بقلم: هيثم شلبي
سارعت وسائل الإعلام وكثير من وسائل التواصل الاجتماعي إلى تلقف حوار وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، مع الناطقة الإعلامية بلسان جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، خديجة بن قنة، والتي عبر فيها عن حرص جزائري بتحسين العلاقة مع جاره المغربي، وإحياء وتنشيط اتحاد المغرب العربي. ورغم علم الجميع أن العبرة والمحك هي في التطبيق، ومطالبة الرأي العام في البلدين بالانتظار قبل الحكم على مدى صدق وجدية “الحرص” الجزائري على تحسين العلاقة مع المغرب، وعدم المسارعة إلى استبعاد هذه الإمكانية بناء على تاريخ جنرالات فرنسا، “الفاجر” في عدائه لكل ما هو مغربي، نُجيب بمثل شعبي من بلاد الشام يمكنه التعبير جيدا عن الحالة التي نحن بصددها: “لو كانت الأمطار قادمة، كان يجب أن تتلبد السماء بالغيوم أولا”، بكلام أوضح، دعونا نبحث في سياق ومقدمات تصريحات عطاف أولا، علها تفيدنا في التعامل معها.
بداية، لننطلق من حقيقة أن أحمد عطاف لا يستطيع الإدلاء بأي تصريح خارج حدود ما أقره الجنرالات وأوعزوا به؛ وفي حالة المغرب تحديدا، يجب أن يكون التصريح ممهورا بتوقيع رأس النظام، رئيس هيئة الأركان الجنرال شنقريحة شخصيا، والذي يعتبر عداؤه للمغرب أحد مفاتيح شخصيته وثوابت تركيبته منذ حرب الرمال قبل ستة عقود. هذا الأمر يجعلنا نرجح، إن لم نجزم، بعدم جدية تصريح عطاف. وبالتالي، فهو إما استجابة لفظية لمطلب جهة ما كالمبعوث الأمريكي جوشوا هاريس، أو تخفيفا لضغوط الرأي العام على جنرالات الجزائر. وعليه، فهو تصريح إما سيبقى معزولا دون خطوة عملية، أو سيتبع بمبادرة مليئة بالشروط غير القابلة للتنفيذ، من قبيل التدخل في علاقات المغرب السيادية، أو غيرها من المطالب غير المتزنة.
ولعل ما يقوي الشك في مصداقية ما قاله عطاف لبن قنة، أنه جاء قبل بضع ساعات من وقوف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أمام أعضاء برلمان بلاده بغرفتيه، حيث جدد تشبثه بأطروحته الانفصالية، أي أن ما “حرثه” عطاف، قام “بدكّه” تبون!! وهنا، إما أن جنرالات الجزائر لا يرون تناقضا بين رغبتهم في تحسين العلاقة مع المغرب، ودعم حركة انفصالية تسعى لتقويض سيادته الترابية، أو أنهم يضعون شرطا على المغرب أن تقبل بالتجاوب مع “الرغبة” الجزائرية في تحسين العلاقات، دون أن تملك حق الاحتجاج على دعم الجنرالات لمرتزقة البوليساريو! وهما احتمالان لا يوجد من يدافع عن معقوليتهما سوى جنرالات الجزائر!!
