يعرف الليبيون قصة كيس الفئران وكيف تمكن حامله من نقلها بهز الكيس بشدة حتى تتعارك في ما بينها، وتتلهى عن قضم ثغرة تفرّ منها. هي ذاتها نظرية «فرّق تسد»، فطالما أن أفراد المجتمع منشغلون في خلافاتهم، لن يتفرغوا لعمل مشترك لتغيير واقعهم.
والمشكلة أنه كلما التفت الليبيون برهة لإلقاء نظرة بتجرّد على وضعهم المأسوي، كلما برزت خضات تعيدهم للانشغال بصراعاتهم. أكثر من 200 بليون دولار من الأرصدة التي خبأها معمر القذافي (ويقال 300 بليوناً)، بددتها طبقة استحوذت على القرار بعد سقوط نظامه. مبلغ معتبر، كان بالإمكان استثماره في مجالات حيوية مثل الصحة والتعليم والإسكان. ويتبادل الساسة الاتهامات حول فقدان هذه الأموال على طريقة «هات برهانك»!
يروى أن حلاقاً استخدم فتى مساعداً له وأخذ يدربه على الصنعة من دون أن يفشي له أسرارها. وذات يوم، جاءه زبون أراد أن يحلق ذقنه، فأشار الحلاق إلى الفتى أن يقوم بالمهمة. وكان كلما صرخ الزبون ألماً من جرح الشفرة، يتناول الحلاق ما بيده ويرشق به الفتى فيخطئه ويصيب الزبون الذي تضاعفت معاناته مع تصاعد عصبية الحلاق الذي وصل به الغضب إلى حد تهديد الفتى بضربه بموسى الحلاقة. لكن الفتى أخطأ مجدداً وقطع أذن الزبون فما كان من الأخير إلا أن همس للفتى قائلاً: «خبيّها، خبيّها»… لكي يتفادى ضربة تقطع رأسه بعد قطع أذنه!
هذه حال الغالبية الصامتة من الليبيين التي باتت «كالمستجير من الرمضاء بالنار»… ينظرون بحسرة إلى تجربة تونس ونخبتها مقابل «النكبة» التي ابتلوا بها في عهد العقيد وبعد سقوطه الذي توّج بـ «خطاب تحرير» لإعلان انتصار «17 فبراير»، لم يفهم منه المتابعون في الخارج سوى ما تضمنه من دعوة إلى تعدد الزوجات.
كلهم يسأل عما يحصل في ليبيا، والجواب «سهل ممتنع» … منذ أن استحضرت أطراف الصراع مختلف أدواته ومستلزماته، بدءاً بمعادلة «من ليس معنا فهو ضدنا» التي «رشقنا» بها جورج بوش الابن غداة «11 سبتمبر» للهروب من سؤال «لماذا يكرهوننا؟»، وصولاً إلى نظرية غوبلز: «اكذب اكذب اكذب حتى يصدقك الآخرون».
من «يملك الأرض» يفتقد القدرة على إيصال رسالته، هذا إذا توافرت لديه رسالة من خلف المتاريس، ومن يفتقد السيطرة على الأرض يحاول تعويضها بقدرة هائلة على نشر رسائل متطايرة في كل مكان، حتى شكلت غمامة تحجب الرؤية.
ويحدثونك عن تطهير عرقي وقطع رؤوس وهما نتاج طبيعي لإثارة نعرات مكبوتة سعياً إلى السلطة والتسلط… وكذلك عن سيطرة فلول «المقاتلة» (النسخة الليبية لـ «القاعدة») على مفاصل الدولة، وفظائع وأهوال، كلها نتاج الفشل الجماعي في الحد من التدخلات الخارجية، والتواضع من أجل التوصل إلى وفاق وطني أسوة بـ «التوانسة» كما يحلو لليبيين تسميتهم.
ولا يفوتنا، أن «إخوان» ليبيا ليسوا كأترابهم في تونس الذين يتحركون في وسطٍ فرض عليهم الانفتاح والمشاركة، في حين أن «إسلاميي» ليبيا كانوا جزءاً من «المصالحة» تحت عباءة القذافي، خدمة لمشروع توريث نجله والذي اضطلع به «الليبيراليون»، قبل أن يتشارك الطرفان في «ثنائية» الحكم بعد سقوطه…إلى أن انهارت لعبة تقاسم الأدوار وانغمس الجميع في مكيدة عبثية لتقطيع أوصال البلاد … لعلها تكون مدخلاً لاعادة وصل ما انقطع.
*كاتب ومحلل سياسي /”الحياة” اللندنية