ثمة حكاية تُروى عن رجل بخيل كان يتردّد على أطفال شقيقه المتوفى، حاملاً من باب رفع العتب، القليل من فتات طعام متبقٍّ في منزله. وكان في كل مرة، يسعى الى تبرئة ذمته من تقصير، بإخبارهم عما شاهده في السوق من طيبات الفواكه كالبرتقال والموز والتفاح، التي «اشتهاها» لهم وكان يودّ إحضارها لولا ظروف منعته، ويعدهم بذلك في الزيارة المقبلة. وتكرّر الأمر، الى أن استوقفته أرملة أخيه ذات يوم وهو مغادر، وتوسّلت إليه ألا يعود الى ذكر الفواكه اللذيذة أمام الأطفال لأنهم يمنّون النفس بها، ثم يحزنون كل مرة لدى عودته فارغ اليدين.
من منطلق اليأس والإحباط، أصبح عامة الليبيين يقارنون أنفسهم بالأيتام على موائد الدول الكبرى، التي تصرّ على توجيه رسالة إليهم مفادها: ساعدوا أنفسكم لكي نساعدكم، متجاهلة ما يعانونه من أزمة مركبة تداخلت فيها «حروب الآخرين» على أرضهم، وتنافس الأطراف الداخلية التي يغدق عليها الخارج وعوداً وتطمينات تشجّعها على الإمعان في تعنّتها.
للوهلة الأولى، يبدو الموقف الدولي الممتنع عن دعم طرف دون الآخر في الأزمة، «صائباً سياسياً»، لكنه ليس بالضرورة أخلاقياً، في بحثه عن خيط وهمي يفصل بين صراع سياسي متعدّد الأوجه والأبعاد، وفوضى أمنية مكّنت الإرهاب من موطئ قدم في البلاد.
يدرك الغرب أن الكيدية السياسية تستدعي تبادل طرفي النزاع الاتهامات، برعاية الإرهاب أو التسبّب باستحضاره، في غياب إجماع في الشارع الليبي يبنى عليه توافق بتهدئة داخلية لتتسنى مواجهة التهديدات الخارجية، لكن الغرب يغفل في الوقت ذاته، أن صراع الأطراف التي تصدّرت المشهد السياسي منذ سقوط حكم العقيد معمر القذافي، بما في ذلك قوى الإسلام السياسي، وتبعية تلك الأطراف الى الخارج، هما العاملان الأساسيان اللذان تسبّبا بالفوضى.
وثمة مبررات أعطيت لتردّد دول الغرب في دعم الطرف الذي تعتبره «ممثلاً للشرعية»، منذ جريمة ذبح ضحايا مصريين وبعدهم ليبيين على أيدي «داعش»، وأول مبررات التردد، هو الخوف من انزلاق دول الجوار الى مستنقع حرب مفتوحة مع الإرهاب. لكن مراكز القرار في الغرب لا تبدو في الوقت ذاته مستعدة للانخراط في تدابير جدّية لتحصين أمن الإقليم، بما في ذلك تجفيف منابع الإرهاب وتمويله وتبادل المعلومات حول مخاطر وشيكة، وكأنها بذلك تترك الأبواب مشرّعة أمام توالي مسلسل الجرائم المتنقلة على الساحة الليبية وفي الجوار.
وهذه الممارسة تدخل في صلب الانتقادات الموجّهة الى إدارة الرئيس باراك أوباما، بالتقاعس عن بلورة استراتيجية لمحاصرة الإرهاب الذي باتت حركته معروفة. لكن تجاوز هذه العقدة من منظور دول الجوار الليبي، قد يكون في العمل على فصل الأزمة في ليبيا تحديداً عن الصراع الإقليمي، ووضع خطة للتعاون مع السلطات الموجودة في طبرق وأطياف سياسية في أنحاء ليبيا (سواء في مصراتة أو طرابلس أو الجنوب)، تعارض تمسّك مراكز قرار في واشنطن ولندن بحجز مقعد لعرّابي الإسلام السياسي في مقصورة التحكّم بدفة القرار الليبي.
وإذا كان مدخل الحلّ السياسي يمر بتوافقات وتنازلات بين الأطياف الليبية، فمن الأجدى أن يحصل ذلك بين «قوى وطنية» تتحرّك من منطلق السيادة وحسن الجوار، وتنبذ نزعة «الإقصاء والتهميش»، وترفض تحويل بلادها ساحة لتصفية حسابات خارجية، فالبحث عن تلك القوى أكثر فائدة في نسج سياسات تحصّن الأمن القومي في ليبيا والمنطقة.
*كاتب صحفي/”الحياة” اللندنية