منذ أمس الأول الأحد أصبح للجزائر دستور جديد معدّل، هو الثالث في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. تعوّدت الجزائر على أن لكل رئيس دستوره إلا بوتفليقة الذي يصر على الاختلاف والتفوق، فكان له ثلاثة دساتير: واحد وصل به إلى الحكم، وآخر (في 2008) استمر به في الحكم، وثالث لتحضير خروج آمن من الحكم له ولعائلته وحاشيته.
لم تكن الجزائر بحاجة إلى تعديل دستوري آخر أفقد الدستور هيبته وقدسيته لكثرة ما «لُعب» به. الجزائر كانت بحاجة إلى من يحترم الدستور الموجود ويلتزم بنصوصه. هنا كانت المشكلة الأساسية والأخطر. وبوتفليقة الذي تفوق على جميع الرؤساء في تطريز الدساتير، تفوق على الجميع أيضا في انتهاكها وعدم الالتزام بها، واعتقدَ دائما بأنه أكبر من أن يقيّده نص مكتوب يسمى دستورا!
تعديل آخر لن يزيد بوتفليقة قوة وهيبة ولن يكسبه ما لم يكسبه في السنوات السبع عشرة الماضية كرئيس للدولة.
المصادقة على نسخة الدستور المعدّلة جرت الأحد في البرلمان بغرفتيه وسط هالة سياسية وبروتوكولية اعتبرت الحدث فتحا ديمقراطيا جديدا. كان ذلك عيبا آخر يضاف إلى قائمة العيوب التي أحاطت بهذا الدستور منذ بدأ الحديث عنه السنة الماضية. فهذا البرلمان، إضافة إلى أنه تنعدم فيه الآراء المتنوعة والنقاش الحر والجريء، لا يمتلك سلطة قراره واستقلالية مواقفه نهائيا، فهو جاهز للمصادقة على الشيء ونقيضه في اليوم الواحد، يكفي أن يأتي ذلك من صاحب السلطة والنفوذ. كما أنه غير تمثيلي انتُخب في اقتراع افتقد لشروط الشفافية والديمقراطية، فكانت النتيجة مجلسا نيابيا هجينا يسميه الجزائريون «برلمان الحلاّقات وأصحاب المال المشبوه». (ووصفه بـ»برلمان الحلاقات» ليس بقصد إهانة صاحبات هذه المهنة، بل كناية على أنه برلمان من هبّ ودبّ).
ولأن الرئاسة تعرف حجم هذا البرلمان وقيمته المنعدمة، أرسلت نسخة الدستور للمصادقة من دون اعتراض أو حتى نقاش. كل ما كان مطلوبا من «الحلاقات» رفع اليد بالموافقة على الوثيقة كاملة بلا تعديل أو حذف أو إضافة، أو رفضها كاملة. وبما أن الرفض غير وارد البتة بسبب تركيبة البرلمان وطبيعة العمل السياسي والنيابي ككل في الجزائر، كانت النتيجة، بلا مفاجآت، 499 نعم و2 لا و16 امتناعاً، مع غياب عدد معين من نواب المعارضة الذين لم يُترك لهم غير الغياب كطريقة لإسماع أصواتهم.
لم تلجأ السلطة إلى استفتاء شعبي، كما تنص المادة 174 من الدستور، بحجة أن العملية مكلفة وتحتاج تحضيرات كبرى، وبحجة أن البرلمان انتخبه الشعب ويمثل هذا الشعب وينوب عنه في مواقف كهذه. بينما الحقيقة التي لا يقرّ بها أهل الحكم هي أنهم يسيطرون على البرلمان بعد أن اشتروا ذمته، لكنهم لا يسيطرون على المجتمع كله ولا يثقون فيه لأنهم أبدعوا في تحطيم أحلامه وإصابته بالإحباط والخيبات المتكررة.
إقرأ أيضا: بعد المصادقة على الدستور..هل دخلت الجزائر مرحلة ما بعد بوتفليقة؟
عندما كان بوتفليقة في قمة ثقته في نفسه وجرأته كان جاهزا لأكثر من استفتاء في العام، أما اليوم وهو ما هو فلا ثقة له إلا في هذا البرلمان المغشوش الذي ما أحبه أو آمن به يوما.
فات الرئاسة وأصحاب الرأي فيها أن الاكتفاء بمصادقة البرلمان يقلل من قيمة الدستور وأهميته ويضر بصاحبه (الرئيس) قبل غيره.
قبل محطة المصادقة، كان هناك مسار مشبوه اتبعته الرئاسة وسمته مسلسل مشاورات بغرض جمع الأراء من أجل التوصل إلى نسخة توافقية من الدستور. في ذلك المسلسل استقبل ممثلو الرئاسة يتقدمهم مدير مكتب الرئيس أحمد أويحيى، بلا اقتناع واضح، شخصيات عامة هي نفسها التي تتقن فنون اللعبة وتفهمها، وقد تولت الحضور في كل مناسبة والموافقة على كل شيء ينزل من الرئيس والترويج له.
في تلك اللقاءات تم التقاط الصور وتبادل المصافحة والابتسامات، ثم يترك الحاضرون مجموعة أوراق بين ايدي مساعدي أويحيى ويقفلون عائدين ينتظرون نشرة الأخبار في التلفزيون الحكومي ليشاهدوا أنفسهم ويشاهدهم أصحابهم وأولادهم ويعتبرونهم أشخاصا مهمّين ونافذين.
انتهت الاجتماعات «التشاورية» وخرج المنتوج النهائي للوجود، لكن أحداً من الذين استُقبلوا ضمن «مسلسل المشاورات» يستطيع أن يجزم بثقة بأن له بصمة أو أُخذ برأيه في الوثيقة النهائية.
من عيوب مسودة الدستور أيضا انها ثمرة اجتهاد نظام حكم لم ينجب غير الفشل وهو في ذروة قوته وعنفوانه، فكيف سينجب دستورا جيداً وهو يتآكل من الداخل ويصل إلى نهاية عمره الافتراضي.
كما أن النسخة النهائية أُعدّت في غرف مغلقة على يد مجموعة مجهولة من المحيطين بالرئيس ومساعديهم، هي التي رسمت الخطوط العريضة وتفاصيل المسودة استجابة لخصائص حكم بوتفليقة.. الرجل الذي يمسك بكل ما استطاع من مساحات الحكم، بحق وغير حق، لا يمكن أن يترك مسودة دستور قيست على مقاسه وهي الأهم له (لأنها سترسم خارطة شتاء العمر وتنظم خروجه ومَن معه من الحكم)، لأحد غيره يطرزها وفق أهوائه أو وفق مقاييس ديمقراطية لا يؤمن بها الرئيس وحاشيته.
حتى الخبراء القانونيون الذين كانت لهم أدوار سابقة في تعديلات دستورية ماضية لم يضعوا بصمتهم هذه المرة، إنما وصلتهم «النسخة الرئاسية» عن طريق ممثلي الحكومة فاطلعوا عليها من باب درء الشبهات والاطلاع. ثم لم يروا أحدا ولم يرهم أحد.
كاتب صحافي جزائري/”القدس العربي”