يظهر انتشار الاحتجاجات في تونس منذ منتصف الشهر الماضي عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المزمنة في البلاد. كما يكشف أن شيئاً لم يتغير إلى الأفضل في العلاقة بين الشرطة والشعب منذ انتفاضة عام 2011. ذلك أن «الدولة الأمنية» التي بناها الرئيس آنذاك زين العابدين بن علي لم يقدّر لها البقاء بعد الإطاحة به، إلا أن قطاع الأمن، الذي يضم مختلف قوات الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي، وفروع الجمارك الخاضعة لسيطرة وزارة الداخلية، قاوم كل المحاولات اللاحقة لإعادة هيكلته أو إصلاحه. إذ تتحكَّم بالوزارة شبكات الظِلّ من المسؤولين ونقابات الشرطة المتنافسة التي تتصرّف باعتبارها «جماعات ضغط» أو «شلل» محسوبية وتعمل من أجل مصالحها المنفصلة، في حين تؤكّد استقلاليتها عن الحكومة الوطنية.
بعد خمس سنوات من انتفاضة عام 2011، حان الوقت لأن تتولّى الحكومة التونسية قيادة وزارة الداخلية من خلال العملية الانتقالية الخاصة بها. فقد تمت إضاعة الفرصة السابقة، ونتيجة لذلك استعاد قطاع الأمن عاداته السيئة. إذ تواصل أجهزة الشرطة والأمن استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين وتدخل المنازل تحت تهديد السلاح، وبخاصة في المناطق ذات الدخل المنخفض ومناطق الأطراف. ويحاصر الضباط المحاكم بصورة دورية حيث تجري محاكمة زملائهم على خلفية الاستخدام غير القانوني للعنف ضد المواطنين. كما أن العديد من الفروع الأمنية متورّط في عمليات التهريب عبر الحدود وابتزاز الأموال في مقابل توفير الحماية في الاقتصاد غير الرسمي. ويتعرّض الصحافيون والناشطون الذين ينتقدون قطاع الأمن للترهيب والاعتقال بتهمة التشهير و»الفحش في الكلام»، وكما أوضحت «هيومن رايتس ووتش» و»منظمة العفو الدولية» بالتفصيل مؤخراً، لم يتوقّف استخدام التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة للشرطة.
غير أن الأزمة المستمرة في تونس توفّر فرصة جديدة لإصلاح قطاع الأمن. إذ تشير العديد من الخطوات التي اتُّخذت خلال العام الماضي إلى أن الإرادة السياسية للقيام بذلك ربما تتنامى. ومنذ مطلع عام 2015، أقال رئيس الوزراء الحبيب الصيد عدداً من قيادات الشرطة، من بينهم رئيس شرطة العاصمة تونس، وعدداً من كبار المسؤولين الأمنيين، بمن فيهم والي سوسة وكاتب الدولة للشؤون الأمنية، بسبب فشلهم في الحيلولة دون وقوع سلسلة من الهجمات الإرهابية. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أعاد الصيد منصب المدير العام للأمن الوطني، ومنح سلطة أكبر للموظف المدني الدائم الذي يشرف على وزارة الداخلية. وفي الشهر التالي استحدث الصيد وزارة جديدة هي وزارة الشؤون المحلية، الأمر الذي أدّى إلى سحب مسؤولية الحكم المحلي من وزارة الداخلية والحدّ من اختصاصها، وتخلّص من وزير الداخلية محمد الناجم الغرسلي الذي كان قاضياً في عهد بن علي ووالياً سابقاً، واعتُبِر مسؤولاً عن العجز في قطاع الأمن.
