تصدّعت هيئة الحقيقة والكرامة في تونس بشكل خطير، ففي أقل من أسبوع، استقال من أعضائها من استقال، وتم إعفاء نائب الرئيس من مهامه، بعد “فضيحة التسريبات”. هذا من دون أن ننسى الاستقالات التي تتالت بعد أيام قليلة من إحداثها. ولكن، يبدو أنها لن تتعافى، هذه المرة، إطلاقاً. ربما كان هذا هو مصيرها المحتوم الذي تم تأجيله منذ أشهر، تحت مفاعيل إنعاش اصطناعي وتخدير موضوعي ومسكّنات مطولة. هل كان مصيرها محتوماً أم أن أخطاء التصرف ضاعفت الاحتمال؟
علينا أن نعترف، بمرارة، بأن أمر العدالة الانتقالية لم يعد يهم الرأي العام التونسي، وأن نبل القضية (طهارتها الأخلاقية) ورسوخها الدستوري، لم يعودا قادرين على تعبئة الناس وراء هذه القضية وأمثالها التي تحولت عبثاً، إلى ترف حقوقي ونضالي، أو إلى رغبات شخصية في التمرن على التسامح، وربما التشفي أحياناً.
لا يعتقد كثيرون أن رصاص الرحمة الذي أطلقه نائب الرئيس، في الأسبوع الحالي، من خلال تسريبات مراسلاته العديدة لأطراف مختلفة، ناشراً فيها الغسيل سراً، وهو يعلم أنه يفتح شهية كثيرين على التلصص العلني على هذا الغسيل، كان بمفرده قد أجهز على الهيئة. فبقطع النظر عن ذلك كله، ربما عجلت تلك الرصاصات فقط في إقامة وليمة الفرق التي يجتهد التونسيون في مجتمع استهلاكي مهووس بعرض البهرجة في جعلها تليق بعلية القوم. ها نحن، من دون استثناء، نجتهد في تأبين هيئة الحقيقة والكرامة، بما يليق بها، ولائم عديدة للمتلصصين والشامتين. لكن، ثمة رصاصات أخرى قاتلة، وجهت نحو الهيئة، ما زالت مجهولة المصدر. علينا ألا ننسى أن القناص كان بدعة ثورتنا الخالصة.
حملت هيئة الحقيقة والكرامة، منذ ولادتها، وفي جينات تكوينها، كل أمراضنا المزمنة والمستفحلة: التشرذم والقدرة الفائقة على الهدم والعناد والنسيان وعدم العرفان ومكابرة وصلف كثيرين. لم تنج الهيئة من ذلك، وربما استفحلت تلك الأمراض وأصبحت عضالاً، إذا ما علمنا عودة أشباح الماضي أساساً مبجلين: وطاويط ومصاصي دماء، وغيرهم من بارونات التهريب والمافيا التي تحكم قبضتها على السياسي والشأن العام عامة. تمت هندسة روحية جديدة بعد الثورة، لا ترى حرجاً في نعت الضحايا بأبشع النعوت، بل نادى بعضهم بالانتقام منهم، أحياءً وأمواتاً، حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر. رأينا مثلا كيف تم طردهم وإذلالهم (هم وأهلهم وذووهم)، في مناسبات كانت مهداة لهم أصلاً.
المزيد: تونس: عدالة انتقالية تائهة وسط الحسابات السياسية
منذ انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014، تغيرت المعطيات على الأرض، وعادت القوى السياسية المتهمة بكل تجاوزات الماضي وأخطائه، سواء التي نالت المواطنين، أو المصلحة الوطنية، إلى صدارة المشهد السياسي، وأصبح هؤلاء الفاعلون الأوائل في صناعة المشهد الحالي، والتحكم في مجريات الأحداث. رفضت مؤسسة رئاسة الجمهورية، بعد سويعات فقط من تسلم القصر الرئاسي تسليم الأرشيف، وهو الخزان الأسود لكل ملفات العدالة الانتقالية.
