بدا معرض الكتاب الذي نظم الأسبوع المنصرم في تونس بنكهة فريدة ميزته عن الدورات السابقة التي حضرتُ العديد منها خلال الثلاثين سنة الاخيرة . المعرض تم إطلاقه بعد أيام قليلة من الاعتداء الإجرامي الذي تعرض له متحف «باردو» الشاهد على تراث تونسي عريق ضارب في الجذور الفينيقية والرومانية والعربية الإسلامية. وقد رفع مثقفو تونس خلال المعرض شعار «لا يمكن للإرهاب أن يهزم تراث ثلاث آلاف سنة من الحضارة»، وحرصوا خلال احتفالية الكتاب الحافلة بالأنشطة الثقافية الغزيرة أن يوصلوا للعالم رسالة قوية مفادها أن تونس ترفض الخوف والأبواب المغلقة، ولا تزال بوسطها الفكري المتألق ومجتمعها المدني الحي حصناً منيعاً ضد التطرف والإرهاب. وحين كنتُ في تونس هذا الأسبوع، لاحظت أن فاجعة «باردو» كادت تختفي من واجهة المشهد العام حتى لو كانت الأنباء حول ملاحقة المتشددين في الحدود مع الجارتين الشمالية والجنوبية (الجزائر وليبيا) تحمل الجديد كل يوم. كانت الصحف والمنتديات التونسية مشغولة بالجدل الذي خلفته مواقف المفكر التونسي العجوز «محمد الطالبي» (94 سنة)، الذي أسس جمعية ثقافية باسم «جمعية المسلمين القرآنيين»، نظم لها عدة لقاءات نقاشية مثيرة، طرح فيها فتاوى فقهية جريئة، وأفكاراً استفزازية جديدة (مثل نفي تحريم الخمر والبغاء.. ). ومع أن «الطالبي» عرف من قبل مؤرخاً جاداً وباحثاً رصيناً بعيداً عن الأضواء، إلا أنه تحول في آخر عهد الرئيس السابق «بن علي» إلى معارض شرس للنظام، وبعد ثورة 2011 وقف بحدة ضد حركة «النهضة» مع أنه أصدر في الآن نفسه كتاباً نقدياً حاداً لمن سماهم « الانسلاخسلاميين» التونسيين، ويعني بهم الحداثيين العلمانيين الذين اتهمهم برفع شعار إصلاح الدين من أجل هدمه دون أن تكون لهم شجاعة الخروج علناً منه.
يعكس الجدل الذي خلفته مواقف الطالبي الأخيرة حيوية عالية في الحقل الثقافي التونسي، حيث تشكل مباحث التأويلية الدينية ومناهج تحليل الخطاب الديني وتاريخية التراث منحى رئيسياً فيه، وتكفي الإشارة هنا إلى الاحتفاء خلال المعرض بوجه فلسفي وفكري آخر هو «يوسف الصديق» الذي نشر كتابان حول التأويلية القرانية أثارا جدلًا كبيراً بين الباحثين، وإلى كتاب الباحث القانوني المعروف «عياض بن عاشور» (حفيد العلامة الأشهر الطاهر بن عاشور وابن مفتي تونس الأسبق الفاضل بن عاشور)، «الفاتحة الثانية» الذي صدرت ترجمته العربية، وقد أراد أن يقدم فيه مقاربة تأويلية تحديثية للمرجعية الإسلامية في مسائل حقوق الإنسان والديمقراطية التعددية. لاقي هذه الكتابات ردود فعل واسعة لدى تيار الإسلام السياسي التونسي الذي تتقاسمه اتجاهات عديدة ظهرت جلية خلال الانتخابات الأخيرة التي تراجعت فيها حركة “النهضة” وظهرت الخلافات العلنية بين قياداتها. الواقع أن الثقافة شكلت دوماً في تاريخ تونس المعاصرة ورقة محورية في الصراع السياسي الذي انتظم حول موضوع الإصلاح الديني والاجتماعي منذ مشروع كبير وزراء الباي (الملك) خير الدين التونسي في منتصف القرن التاسع عشر لتجديد الدين تعليماً وتأويلا ًوتحديث البلاد سياسياً واجتماعياً وفق النموذج الأوروبي (مما تضمنه كتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، كما أن النخبة الأولى التي قادت الحركة الوطنية تشكلت أساساً من الوجوه الزيتونية الإصلاحية، وخريجي المدرسة الصادقية الحديثة الذين حملوا القيم التنويرية الليبرالية، وفي مقدمتهم الزعيم «الحبيب بورقيبة»، الذي كان متشبعاً بثقافة الثورة الفرنسية والفلسفة الوضعية.
منذ سنوات الاستقلال الأولى، طرحت المسألة الثقافية في صلب الصراع السياسي بين الكتلة المحافظة التي مثلها الزعيم «صالح بن يوسف» والتيار الليبرالي التنويري بقيادة بورقيبة الذي بدأ مساره في الحكم بقرارات جريئة مثل تحديث التعليم الزيتوني ومدونة تحرير المرأة وتأميم الأوقاف، قبل ان يندلع الصراع الأيديولوجي في نهاية السبعينيات بين الحزب الدستوري الحاكم و«الاتجاه الإسلامي» بعد مرحلة صدام عاصف مع اليسار الماركسي والقومي. بعد الثورة عادت المسألة الثقافية إلى واجهة الصراع السياسي الذي تمحور حول منزلة الدين في الشأن العام، وأفضى من خلال الحوارات المطولة في الجمعية التأسيسية التي عهد إليها بكتابة الدستور الجديد إلى تأكيد التركة التنويرية التحديثية للمشروع الوطني التونسي الذي يواجه اليوم هجمة التطرف والارهاب بشجاعة مثقفيه ومجتمعه الأهلي النشط.
*كاتب وأستاذ جامعي موريتاني/”الاتحاد”