غير أن استبدال الغرسلي بالهادي المجدوب كجزء من تعديل وزاري أوسع في 6 الشهر الماضي ليس كافياً. فالمجدوب، وهو خرّيج معهد الدفاع الوطني، الذي يقوم بتدريب كبار ضباط الدفاع والأمن وموظفي الخدمة المدنية لإدارة الدولة، هو وزير الداخلية السادس في تونس منذ شباط (فبراير) 2011. وبالتالي فإن ارتفاع معدل تغيير الوزراء يعكس شلل المنصب، الذي هو نتاج التنافس المستمر بين المعسكرات السياسية الرئيسة في البرلمان ومجلس الوزراء ونتاج رفض فئات داخل وزارة الداخلية قبول أي سلطة خارجية عليها، سواء كانت سلطة الحكومة أو القضاء أو البرلمان.
موقف القطاع الأمني بعدم الالتزام يبدو متناقضاً، حيث كان المجدوب والمدير العام الجديد للأمن الوطني من أصحاب الخبرة في وزارة الداخلية، بعد أن خدما فيها سابقاً في عهد بن علي. والواقع أن خلفية الحبيب الصيد نفسه لا تختلف، حيث خدم في عهد بن علي ثم شغل منصب وزير الداخلية لفترة وجيزة في عام 2011. مع ذلك، وبعد أقلّ من أسبوع من تعيينه، واجه المجدوب دعوات للاستقالة من جانب نقابات الشرطة، التي أعلنت أنها لن تتعامل معه. ولعل هذا يكشف الافتراضات الخاطئة وراء تعيين «العالمين ببواطن الأمور» في الوزارة، بحجة أنهم يعرفون العمل داخل «الصندوق الأسود»، وأن قطاع الأمن لن يكون معادياً لهم، الأمر الذي يمكنّهم من التفاوض بنجاح على إحداث تغييرات.
إقرأ أيضا: الصيد: ما قامت به الحكومة التونسية غير كاف لاحتواء الاحتجاجات
يتمتّع المجدوب بميزة على أسلافه كونه قريباً من الصيد ومدعوماً من حزبي «نداء تونس» و»النهضة». غير أن الحكومة لم تضع حتى الآن خطة بعيدة المدى لإعادة تنظيم وزارة الداخلية، ناهيك عن إجراء عملية تشاورية واسعة تشمل البرلمان والمجتمع المدني ووسائل الإعلام وقطاع الأمن. وإذا أراد المجدوب أن ينجح، فعليه أن يقوم بما هو أفضل من إعادة إنتاج النهج التقليدي الذي يعتمد على المساومات السياسية بين «نداء تونس» و»النهضة» ونقابات الشرطة، وهو ما شكّل أساس تعيين الغرسلي قبل عام.
تقدم تجربة ما بعد العام 2011 في تونس العديد من الدروس القيّمة. فقد تمثّل أكبر إخفاق في العملية الانتقالية في أن الجهود الأولية لإطلاق إصلاح القطاع الأمني لم تكن مدعومة بوحدة هدف كافية، أو بناء فعّال للتحالفات السياسية والتوافق الاجتماعي، أو بسياسات إصلاحية متماسكة. وفي جو من الاستقطاب العلماني-الإسلامي، تم بسرعة رفض «كتاب أبيض» قدمه وزير مفوّض تم تعيينه خصيصاً من أجل الإصلاح، في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، من جانب علي العريّض، من حزب «النهضة»، عندما أصبح وزيراً للداخلية بعد ذلك بفترة وجيزة، بينما تسبّبت محاولات حزبه لتعيين مسؤولين أمنيين كبار جدد في ظهور اتهامات بأنه يسعى لفرض سيطرة حزبية على قطاع الأمن و»أسلمته». في المقابل، فإن ميل حزب «النهضة» و»نداء تونس» لاسترضاء قطاع الأمن، في الغالب بزيادات في الرواتب وتمييع الضوابط القانونية عليه وتجهيزه بمعدات جديدة، سمح له بالتخندق ومقاومة الجهود الرامية لجعله شفافاً وخاضعاً للمساءلة.
