بإعلانه عزمه على الذهاب بولايته الرئاسية إلى منتهاها في ربيع 2019 رغم حالته الصحية المعتلة، لم يصدم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أو يفاجئ إلا الحالمين وعشاق أفلام الخيال السياسي.
هذا التصريح، الأهم ربما في الولاية الرئاسية الرابعة، اختار له بوتفليقة مناسبة عيد الاستقلال العزيزة على الجزائريين. وأدلى به بطريقته الجديدة المتمثلة في الرسائل التي يقرأها مذيعو نشرات الأخبار في التلفزيون الحكومي. وهي طريقة لا تؤكد فقط الحالة الصحية المتردية التي بلغها الرئيس حتى أصبحت تحول بينه وبين خطاب منطوق ولو قصير، بل تؤشر على شكل ومستوى إدارة الشأن العام في أعلى هرم السلطة والذي أصبح يتم بالحد الأقل من الأدنى.
والتصريح هذا هو رد على بعض أحزاب المعارضة التي تتحدث باستمرار عن شغور في منصب الرئاسة. كما أنه مؤكد على معلومات غير مؤكدة زعمت أن بوتفليقة قرر التنحي في الخريف المقبل بسبب وضعه الصحي، وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة لن يترشح لها.
عدة أوساط سياسية وإعلامية مفرطة في الحلم تداولت هذه المعلومات بتفاؤل، وأضافت لها بهارات من نوع أن قرار التنحي اتُخذ كحلٍ وسط في الخلاف مع رأس جهاز المخابرات الذي لا يروقه رؤية الرئيس يدير شؤون البلد في هذه الحالة والظروف. مع العلم أن جهاز المخابرات، بقيادة رئيسه الفريق محمد مدين، يتحمل مسؤولية تكريس ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة العام الماضي، أو على الأقل عدم ممانعتها.
لم تعد الجزائر بلد المعجزات كما غنت الراحلة وردة ذات عام (وهل كانت يوما بالفعل؟)، بل أصبحت البلد الأكثر بُعداً عن معجزة ولو صغيرة، وإلا كيف يواصل بوتفليقة حكم البلاد في هذه الحالة الصحية والظروف المحلية والإقليمية منافسا أكثر القادة العرب تمسكا بالكرسي؟ وكيف يحكم ثمانيني من وجوه الحرب الباردة بلداً ثلاثة أرباع شعبه مولودون قبل أقل من 30 عاما؟
الأمر ليس جديداً، فمنذ 1999 تتداول ذات الأوساط أخباراً من هذا النوع ثم لا يلبث مَنْ صدّقوها أن يصطدموا بحقيقة أن بوتفليقة ماضٍ في تحقيق طموحه الشخصي المتمثل في أنه لم يأت رئيسا في اليوم الأول ليتركها في منتصف الطريق، وأنه لا يتخيل أن يموت فيُنعى «الرئيس السابق».
كان محرك هذه «الأحلام» دائما خليطا من أخبار وإشاعات تتكرر وتتشابه عن صراع مزعوم بين الرئيس وجهاز المخابرات الذي اختاره وفرضه رئيسا في 1999 ولاحقا.
بغضِّ النظر عن وجود هذا الصراع من عدمه، وعلى افتراض أنه كان موجوداً في الفترة الأولى من حكم بوتفليقة (1999 ـ 2003) بعد أن اكتشف رجال المنظومة المخابراتية أنه ليس بالبساطة التي ظنوها فيه، هذا الاحتمال اليوم أبعد ما يكون عن الواقع لأن الرئيس «حلق» للجميع.. مسح خصومه وقوّى «خدامه» فخلا له الملعب، ولم يتأخر في إثبات أنه ليس الرجل الذي سيتخلى عن الكرسي بعد أن قضى سنوات يرتب بيت الرئاسة ونظام الحكم لكي يجعل من نفسه الحاكم المطلق.
إضافة إلى هذا كله، لا توجد ظروف موضوعية من شأنها أن تدفع بوتفليقة للتنحي عن الحكم: لا رفض داخلي نشط ولا ضغوط خارجية معلومة. هناك اتفاق غير مقصود بين الداخل والخارج على أن الجزائر مشلولة ببوتفليقة أفضل منها مرشحة للاضطراب بغيره. ذلك أن الداخل والخارج بلعا طُعم أن ذهاب بوتفليقة يعني الفوضى مثل ليبيا واليمن ومصر. الداخل مدفوعا بخوفه من السقوط في تجارب إقليمية، والخارج بمصالحه الاقتصادية والتجارية.
إصرار بوتفليقة على إنهاء ولايته الرئاسية في الحالة الصحية التي هو عليها يعني سنوات اخرى من الفشل الفساد والانسداد. ذلك أن الرئيس احتكر السلطات فعليا وصوريا، والذين يزعمون أنهم في معسكره، اشخاص وهيئات، لا يستطيعون تجاوز الأسوار الحقيقية والوهمية المحيطة به خوفا منه ومن محيطه وحتى لا يمسوا كبرياءه وسطوته. الحكومة الموجودة مستمتعة بشللها وإخفاقاتها، ومكتفية بالتهليل اليومي لـ»نجاحاتها» الافتراضية (في أخبار التلفزيون الحكومي فقط)، والوزراء راضون بألقابهم وامتيازاتهم ومنتهى أحلامهم مصافحة الرئيس يوما ما.
ولن يغيّر عزم بوتفليقة على إجراء تعديل دستوري من الأمر شيئا. قد يحدِث الأمر بعض الفلكلور السياسي والإعلامي يتسلى به الناس أسابيع أو شهورا، ثم يعود الركود الذي، في حالة الجزائر، يعني الإخفاق.
صحيح أن رحيل بوتفليقة قبل انتهاء ولايته الرئاسية لن يغيّر كثيراً في مزاج وسلوك منظومة الحكم لأن أصل المشكلة في نظام الحكم وليس في بوتفليقة وحده، والخطر على الجزائر ليس عجز الرئيس فقط بل شلل نظام الحكم ككل. لكنه حتما سيكون خطوة في مسافة طويلة، ويرسل رسالة إيجابية لا صلة لها برسائل التخويف التي لا يتوقف معسكره عن إرسالها مخيّرا بين الاستمرار والاستقرار أو التغيير والفوضى.
قبل ذلك وبعده، رحيل بوتفليقة أو بقاؤه في الحكم كما هو اليوم، في حده الأدنى، مسألة اخلاقية أكثر منها شيء آخر. مسألة حياء أيضا.
٭ كاتب صحافي جزائري/”القدس العربي”