ربما شاءت مصادفات التاريخ العربي أن يرحل عنا محمد حسنين هيكل، الكاتب والصحافي المصري الكبير، في لحظة الذروة في مسلسل التاريخ المعاصر للعرب، وانقلاب المعادلة في السياسة العربية من الزعيم الفرد، الذي كان أثيرا لديه بحكم ارتباطه الوثيق بجمال عبدالناصر حيا وميتا، إلى الشارع والمجموع بعد التحولات التي حصلت في حقبة ما بعد الربيع العربي، وما جره ذلك على البلدان العربية من حراك اجتماعي أدى إلى يقظة الهواجس الجماعية، مذهبية كانت أم طائفية أم دينية متطرفة.
ارتبط هيكل بالرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر طيلة مساره الصحافي والمهني منذ ثورة يونيو 1952، واستطاع بنجاح قل نظيره أن يكون وراء ابتكار مفهوم الناصرية كأيديولوجيا أو توجه سياسي قومي داخل مصر وخارجها، تقليدا لصرعة سياسية كانت رائجة في مرحلة الستينات والسبعينات، لازمت عددا من الحكام الأفراد، كالماوية والستالينية والتروتسكية، وهي صرعة ارتبطت بالزعامة الفردية والحكم الفردي والتماهي بين الشخص والدولة، وفقا للمقولة المعروفة للويس الرابع عشر ملك فرنسا “أنا الدولة”.
وقد بقي هيكل متشبثا بالناصرية حتى بعد أن انفض عنها الجميع وصارت مجرد نوستالجيا، بل إنه أصبح تقريبا الوحيد الذي كلما ظهرت صورته لاح وجه عبدالناصر من خلفها، بحيث بات الكثيرون يرون في الرجل بقايا مرحلة سياسية، وشخصا يعيش على تذكار الماضي وإعادة تقديمه بأسلوب جديد. ولم يكن هذا مجرد ولاء شكلي، فالظاهر أن هيكل كان مقتنعا بما يدافع عنه، بدليل أنه قدم رأسه لأنور السادات فداء قناعاته حين اختلف معه حول تركة عبدالناصر، ورفض تولي أي مسؤولية سياسية في عهده، بل فضل الاعتقال ثمنا لما كان يؤمن به.
لكن هيكل، وهو يضع نفسه في خدمة الناصرية، أعد نفسه منذ البدء على التحقيب للسياسة العربية انطلاقا من المواقف التي اتخذها عبدالناصر في فترة حكمه، ومن جملة المفاهيم والمبادئ التي كان هذا الأخير ينادي بها، والتي تعود في مجملها إلى صياغة هيكل ذاته. وهي ملاحظة تأخذني إلى ملاحظة أخرى سجلها المفكر المغربي عبدالله العروي في مذكراته، حين اعتبر أن الوحدة العربية التي كان عبدالناصر يدعو إليها تأخذ بعين الاعتبار مصلحة مصر الناصرية أكثر مما تأخذ بعين الاعتبار المصالح العربية.
إقرأ أيضا: وفاة محمد حسنين هيكل ..صحافي صنع نجوميته الحكام
بعد وفاة الملك المغربي الحسن الثاني عام 1999 أطلق هيكل لسانه بالطعن فيه وفي السياسة المغربية إبان حقبة الستينات، فكتب عدة مقالات مطولة في المجلة التي كان يشرف عليها وهي”وجهات نظر”، ينتقد فيها الملك الراحل ويتهمه بمختلف التهم، ومن جملتها أنه كان وراء تسريب الجلسات السرية لمؤتمر القمة العربية الذي عقد بالرباط عام 1965 إلى إسرائيل. وقد كتب هيكل هذا المقال مباشرة بعد رحيل الحسن الثاني، وبالطبع لم يكن لديه من المستندات سوى ذاكرته الغزيرة؛ فقد تحول هيكل، والحق يقال، إلى راوية وفقا للتقاليد العربية القديمة، الذي يأتي بالأخبار التي يجب على الآخرين تصديقها، فهو كان يتكلم من موقع الشاهد الذي رأى كل شيء وسمع كل شيء، تماما كما هو ”الإله الخفي” عند لوسيان غولدمان، وهذا وحده كان الثغرة الرئيسية التي يمكن لأي واحد أن يشكك في رواياته على أساسها؛ ذلك أن هيكل كان ينسج سيناريوهات مترابطة يعرف أن الكثيرين سوف تنطلي عليهم الخدعة.
وبعد سنوات من ذلك المقال، الذي أزعج المغرب، عاد هيكل لكي يكيل الاتهام إلى الحسن الثاني مجددا، ولكن هذه المرة عبر إثارة قضية شهيرة في الجزائر شكلت مفصلا في التاريخ الجزائري الحديث، وهي حادث اختطاف طائرة تابعة للخطوط المغربية كانت تقل أربعة من جبهة التحرير الوطني، هم أحمد بن بلة ومحمد بوضياف ومحمد خيضر والحسين آيت أحمد، في رحلة من الدار البيضاء إلى تونس يوم 22 أكتوبر 1956، حيث اتهم هيكل الحسن الثاني، الذي كان آنذاك وليا للعهد، بتسريب خبر إقلاع الطائرة إلى السلطات الفرنسية التي قامت باعتقالهم. وقد نفى الحسين آيت أحمد في ما بعد هذا الخبر، ثم عاد هيكل في نفس البرنامج الذي كان يقدمه عبر قناة “الجزيرة” القطرية لكي يدلي بما يشبه الاعتذار، عندما ذكر بأن الحسن الثاني كان قد اتصل به في حينه، أي بعد نشر هيكل للخبر في الخمسينات، ونفى ما ورد فيه.
يعود خلاف هيكل مع الحسن الثاني والمغرب إلى حقبة التقاطب التي طبعت الساحة العربية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين كان عبدالناصر يبادل الملكيات العربية العداء ويدعم الحركات الثورية التي كانت تسعى إلى الإطاحة بها من المحيط إلى الخليج. وقد ظل وفيا لهذا التقاطب وينظر إلى الأنظمة العربية من خلاله، من دون أن يجرؤ على تقديم مراجعة فكرية وسياسية لمواقفه القديمة، في ضوء التحولات التي جرت في الواقع العربي؛ ولهذا السبب اجتهد طويلا في إعادة نفس المواقف التي سجلها في وقتها، بأسلوب جديد لإقناع الجيل الذي لم يعش تلك المرحلة. وقد كان يفعل ذلك بأسلوب أقرب ما يكون إلى الخيال العلمي، على نحو ما ينقل العروي في مذكراته عن الأب جورج شحاتة قنواتي الذي قال له، بعد هزيمة 1967 “أقرأ افتتاحيات حسنين هيكل كما أقرأ روايات الخيال العلمي”، ويعقب العروي في نفس الكتاب “إن ما يكتبه نوع من الخيال السياسي، نعم هيكل ساحر منوم، لكن يدغدغ عواطف من؟ رئيسه أم شعبه أم الأعداء؟”.
كاتب مغربي/”العرب”