تعدّدت الأسباب والواقع واحد. فالحدود المغلقة بين المغرب والجزائر، نتيجة خلافات سياسية متشابكة، انسحب مفعولها على الشريط الحدودي بين تونس وليبيا، ثم بين الجزائر وكلّ من تونس وليبيا، بدوافع احترازية لتطويق التهديدات الأمنية والإرهابية. وإلى هذا الحين، لا تزال العواصم المغاربية التي خلّدت ذكرى مرور 27 سنة على تأسيس الاتحاد المغاربي، على خجل تمني الخواطر بإمكان معاودة تفعيل هيكل لم يبقَ منه سوى عظامه.
إن لم يكن الاتحاد المغاربي، الذي يوصف بالخيار الاستراتيجي الذي لا بديل منه، قادراً على فعل شيء في مرحلة الأزمات والمحن، لماذا يصلح أصلاً؟ إن كان قادته عاجزين عن مجرد الاتفاق على موعد وإمكان التئام القمة المؤجلة منذ أكثر من ربع قرن، هل يصبح في إمكانهم معالجة تحديات المنطقة، في غياب الحد الأدنى من الوفاق الذي يشمل التعبير عن النوايا والتقاط صور تذكارية بتقليد تبويس اللحى؟
يصعب الجزم بأن ما تبقى من الاتحاد المغاربي يستطيع أن ينهض من تابوته الذي وضع فيه. فالتلويح بالحاجة إلى معاودة النظر في أسس البناء المغاربي، بما في ذلك تغليب المنافع الاقتصادية على الخلافات السياسية، والإبقاء على المشروع إطار حوار يتجاوز المنظور القطري، يتطلب في المقام الأول حدوث اللقاء وطرح الأفكار والمبادرات، وطالما أن عقد القمة المغاربية صار أبعد من متناول اليد، سيستحيل إقناع الأجيال المغاربية الجديدة التي فتحت عيونها بعد آخر قمة في العام 1994، بأن هناك اتحاداً مغاربياً ينص ميثاقه التأسيسي على تفعيل التكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي، ومحاورة الشركاء الأوروبيين شمالاً والخليجيين شرقاً بصوت واحد مسموع.
إقرأ أيضا: الاتحاد المغاربي والفرص الضائعة
أخفقت منطقة الشمال الأفريقي في تدبير البناء المغاربي لأسباب عدة، كان في مقدمها تباين الخيارات والأنظمة في فترة التوجه الى بناء الاستقلال، ثم انكفأت بفعل تأثير الحرب الباردة التي كانت تندلع بالوكالة في أجزاء مختلفة من العالم، لكن الدول المغاربية التي استحدثت الاتحاد بهاجس توقعات مستقبلية، لم يكن انهيار المعسكر الشرقي وأفول الحرب الباردة بعيدين منها. لم تتمكن من الإفادة من أجواء تسعينات القرن الماضي، ولئن كان صحيحاً أنها مالت في اتجاه الانفتاح الاقتصادي والسياسي غير المكتمل، فالصحيح أيضاً أنها لم تنفتح على بعضها، بالقدر الكافي الذي يكفل بناء تفاهمات استراتيجية لا تتأثر بالظروف العابرة والعارضة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. جاءت تداعيات ما يعرف بالربيع العربي لتزيد الأزمة استفحالاً، خصوصاً في ضوء تنامي التهديدات الإرهابية التي كانت تطوق المنطقة عند خصرها في الساحل الأفريقي، وتمددت إلى مستويات أخطر بعد تغلغل تنظيم «داعش» الإرهابي في أجزاء واسعة من ليبيا. وبدا جلياً غياب الموقف المغاربي الموحد. أكان ذلك على صعيد التنسيق الثنائي ومتعدد الأطراف، أو في نطاق بذل جهود مشتركة في التصدي للأخطار المتنامية.
لئن كان تشديد الرقابة على الحدود جزءاً من منظومة أكبر تفرضها مواجهة التحديات الأمنية والإرهابية، فإن هذه الإجراءات الاحترازية لا ينبغي أن تذهب إلى مدى أبعد، لأن أهم ما كان يميز منطقة الشمال الأفريقي في فترة مواجهة المد الاستعماري، أنها ألغت الحواجز والحدود، وبالتالي فإن تحويل الأشرطة الحدودية إلى فضاءات للتعاون واستيعاب تقاليد الجوار وتعايش الأفراد أفضل من إغلاقها، مهما كانت الضرورات التي تحتّم النزوع إلى حماية الأمن وصونه. إذ في إمكان حركية الحدود أن تصبح حاجزاً أمام تسلل التنظيمات الإرهابية، من خلال يقظة السكان وإشاعة الثقة. فقد تأكد أن الشعوب حين تدمج في صلب أي معارك أو تحديات تكون النتائج إيجابية.
أكثر ما يخشى من النزوع المتواصل في إغلاق الحدود، عبر إقامة الخنادق والستائر الترابية وأجهزة الإنذار المبكر، أن يتسبب في إعاقة حركية تنقل الأشخاص والبضائع كونها من مزايا الانفتاح الذي يساعد في تقوية التضامن والتفاعل بين الشعوب.
لن تخسر المنطقة المغاربية أكثر مما بددته خلافاتها السياسية المتراكمة، إن هي اهتدت إلى وقفة تأمل تجعل من الانخراط الشامل في الحرب على الإرهاب مدخلاً لمعاودة النظر في العراقيل التي أعاقت البناء المغاربي. فالفرصة سانحة بمنطق أن لا خلاف على هذه القضية. لولا أن التناقضات الأكثر نفوذاً تؤكد أن التلويح بالخيار المغاربي شيء والذهاب نحو تفعيله يتطلّب تجديد إرادة شبه غائبة إلى اليوم.
وكل ذكرى والاتحاد المغاربي يترنح تحت مزيد من الإخفاقات، التي تقيم الأسوار عالية بين الرغبة والقدرة.
كاتب صحفي/”الحياة”