هل يَصْدُق قول عبد الرحمن بن خلدون، كما ذكر عبد السلام بهيج في تعليق على الفايسبوك على مقال الأسبوع الماضي، “..إذا عم الفساد في دولة فإن أولى مراحل الإصلاح هي الفوضى..”؟ ربما. سبق أن ذكرت في مقال بعنوان الانحلال (“الخبر”: 03/04/2012) رؤية ابن خلدون، ومما جاء فيه على الخصوص تذكير بالأطوار الخمسة في حياة الدولة:
الطور الأول هو انتصار العصبية، مثلا في الحالة الجزائرية انتصار جبهة التحرير وتحقيق الاستقلال.
الطور الثاني هو تحول العصبية إلى مُلك، وتخلص صاحب الملك من أصحاب العصبية الأولى واستخدام الموالي..
أما الطور الثالث فيسميه ابن خلدون طور الفراغ والدَّعَةِ، أي الاستكانة والركود.. فالدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها، ويتفرغ السلطان لشؤون الجباية، وإحصاء النفقات والاقتصاد فيها.
الطور الرابع: هو طور القُنوعِ والمسالَمَةِ، والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة ركود كامل فلا شيء جديد يحدث، ولا تغيير يطرأ، كأن الدولة تنتظر بداية النهاية. لا تعليق.
الطور الخامس: هو طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمعه أسلافه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته، فيكون مخرباً لما أسسه سلفه وهادماً لما بنوه. “وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض”. لا تعليق..
ابن خلدون يرى أنَّ بداية انحلال الدولة يرجع إلى عنصرين هما: انحلال العصبية.. والانحلال المالي نتيجة تبذير السلطان، ولهذا تنهار الدولة سياسياً واقتصادياً. نظرية ابن خلدون في الدولة ما زالت تبدو صحيحة وتتكرر أمام أعيننا. فالدولة ما زالت مجرد مُلك، وإن لم يكن ملكا عائليا فهو مُلك أوليغارشي، حيث تحتكر أقلية، بغطاء العصبية أو الثورة، الدولة وتخضعها لرؤيتها وتقديرها أو لمصالحها، كما هو الحال اليوم. الجانب الآخر من نظرية ابن خلدون هو غياب التراكم، لأن الدولة تبدأ دائما من نقطة الصفر، ويسبق ذلك دائما مرحلة من الفوضى تسود مرحلة الانحلال، ثم مرحلة ظهور عصبية جديدة على أنقاض العصبية المنحلة المتلاشية. إن انحلال العصبية أمر تم تدريجيا، وأنهت هذه السلطة ما تبقى من العصبية المنتصرة على الاستعمار بإقصاء الناس والانحياز للمصالح الداخلية والخارجية، بل هي اليوم تعرض المشروع الوطني للانهيار الكامل.
أما الانحلال المالي فيمكن أن نراه في فوضى المال والتجارة والأعمال، فالسلطة لم تظهر أنها تتبع استراتيجية اقتصادية لتوظيف الثروة وانتزاع أكبر المنافع منها، إلا إذا اعتبرنا أن كل ذلك هو استراتيجية استحواذ على الثروة العامة ينتهي بـ “خوصصة” الدولة كلها. ولأن ذلك تم ويتم في إطار فوضى، حيث قامت إمبراطوريات مالية من دون أي استحقاق قانوني ولا استثماري ولا منفعي، وكان مصدرها الأساسي، إن لم نقل في حالات كثيرة الوحيد، هو المال العام، ولأن ذلك تم ويتم مع تغييب المؤسسات وإضعافها وفرض الرداءة عليها، وتم ويتم في غياب الرقابة وفي غياب حياة سياسية وسلطات مضادة، فإنه يكون طبيعيا فاقدا للشرعية ويدرج في الغالب في خانة الفساد. ذلك عامل قوي لبث الفوضى وتبرير عدم الالتزام بالقانون وتجاوزه من قبل الأقوياء وتقليد باقي مكونات المجتمع لهم. هذه عوامل أضعفت سلطة السلطة معنويا وزادت سلطة وسطوة الأفراد والجماعات قوة. الوجه الآخر للانحلال هو تداخل المال والتجارة مع السلطة، وصار البعض يتصور أو يعمل اليوم على جعل المصالح المالية والتجارية الضخمة بديلا للوطنية المنتصرة وبديلا للمشروع الوطني، بل ويمكن أن تكون بديلا لشرعية الشعب. ذلك هو عمى المصالح وعمى القلوب التي فرغت من كل وطنية، وذلك ما يجعل البلاد عرضة لفوضى عارمة عميقة ويهدد الدولة واستقرارها وتماسك أوصالها. لقد رأينا السلطة، منذ فترة طويلة الآن، تجعل الحلول تقوم في الغالب على عاملين اثنين فقط: الريع النفطي والزمن. أي أنها استخدمت وتستخدم المال بإفراط، وجعلته أداة حكم ونفوذ، ووظفته لكي يكون مسكنا ظاهريا لا يعالج أصل المشاكل، ثم هي تتفادى اتخاذ القرار أو الحسم السياسي، وتنتظر أن يتولى الزمن فقدان المشكل لقوة الضغط فيه. فهل يمكن أن يعوض ذلك استراتيجية، ويعوض الدولة والمؤسسات والقانون، ويمكن أن يمنع انهيارا وانتشارا للفوضى؟!!
*صحفي جزائري/”الخبر”