نجحوا في تعطيله، بحيث يقتصر على رئيس نظام منتهي الصلاحية، ورئيس يتخبط في خطواته، وآخر لا يملك من أمره شيئا!! وشتان ما بين تأثير الخطوتين على الخصمين الجزائري والمغربي.
إن إصرار جنرالات فرنسا على الاستسلام “لعقد” حرب الرمال وأمغالا، يعميهم عن التفكير بالطريقة الوحيدة المفيدة: تصحيح العلاقة مع الجار المغربي، بدل محاولة إعادة تجارب سبق تجريبها وفشلت؛ والاكتفاء “بالكراهية” كسياسة تحدد العلاقة مع المغرب، وتجعل أقصى طموح عسكر الجزائر هو مجرد “إغاظة” المغاربة، حتى لو لم يتحقق أي نصر دبلوماسي واقعي عليهم. كما أن على عقلاء النظام -إن وجدوا- أن يصارحوا جنرالاتهم الثمانينيين بالحقيقة كما هي: كيف يمكن “لمكتب” جمهورية الريف، أن يغطي على “ميناء الناظور” غرب المتوسط، ومئات المشاريع الاستراتيجية في هذه المنطقة العزيزة من المغرب؟! وكيف لبضعة مرتزقة أن يستطيعوا فصل عرى الثقة بين سكان منطقة الريف ومهاجريها، وبين ملكهم وعرشهم وباقي شركائهم في الوطن المغربي العزيز؟! أم أن الإجابة على هذه الأسئلة لم تكن منذ البداية شرطا لفتح “اعتماد صرف” جديد للجنرالات على بند “محاولة إغاظة المغرب”؟! لكن وبدون عميق تفكير، يمكن لأي مراقب أن يدرك الحقيقة الساطعة، والتي مفادها أن ما يدفع جنرالات فرنسا في الجزائر إلى ما يقومون به لا يعدو كونه انعكاسا لإفلاسهم، وخلو جعبتهم من البدائل، والتخبط الذي يعيشونه ما بين الرغبة في التسبب بأي ضيق للمغرب، تحوله أبواق دعايتهم الإعلامية إلى انتصار وهمي، علّه يفيد في إكسابهم أي قدر من المشروعية في نظر مواطنيهم، بما يمكن أن يطيل في عمر نظامهم المتهالك، لاسيما بعد إيقانهم أنهم إنما يعيشون في الوقت الضائع بعد الحراك المبارك للشارع الجزائري الذي أصدر حكمه النهائي بحقهم.
كخلاصة، يدخل النظام العسكري نفسه في مأزق صنعته أجيال جنرالاته الذين يأتمرون بأمر فرنسا. مأزق سببه إدخالهم أنفسهم في تنافس أبدي مع خصم يفوقهم في كل شيء تقريبا، هو المملكة المغربية. يضاف إلى ذلك تنفيذهم الأعمى للسياسات الاستعمارية الفرنسية في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وبالتالي إحكامهم طوق العزلة الذي يحيط بهم من جهة الغرب والجنوب، في انتظار إحكام إغلاق حدودهم الشرقية مع أدنى تغيير في تونس واستقرار في ليبيا. أما “وهم” أهميتهم للقارة الأوروبية بسبب صادراتهم من الغاز الطبيعي، فهو لا يقل تهافتا عن سابقيه، وبالتالي لا يمكن له أن يشكل عنصر دعم لوجودهم وإطالة لبقائهم. كما أن القناعة الراسخة لدى كل جزائري لا تعدو كونها بديهية: لا يمكن للجنرالات الذين فشلوا في إدارة جميع معارك الجزائر منذ الاستقلال، أن ينجحوا في أي معركة مستقبلية؛ فكيف وهم يستخدمون نفس العقلية والأدوات!! وأن مستقبلا أفضل للجزائر لا يمكن أن يأتي إلى على يد شبابهم، وطاقاتهم الحية التي لم تتخرج من مدرسة الجنرالات.