ولكي تحقق النجاح هذه المرة، يجب على حكومة الوحدة الوطنية في تونس أن تتفق على إبعاد عملية إصلاح القطاع الأمني تماماً عن الحزبية، سواء في مجلس الوزراء والبرلمان أو في المجال العام، وعلى تمكين وزير الداخلية بصرف النظر عن انتمائه السياسي. كما يجب على الحكومة أن تلتزم الحكومة بعملية تشاورية لوضع تصميم جديد لقطاع الأمن، ووضع معايير لصنع سياسات أمنية تدعم سيادة القانون وحقوق المواطنين، وتضمن التقيد بها. ومن بين الطرق الكفيلة بالقيام بذلك إنشاء هيئة مشتركة دائمة لإصلاح قطاع الأمن تضم الوزارات واللجان البرلمانية المعنية والسلطة القضائية ومنظمات المجتمع المدني، على غرار اللجنة المقترحة في قانون مكافحة الإرهاب الذي صدر في تموز (يوليو) 2015 أو لجان الإصلاح الوطنية التي اقترحها الصيد.
إن التحاور مع قطاع الأمن أمر في غاية الأهمية. ذلك أن خبرته المهنية مهمة في تحديد الأولويات ووضع آليات التنفيذ والرقابة. بيد أن الحوار هو عملية ذات اتجاهين: إذ لا بدّ من مساءلة قطاع الأمن وفق معايير واضحة وأن يخضع للرقابة بصورة لا لبس فيها. ويجب أن تكون التحسينات في القدرات المهنية والرواتب وظروف الخدمة وسياسات التوظيف والترقية مرتبطة بإجراء تحسينات في الأداء والامتثال للمساءلة القانونية والسياسية والمالية. لا مفرّ من تقديم بعض التنازلات، بيد أنه يتعين على الحكومة اتّخاذ موقف حازم في شأن إنهاء ثقافة تحصين قطاع الأمن من العقاب، ووضع السياسات والموازنات، وإقرار تعيينات القيادات العليا أو التصديق عليها.
وباعتمادها هذا النهج، فإن لدى الحكومة التونسية حلفاء مهمين. الكثيرون في قطاع الأمن لديهم مصلحة حقيقية في الإصلاح. وما لم يكن هناك إصلاح ويتم اتباع نهج جديد لإدارة قطاع الأمن، فإنه سيفشل تماماً في مكافحة الإرهاب. كما يتعيّن على الحكومة أن تستمدّ قوتها من مواطنيها، الذين يريدون استعادة الأمن غير أنهم يخشون من عودة الدولة البوليسية، كما أنهم يؤّيدون الحرب التي يخوضها قطاع الأمن ضد الإرهاب والتهريب، ولكنهم يريدون أيضاً أن يكون متوازناً من خلال الإصلاحات الهيكلية والمساءلة.
كل شيء يعتمد الآن على الأحزاب المشاركة في الحكومة وعلى معارضتها البرلمانية. إذ يمكن لسياساتها أن تذهب في أي من الاتجاهين. ذلك أن إضعاف حزب «نداء تونس» بعد انشقاق حوالى ربع كتلته البرلمانية يفرض عليه العمل مع حزب «النهضة»، في حين يحتاج الأخير لإثبات أنه قادر على تحقيق تقدم للمواطنين بهدف تعزيز حظوظه في الفوز في الانتخابات البلدية والجهوية المقرّر إجراؤها أواخر العام 2016. وبغض النظر هل يبقى في الحكومة أم ينتقل إلى صفوف المعارضة، فإنه يمكن للحزب الجديد الذي سيشكله المنشقون عن «نداء تونس» أن يلقي بثقله دعماً لإصلاح قطاع الأمن، وهو الأمر الذي طالما دعا إليه الرئيس السابق المنصف المرزوقي، الذي أسّس مؤخراً حزب «الإرادة».
ولكن إذا لجأت الأحزاب الحاكمة إلى استنساخ السياسة الحزبية السابقة، بدلاً من التوافق على قواعد أساسية جديدة لإصلاح قطاع الأمن والإشراف عليه، فإنها تجازف برؤية البلاد وهي تنزلق إلى مزيد من الأزمات.
باحث أول، مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت/”الحياة”