المحاصصة والضغينة والترضية صعّدت، أيضاً، إلى دفة تسيير الهيئة وإدراتها، فريقا غير متجانس، ولم تستطع الشهور المنقضية من عمر الهيئة القصير، إلى الآن، أن تقرب الناس وتجعلهم حاملي مشروع وطني على خطورة مشروع العدالة الانتقالية.
لم يكن تعثر هيئة الحقيقة والكرامة، حينئذٍ، ناجماً عن سوء أدائها الفردي أو الجماعي، ولا أيضا عن قلة الموارد وغياب التجربة في إدارة الملفات الشائكة والمعقدة، فتلك مسائل مقدور على تجاوزها وتدارك نقائصها، لو كانت هناك إرادة سياسية حقيقية، تحدو النخب السياسية، من في الحكم ومن في المعارضة، خصوصا الممثلة بنسب متفاوتة في مجلس نواب الشعب.
أعتقد أن رهانات من تعاقبوا على الحكم منذ الثورة لم تكن جادة في المحاسبة، وأنه تم إحداث وهم قوي، شل، أحياناً، حتى النيات الطيبة، حينما رسخت قناعة لدى بعضهم أن من أجرم في حق المال العام، وحتى في حق الضحايا، من جلادين وغيرهم، يمكن أن يكونوا وصفة النجاة. مقاومة الإرهاب والوضع الاقتصادي الكارثي كانا مناخاً مواتياً لترويج تلك الأطروحة. هاتان الذريعتان سمحتا لبعضهم ببيع صكوك الغفران لهؤلاء، على أمل أن يكون “الحج والشفاء على أيديهم”، كما يقول أحد الأمثال الشعبية التونسية. كان الإخراج الأخلاقي والقانوني يختلف من تشكيلة حكومية إلى أخرى. ولكن تدعم هذا المنحى، حينما فاز “نداء تونس” بالحكم، فهذا عليه دين لمن موّل حملته الانتخابية وساندها، فعديدون من أصحاب ملفات “العدالة الانتقالية” هم من كبار مسانديه في الحملة الانتخابية، وقد يكون بعضهم من نوابه من مشمولي هذه العدالة بالذات.
هل كان كل ما حدث لهيئة الحقيقة والكرامة “بفعل فاعل”؟ لا أعتقد أن هذا السؤال على وجاهته، وعلى الرغم من دقة الإجابات المفترضة عنه، تجيبنا عن أسئلة هذا الموت البطيء والمروع الذي قصف الهيئة، وهي في المهد. ثمة تواطؤ مجتمعي غريب مع ملف العدالة الانتقالية وكأن المجتمع التونسي لا يرغب في أن يكون عادلاً أو منصفا. ثمة قيم عنيفة تغرس مخالبها فينا جميعاً، وثمة تلذذ يختبئ في أظافر الساق في نزق غير مسبوق: طرق تشجيع موتانا، حتى الشهداء منهم تحت غدر الإرهاب، شعائر إحياء ذكراهم، بمن فيهم من ماتوا تحت الرصاص إبّان الثورة، الاستهزاء بمبدأ جبر الضرر وتصويره تعويضاً هو أقرب إلى بيع للذمة وتجارة بالنضال إلخ… وكأننا، أيضاً، لا نريد معرفة الحقيقة أصلاً، وكل مراحل العدالة الانتقالية التي يلقيها الخبراء والمختصون، وحتى شهادات من عاشها.
“حكايات تونسية” لم تعد تعني حتى هؤلاء التونسيين. لم تعد صورة الضحايا تثير حتى مشاعر الشفقة. المشاعر إنتاج اجتماعي، هكذا تعلمنا أبجديات العلوم الإنسانية، فما وصلنا إليه كان بفعل أيدينا. ربما تكون صورة معارض الأمس/حاكم اليوم وإخفاقات الحكم وعودة “رجال الأمس” فرضيات لفهم هذا السقوط المدوي لهيئة الحقيقة والكرامة، فضلا عن “رثاثة” ملف العدالة الانتقالية برمتها.
*وزير تونسي سابق/”العربي الجديد”