المعارضة الجزائرية: ديمقراطية القفز بالمظلات

هل كل المحسوبين على المعارضة السياسية في الجزائر لهم تاريخ مؤسس على الاستقامة السياسية النظيفة وهل هم ديمقراطيون فعلا؟ وإذا كانوا كذلك فلماذا لم يلتحم بهم الشعب الجزائري، ولماذا لم يتخذهم، إذن، مثالا تتماهى معه أناهم الفردية (بتعبير فرويد) وأناهم الجمعية (بتعبير كال غوستاف يونغ )؟ كيف يمكن أن يصدَق الشعب الجزائري من كان جزءا عضويا فاعلا بداخل بنية النظام الديكتاتوري في الماضي أن يصبح الآن ديمقراطيا في رمشة عين؟ وهل الديمقراطية قفز بالمضلات، أم لافتة وشعارات سياسية تغطى بأقنعة واهية تلبس في الغرف المظلمة خلال طقوس كارنفال الانتخابات، أم أنها شيء آخر مختلف كل الاختلاف؟ أليس معيار ديمقراطية أو عدم ديمقراطية من يقدم نفسه كمعارض ديمقراطي هو تاريخه الكلي، وأخلاقه، وثقافته، ومجمل مواقفه في الماضي وفي الحاضر؟
في تقديري فإنه من الضروري جدا فتح نقاش فكري من أجل فهم تعقيدات وعقد نفسية هذا السياسي أو ذاك السياسي الآخر الذي يمارس “شطارة” القفز بالمظلات من موقع الديكتاتورية إلى موقع الديمقراطية المتناقضين كلية بأسلوب التحايل من أجل الوصول إلى الحكم؟ أليس هذا القفز نظيرا متماثلا لحد التطابق المطلق لما يسمى في علم النفس التحليلي بمرض “التأرجح الوجداني” الذي هو عرض من أعراض عدم النضج النفسي؟
أليس من المستعجل إرسال مثل هذا النوع من السياسيين “العصابيين” إلى مصحات الطب النفسي لكي يتلقوا علاجا لحل مشكلة “تلازم الحب والكراهية تجاه الموضوع ذاته” عندهم، وحسب مصالحهم، على حد تعبير المفكر الهندي هومي بهابها؟
إن الظاهرة العجيبة تطفو الآن بشكل ملفت للنظر على السطح في خضم احتدام ما يسمى بالصراع السياسي في الجزائر. في هذا السياق ينبغي طرح هذا السؤال: كيف يمكن أن يصدَق الناس وعود عدد من المسؤولين الكبار المدعوين بالمعارضين بإنجاز التقدم والاحتكام إلي الديمقراطية، وفي مقدمتهم وزراء وسفراء ورؤساء حكومات سابقون فشلوا فشلا ذريعا في نقل المجتمع الجزائري إلى طور الحداثة والعصرنة الثقافية والاجتماعية والسياسية، والأخلاقية، والاقتصادية، والعلمية؟ وكيف يمكن أن يقنع هؤلاء المواطنين والمواطنات بأنهم أبطال العدالة والحريات والديمقراطية في الوقت كانوا في الماضي القريب جدا جزءا عضويا من الهرم السياسي الديكتاتوري الذي تسبب في تكريس التخلف، وفي إنتاج العنف، وفي تراكم الأزمات المركبة بكل أنواعها وفي الصدارة انعدام الأخلاقيات السياسية.
وهنا يطفو إلى السطح سؤال آخر وهو: هل حدثت لدى هؤلاء معجزة تحوّل حقيقي في بوصلتهم الثقافية والفكرية والروحية، وهل نبعت في نفوسهم، في ظرف زماني قصير جدا، مبادئ العدالة والحرية والديمقراطية؟ أم أنهم لا يزالون كما كانوا وأن تحركاتهم الحالية لا تعني في الجوهر تغيرا حقيقيا وإنما تدخل فقط في إطار اللعب السياسي المقنع بعشرات الأقنعة من أجل استعادة المناصب التي فقدوها؟
وفي الحقيقة، فإن هذه الشخصيات السياسية المتقلبة وفقا لمصالحها ليست حالة استثنائية، بل إنها تمثل أعراضا خارجية، وصورة مصغرة لنموذج كلي يمثل عنوان الأزمة العميقة التي تكبل التقدم في مجتمعنا وتحول دون ميلاد الإنسان الديمقراطي فيها. وبهذا الخصوص أعتقد أنه من الضروري أن نشرع في تسليط الأضواء على هذه الظاهرة الخطيرة وبذل الجهد من أجل الكشف عن أفعالها، وعن مرجعياتها وانتماءاتها السياسية السابقة لأنه من دون القيام بمثل هذا التحليل والكشف فإن النمطية الثقافية والذهنية اللتين تفرخان السياسية المتخلفة والمعادية للتحول الديمقراطي ستبقى قائمة وستتكرر دائما في حياتنا.