حقيقة أخرى، وإن جادل فيها البعض، وهي أن جنرالات الجزائر على اختلاف مسؤولياتهم، لا يملكون أصلا ما يمكن تسميته سياسة داخلية، أو تعريفا واضحا لما يمكن تسميته “المصلحة الوطنية”؛ حيث إن فرنسا هي من تضع هذه التعريفات، وتوجه هذه السياسات، منذ الاستقلال الصوري للجزائر عنها. وتبعا لذلك، يمكن التعامل بجدية مع ما عبر عنه النظام الجزائري من رغبة في تحسين علاقته بالمغرب في حالة واحدة فقط: صدور أوامر فرنسية من الرئاسة أو المخابرات الفرنسية بالإدلاء بمثل هذا التصريح، والتعبير عن هذه الرغبة، واتباعها بما تقرره فرنسا من مبادرات داعمة. فالسؤال الحقيقي في هذه الحالة هو: هل يوجد مبررات حقيقية لرغبة فرنسا في تحسين العلاقات الجزائرية المغربية، بعد أن كانت مسؤولة عن سوئها وتوتيرها وإيصالها إلى حد القطيعة، منذ حرب الرمال قبل ستين عاما وحتى يومنا هذا! الإجابة البسيطة لهذه الإمكانية هي بالإيجاب، لكن ليس كمبادرة منفردة، وإنما في سياق صفقة متكاملة بين فرنسا والمغرب توضع فيها جميع الملفات على الطاولة، وتساوم فيها -كما تعودت- على كل ورقة ستحرقها، مطالبة بثمن لا يتناسب غالبا مع قيمتها (أي الورقة). صفقة يصعب تصور الوصول إليها سريعا، لكن يمكن القول أن تصريح عطاف يمكن أن يكون أحد إشاراتها ورسائلها الفرنسية المشفرة لأصحاب القرار في المغرب، في انتظار رسالة مغربية مماثلة في وديتها. لكن ما ستدركه فرنسا، وإن متأخرا، أن المطلوب مغربيا هو دفع فرنسا ثمن جرائمها بحق المغرب، والالتزام بعد “معاندة” أو مقاومة صعوده الأفريقي والدولي، لا على صعيد القارة الأفريقية فقط، بل ونظيرتها الأوروبية؛ بمعنى آخر، فما تطلبه المغرب من فرنسا هي “استحقاقات”، لا تملك فرنسا حيالها المطالبة بأي مقابل!! إذا أرادت أن تنهي حقبتها الاستعمارية بدون “شوهة”، وتقلب صفحة جمهوريتها الخامسة بدون ألم!!
باختصار، الجزائر لا تملك تقديم أي مبادرة، أو التعبير عن أي رغبة، أو الإقدام على أي توتير، دون أوامر مباشرة وموافقة صريحة من المخابرات الفرنسية! وعليه، فأي مفاوضات يمكن أن تأتي مستقبلا بين البلدين هي مفاوضات “غير مباشرة” مع فرنسا، والمغرب بطبعه يحبذ المفاوضات المباشرة، بعد الاتفاق على أرضيتها. وهكذا يعتبر أن المفاوضات مع فرنسا تحظى بالأولوية، لعلمه أن جنرالاتهم في الجزائر، سيقومون بتطبيق مخرجاتها دون نقاش!!
نفس الأمر ينطبق على الموقف الجزائري، أقصد الفرنسي، من الاتحاد المغاربي، فجنرالات فرنسا في الجزائر هم المسؤولون عن تنفيذ أوامر الإليزيه بإقفال الحدود البرية مع المغرب، وتجميد العمل المغاربي، ومنع أي تواصل بشري أو اقتصادي بين شعوب المنطقة، وأخير قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب وإغلاق أجوائهم أمام الطيران المدني المغربي؛ وإلى أن تقرر فرنسا سياسة مختلفة، وهو ما لا تظهر مؤشراته حتى اللحظة، سيبقى الحال على ما هو عليه، تعطيل الاتحاد المغاربة وقطع أواصر شعوبه، بغض النظر عن أي تصريح يصدر في الجزائر من عطاف أو حتى الرئيس تبون!!
ختاما، فالسياسة هي مجال لا يهتم كثيرا بالرغبات والنيات، ومن ضمنها الرغبة الجزائرية الأخيرة في تحسين العلاقات مع المغرب، حيث المهم هو ما يشهده الواقع من خطوات، وما يعايشه الناس من حقائق. وعليه، لا نحتاج للاهتمام كثيرا بما يقوله عطاف، بل بما يفعله تبون، والأهم شنقريحة، ومراقبة ترمومتر العلاقة المغربية الفرنسية، لمعرفة مآلات العلاقة بين الجارين، اللهم إلا إذا كان لحراك أحرار الجزائر رأي آخر، ونجحوا في تتويج نضالهم “بكنس” فرنسا وجنرالاتها من بلادهم، وأمسكوا بزمام أمورها لأول مرة في تاريخهم الطويل!!