تبدو الأطراف الليبية اليوم، أقرب إلى التوافق السياسي، وإن لم تبدأ خطواتها العملية في هذا المسار. وما من تغيُّر في ميزان القوى ننسب إليه هذا التوافق، فالأطراف ثابتة في أمكنتها وتستند إلى بيئاتها الاجتماعية، كما يستمر الانقسام الأيديولوجي بين ليبرالي وإسلامي في خلفية مشهد سياسي يرتدي حلّة القبيلة أو الجماعة الإسلامية أو الجماعة الوطنية.
الجديد الذي يدفع الليبيين إلى توافق يتحقّق أو لا يتحقق، هو خوف الجميع من امتداد «داعش»، صاحب الصورة المسيئة للإسلام، والتي تنفّر الاجتماع الإنساني الطبيعي.
المزيد: هذه هي الدول العربية التي ينتشر فيها تنظيم “داعش”
خطر «داعش» يضغط على الليبيين ويدفعهم الى الخوف على وطنهم والانصراف الى الدفاع عن وجوده، كما يضغط على الأوروبيين المهدّدين بتحوُّل ليبيا بؤرة إرهاب عالمي قريبة من شواطئهم، لذلك تراهم يشجّعون الليبيين على الوفاق لتفادي خطر «داعش»… على الأقل.
التخوُّف من «داعش» دليل صحة الجماعات السياسية الليبية، فلم تبلغ أحقادها حدّ تهديم الهيكل: عليّ وعلى أعدائي يا رب. هذه العقلية الانتحارية اليائسة لا تجدها في ليبيا، التي تشكو جماعاتها عادةً من غياب تراث الإدارة السياسية بعدما جفّفها معمّر القذافي لعقود من الزمن، لكن الشعور الوطني والحذر من احتلال «داعش» يُعتبران نافذتي أمل لليبيا المنكوبة بنزاعات معقّدة تغري «داعش» وغير «داعش» بالتدخُّل والنهب وتكوين منصّات للإغارة على الليبيين وغيرهم، كأن ليبيا أرض مشاع لا دولة ترعاها ولا شعب ينتمي إليها ويدافع عنها.
لكن ليبيا أفضل حالاً من العراق وسورية في مواجهة خطر «داعش» وصولاً إلى حفظ الوجود الوطني، فالعشائر العراقية تجد مصالحها عند «داعش» على رغم ما يقال عن مناهضتها التنظيم الإرهابي، ويرجع موقف العشائر إلى أسباب عدة، من بينها: النقمة على دولة سلّمها الأميركيون إلى حزب أصولي شيعي هو حزب «الدعوة»، وتراث التمرد على الدولة والنظام العام. وهنا نتذكّر قول رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارتن ديمبسي، إن خلاص العراق من «داعش» يحتاج ما بين 10 و20 سنة.
أما سورية التي ابتُليت بنظام سياسي قائم على الصبر لحفظ الذات، وبمعارضة متعجّلة تتبادل كرة الكلام، فتُسجِّل نقاطاً بعضها ضد البعض الآخر، تاركةً الشعب السوري منهبة لمئات المجموعات المسلّحة التي تتغذى من ارتباطات خارجية ومصالح داخلية، وقد مهّد هذا التشرذُم المسلّح لتبلوُر مجموعات أكبر كـ «النصرة» و»أحرار الشام» و»جيش الإسلام»، إنما في أماكن محددة. هذه المجموعات السورية المسلّحة قد تدافع عن نفسها ضد «داعش»، لكنها لن تقاتله كونها لا ترغب في توحيد سورية.
في هذا المشهد المأسوي للعراق وسورية، يزداد «داعش» قوّة ويتصرّف كدولة مركزية تمدُّ أذرعها إلى دول مجاورة عربية وغير عربية كمصر والسعودية وتركيا.
النُّخب العراقية ومعها المعارضة السورية، نقرأ لها ونرى قياداتها على الشاشات الصغيرة، لكنها لا ترقى إلى حسّ وطني يدفعها الى التوافق السياسي ضد خطر «داعش». وربما كانت النُّخب والقيادات هذه صوراً بلا معان، فلا نتوقّع ردود فعلها على جرائم «داعش» واحتلاله أراض واسعة في العراق وسورية.
وفي كل الأحوال، نعيش نحن العرب، في مرحلة بؤس تجعلنا نطلب الدولة الجامعة فقط هرباً من اجتياحات الإرهابيين الدينيين لبلادنا. في حين أن محاربة «داعش» وأخواته وتحقُّق ملامح الدولة المدنية يتطلبان بالدرجة الأولى إصلاحاً دينياً، فمن الصعوبة في مكان أن يفرّق المواطن المسلم العادي بين أحزاب وقوى إسلامية تحكم معظم العالم العربي، ومجموعات مسلّحة إرهابية ترفع شعارات إسلامية مدّعية الرجوع إلى الأصول النقية، وإن بحدّ السيف ومتفجرات التخريب. وحده الإصلاح الديني يساعد على التفريق بين الإيمان والجريمة، وقد يشكّل مخرجاً للعرب والمسلمين من الكهف الذي يضمّهم ويمنع اتصالهم بالآخر.
المزيد: جرس الإصلاح الديني
*صحفي لبناني/”الحياة”