لم تتحول ليبيا إلى مركز من مراكز الإرهاب الداعشي، يدمر مقرات البلاد ويعبث بتراثها الحضاري، إلا بسبب الفراغ السياسي الذي حصل في البلاد، وغياب الدولة غيابا فاجعا، مما جعل الأمن في حالة انهيار والجيش في حالة ضعف، والحدود تتعرض إلى انتهاكات مستمرة نتيجة غياب السلطة التي تفرض سيطرتها على كامل التراب الليبي.
يعلم أغلب الليبيين، أن هذا الفراغ ناتج عن أجندات أجنبية وصنعته أفكار ذات بعد أيديولوجي منفصلة عن الواقع تتبناها جماعات الإسلام السياسي، سلّمت البلاد إلى داعش وأشباه داعش من جماعات التطرف والغلو والإرهاب، لأن ولاء تيارات الإسلام السياسي يتحول دائما إلى وصفة للخراب والدمار ويأتي على حساب الولاء للوطن ومصالحه العليا وعلى حساب الولاء للثورة والقيم التي انطلقت لتحقيقها.
ولمن يرى أن ما أقوله ليس كلاما صحيحا، خاصة من أهل اليمين الإسلامي، أضرب لهم مثلا يؤكد صدق ما أقول، فالليبيون جميعا يعرفون، أن أكثر مدينتين قادتا الثورة ضد النظام الاستبدادي في الغرب الليبي وحملتا لواء التصدي لمجابهة كتائب الطغيان هما مصراتة والزنتان، وكانتا صخرتين منيعتين تحطمت عليهما غطرسة النظام السابق، وكان هذا الموقف الصامد للمدينتين سابق لتدخل الشرعية الدولية لإنقاذ البلاد واستخدامها لقوات الناتو في قصف كتائب النظام السابق، وكانت المدينتان تشد من أزر أحدهما الأخرى وتقاتل صفا واحدا معها، فهل يقول لي معارض لهذا الطرح، لماذا حصل الشقاق بين ثوار المدينتين، وكيف تحول رفاق النضال إلى أعداء يشهرون السلاح في وجه بعضهم البعض؟
لا أجد أحدا مسؤولا على هذا الاقتتال الفاجع المؤلم الذي يحدث بين أبطال ثورة 17 فبراير، إلا دخول أجندة الإسلام السياسي على الخط، وهي أجندة فاسدة تبدأ بإفساد الدين وإفساد السياسة وتنتهي بإفساد النضال الوطني والوحدة الوطنية، وكانت النتيجة هي ما رأيناه واقعا على الأرض، وهو إفساد العلاقة بين ثوار الزنتان وثوار مصراتة عندما اشتغل تيار سياسي إسلامي معروف على استغلال ثوار مصراتة وشحنهم بأطروحات معادية لبقية أنحاء الوطن، واستخدم قوة هذه المدينة المناضلة لفرض سيطرته على المشهد السياسي الليبي، بعد أن فشل في الحصول على هذه السيطرة عن طريق التفويض الشعبي وصناديق الاقتراع.
فكانت النتيجة أنه شق الصف الوطني وأحدث هذا الصراع القاتل بين أبناء الولاء الثوري الواحد، وضرب كل الاستعدادات التي كانت تتهيأ لنشوء الدولة الجديدة، وعبث بمبدأ الانتخابات التي كانت تلقى إجماعا من كل فئات الشعب. وحصل هذا الفراغ السياسي الذي وجده الإرهاب الداعشي فرصة لاستباحة الأرض الليبية، وجعلها موئلا ومقرا لعناصره ومصدرا لإرهابه، إلى حد أن الخليفة الداعشي، “أمير المؤمنين” في الموصل، اعتبر ليبيا أولى ولاياته خارج مقر دولته في الشام والعراق، وقام بتعيين وكيله فيها ووالي الولاية وهو يمني الجنسية، ومعاونين له من غير الليبيين، تأكيدا لطبيعة التنظيم العابر للجنسيات والقارات والثقافات. ولأنه لم يجد من العناصر الليبية المحلية ما يكفي لسد المناصب القيادية في التنظيم، ولأنه في حقيقته تنظيم لا جذور له في الأرض الليبية ولا بيئة حاضنة غير الفراغ والفوضى. وهو بالتالي تنظيم عارض وطارئ وصنيع هذه الظروف المؤقتة التي أحدثها الشرخ بين أهل البلاد وثوارها، وسيتبخر من ليبيا إذا انتهت حالة الفراغ وينتهي معها التنظيم الإرهابي الأسود الذي طال أهل البلاد وضيوفها، وستنتهي الظاهرة التي أرعبت دول الشمال الأوروبي والتي لم تكن إلا إحدى توابع الزلزال الداعشي في ليبيا، أي ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي صارت ليبيا دولة العبور الأساسية من أفريقيا إلى أوروبا.
إننا على أبواب عيد الفطر، حيث تزداد قوة النفحات الروحية التي تتحرى الخير وتنزع إلى السلام، وما يحتاجه الليبيون هو وقفة مع النفس وتغليب الولاء الوطني، لتحقيق المصالحة المطلوبة بين الثوار والثوار وبين الجيش الوطني والحراك السياسي في الجزء الغربي من البلاد، ولا شك أن الإرادة الدولية ستستجيب للإرادة الليبية في التوافق والمصالحة، التي تنهي هذا الفراغ وتباشر بناء مؤسسات الدولة، ونأمل أن يكون التوقيع بالأحرف الأولى على مشروع الحل السياسي في الصخيرات، بداية الطريق نحو الدخول في عهد السلم والاستقرار في ليبيا.
* كاتب ليبي/”العرب”