إنه من البديهي القول إن الأسرة التي يتم توزيع السلطة فيها توزيعا متساويا ومن دون إقصاء أو إلغاء، أو إنكار لهذا أو ذاك من أفرادها هي مصدر الذهنية الجماعية الديمقراطية، وأن احترام الفرد وتنشئته تنشئة خالية من الانفصام والمعايير المزدوجة يمثل الطريق الملكي الذي يؤدي إلى بناء الإنسان الجديد ذي الهوية الديمقراطية. على ضوء هذا يصدق القول بأن ديكتاتورية الأسرة هي التي تفضي إلى إنتاج أجيال معقدة نفسيا ومغرقة في ممارسة تهميش الآخرين وإلى إنتاج الحكام المتسلطين.
إن علاج أمراض السياسة والسياسيين في المجتمع الجزائري، وفي المجتمعات العربية بصفة عامة، مشروط، من دون أدنى شكَ، بعلاج الثقافة السائدة ومضامين القيم واللاشعور السياسي المتزمت والعدواني التي تنتج مثل هذه الظواهر الخطيرة التي تكرس السلطة القمعية النمطية وتعيد إنتاجها باستمرار.
في هذا السياق بالذات فقد قال أحد المفكرين العرب المعاصرين ما معناه أن تغييب عمليات بناء الفردية المستقلة – والمشبعة بالرأسمال الأخلاقي، وباستقامة المواقف والسلوك، والمتحررة من ترسانة تخلف “البنية الاجتماعية الريفية القبلية” أو العشائرية، أ والشللية، أو الجهوية – هو أحد الأسباب الأساسية التي تكمن وراء تفريخ أنماط التشكيلات أو الشخصيات السياسية ذات الذهنية المغلقة على نفسها، واللاغية للحوار الحضاري مع الآخرين” في البنية العميقة للمجتمع وفي المؤسسات بمختلف أنواعها. إن هذه التشكيلات والشخصيات السياسية المتسلطة، التي شكلت رأسمالها النفسي والسلوكي والذهني ثقافة الإلغاء، والتمركز الفردي في داخل الأسرة، وفي بيئة المحيط الاجتماعي بكل تنوعاته، تساهم بدورها إفراز توليد العنف الرمزي والمادي في الحياة السياسة والاجتماعية في المجتمع الجزائري بوعي حينا ومن دون وعي حينا آخر.
ومن هنا ندرك أن إحداث تحوَل راديكالي في هذا المجتمع وفي البنيات المكونة لهويته مشروط حتما ومسبقا بتنفيذ مشروع التربية الديمقراطية بدءا من خلية الأسرة ومرورا بالمحيط الاجتماعي، والبيئة السياسية، والإدارية وغيرها من الفضاءات الأخرى. لاشك أنَ إنجاز هذا الشرط كفيل بتحويل الأفراد نفسيا، واجتماعيا وجعل الوازع الديمقراطي ناظما مؤسسا للعاطفة وللوعي، وللاوعي، وللضمير، ومن دون هذا فإن الديكتاتورية ستبقى قائمة.
لكي يتم إنجاز مثل هذا المشروع الحيوي الضامن فإن لابد من دراسة وتحليل وفهم وإدراك كيف يتكوَن الفرد منذ الصغر وقبل أن يصبح حاكما متسلطا، ومزدوج ومتناقض الشخصية يتحايل على تقمّص هوية مزيفة يعمل على تسويقها للمواطنين والمواطنات في صورة داعية للعدالة والحريات والحكم الرشيد.
من البديهي القول بأن الحكَام الديكتاتوريين لا يأتون من خارج المجتمع وبنياته الاجتماعية والثقافية لأن الحكام ليسوا سوى التعبير عن الثقافة والقيم السائدة في المجتمع. على أساس هذا التشخيص نرى أن قراءة تضاريس الأزمة السياسية في الجزائر – وفي صلبها أزمة المعارضة التي تفتقد إلى المصداقية جراء انتماء أغلب رموزها في الماضي إلى المنظومة الثقافية التقليدية التسلطية ومؤسساتها وأجهزتها الأيديولوجية _ ينبغي أن تكون مرتبطة ارتباطا عضويا بالتغيير جذريا لبنية التخلف المركبة المترسبة في الذهنيات والعلاقات والسلوك، والتي تترجم عمليا بداخل مختلف المؤسسات وفي صدارتها المؤسسات الاجتماعية، والثقافية، والتربوية، والادارية والسياسية.

*كاتب جزائري/”الشروق”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *