إنه لإحساسنا أكثر من سوانا من أمم الكون، لاسيما في مثل هذه المرحلة بالذات من تاريخنا، بأننا بتنا في موقع الأمة المقهورة والمهانة، او المستضعفة والمستباحة، أوالمعتدى بسهولة عليها…الأمة المسلوبة الحقوق والمفترى عليها، والمحرومة من حريتها والممنوعة من وحدتها، والتي يحال بينها وتلمُّس طريقها إلى النهوض والتقدم بعديد من السبل والوسائل، ومنها هندسة انظمتها وسرقة ثرواتها وهدر امكانياتها،إلى جانب مستدام التآمر عليها…فنحن،ولهذا، أوْلى بني البشر بأن نكون في مقدِّمة الرافضين واصدق المواجهين لكافة اشكال ومظاهر وتجليات الظلم والعدوان على الآخر، وادانة المعتدين بكافة تصنيفاتهم ومسمياتهم، ادولاً هم أم جماعات أم افراداً، والتعاطف مع المظلومين والتضامن مع المعتدى عليهم، ودولاً كانوا أم شعوباً أم جماعاتأم اشخاصاً…ولأن ما يسمى الارهاب في نظرنا هو كل ما يُرتكب من فعل مجرم ومرهب ضد ابرياء، أو يرتكبه مستعمر أوادواته ضد شعوب مسالمة، فنحن قبل سوانا، وقد كابدناه ونكابده أكثر من غيرنا، لابد وأن نكون الأحرص على إدانته وشجبه ورفضه في أي زمان وأي مكان وممن كان وضد أيٍ كان…
نستحضر هذا أولاً، ونحن نتوقف أمام أمرين أعقبا جريمة صحيفة “تشارلي ايبدو” النكراء. أولهما، هومحاولة الغرب الفورية توظيفها في ابتزاز العرب والمسلمين عبر تحميلهم ظلماً وزرها، واتخاذها درقةً لتبرير حروبه الإرهابية على “الإرهاب” في بلادنا، أو حروبهلاستعادة وتوطيد الهيمنة الاستعمارية شبه المباشرة وشبه المكتملة عليها. وستطراداً، حربه العنصرية على المهاجرين اللائذين بربوعه، وموالاة ديدن شيطنته للآخر الذي هو الآن نحن تحت يافطة “التطرُّف الإسلامي”، ووصمنا بالهمجية المعادية للحضارة التي يراها حصراً متمثلة به دون سواه، أي تبرير عدوانيته التليدة تجاهنا…وثانيهما، تلكم الدونية البائسة والاستلاب المخزي الذي بدى في غير قليل من ردود الفعل العربية التي اقترب بعضها من الاعتذار عن ما ليس لنا فيه ناقةً ولا جملاً، أو كأنما نحن المسؤلون عن جريمة لم يرتكبها سوى الفرنسيون أنفسهم، أو كأنما هى ليست نتاجاً فرنسياً خالصاً، وان من ارتكبها ليسو فرنسيين مولداً وجنسيةً ولساناً ومدرسةً،ونشأوا وترعرعوا تحت طائلة عنصرية تليدة وتهميشاً مشهوداً…إذ لو كانت الفرنسة متعلقة بزمرة دم، أو مسمى دين، لجاز والحالة هذه حسم عشرين في المئة من تعداد الفرنسيين، ولما كان من ضحايا اعتداء “تشارلي أيبدو”، التي لطالما استفزت مشاعر المسلمين، مسلمان…
إن الأولى بالاعتذار وحدهم هم ورثة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، ومن دشَّنوا تاريخهم غير البعيد بإبادة أمم وإزالة شعوب وطمس حضارات، والقريب باشعال فتيل حربين كونيتين أخيرتهما حصدت وحدها ما قارب الخمسين مليوناً، أما الأقرب، فما نشهده في بلادنا وفي مقدمته جريمتهم المستمرة المتمثلة في الكيان الصهيوني، والذي، وياللمفارقة، قد تصدر رئيس وزرائه نتنياهو، الغارق حتى اذنيه في الدم العربي الفلسطيني، مظاهرة “كلنا تشارلي”…الأولى بالاعتذار هوالغربالمسؤول قبل سواه، وبمساعدة من امتداداته المحلية، عن كل ما يسفك من قطرة دم عربية في سورية والعراق واليمن وليبيا، وربما لاحقاً باقي الخريطة العربية من محيطها إلى خليجها، جراء سياسات ومؤامرات “الفوضى الخلاَّقة”، التي انتجت ورعت وموَّلتوسهَّلت انتشار وباء الفتن والصراعات الطائفية البشعة، وتعهَّدت تغذية استمرارية الاحترابات الأهلية المدمِّرة، التي تحصد البشر وتذرو الحجر وتمزق المجتمعات وتفتت الأوطان…الأحرى به، والفرنسيون منه بالذات، الاعتذار من عرب الجزائر، دون أن ننسى مغاربنا العربية الأخرى وأخيرتهن ليبيا، أما الأميركان، الذين انتهزوا الحدث الفرنسي وسارعوا لتوظيفه بالدعوة إلى قمة عالمية في واشنطن الشهر القادم لعولمة حربهم الإرهابية على الإرهاب، فعليهم الاعتذار ليس للعرب والمسلمين فحسب وإنما للعالم كله، والقائمة طويلة، من هيروشيما وحتى ابوغريب وغوانتينامو…
مأساة “تشارلي ايبدو” قسَّمت اوروبا، المزيج من العنصرية والمصالح والجهل بالآخر، والمعلنة الآن النفير،إلى ثلاث: اوروبا العنصرية التليدة، التي يشحذ الآن يمينها المتنامي سكاكين عنصريته ضد العرب والمسلمين والأفارقة والأجانب بشكل عام، أو اوروبا “بيغيدا” المتنادية لمواجهة خطر “اسلمة” اوروبا”، أو الخطر الذي يتهدد طريقتها في الحياة، وهى التي لم تعبأ يوماً بأفاعيلها ضد حياة الآخرين، والمؤمنة بأن معاداة السامية جريمة لاتغتفر ومعاداة العرب والمسلمين والإساءة الى رموزهم وقيمهم المقدسة مجرد حرية رأي…والثانية، اوروبا المتعقِّلة، أو المسؤولة، التي تدرك أن الفزعة البيغيدية الراهنة تهدد اوروبا ذاتها قبل سواها، وعلى رأس ماتتهدده فيها تلكم القيم التي تزعم عادةً الدفاع عنها،أوتحرص عليها في داخل ديارها ولا تتوانى في خرقها في خارجها…من بين هذه الأصوات العقلانية الشجاعة على قلتها، ما كانتلسياسي ومثقف من طراز دومونيك دوفيلبان، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، الذي اعتبر الإرهاب بمثابة “الطفل الوحشي لتقلُّب السياسة الغربية”، مهيباً بغربه “الوقوف أمام الحقيقة المؤلمة التي شارك بقوة في صنعها”.كما ولعل المستشارة الألمانية انجيلا ميركل قد ابدت تعقلاً أيضاً حينحرصت على المشاركة في تظاهرة للمسلمين الألمان في برلين تدعو لحرية الدين وحرية الرأي…أما اوروبا الثالثة، فهى اوروبا السياسية الواقعة في ظاهرها مابين الاثنتين، لكنهافي باطنها ليست سوى تلك التي لن توفر فرصة تسنح لتوظيف شبح “الأسلاموفوبيا”، وفزَّاعة “الذئاب المنفردة”، لتمرير وتبرير وتطوير سياساتها الإستعمارية في بلادنا…
*كاتب فلسطيني