ما بعد الثورة، وعلى غير العادة، أدمن شباب تونس، بما فيهم الأطفال، على الموت الارادي بطرق شتّى، حرقا او صعقا بالكهرباء، او شنقا بالحبال او غرقا في البحر، ولا يمرّ يوم دون تسجيل حالة من هذا النوع. قد يكون الامر، في ظاهره، تقليدا لمفجّر الثورة التونسية، المرحوم البوعزيزي، او في يعود باطنه لأسباب أعمق بكثير. وبرغم هذا الخطر المحدق، الا ان الحكومات المتعاقبة وجدت نفسها عاجزة، او لم تهتم بما فيه الكفاية، لإيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ الثروة الشبابية المهددة، فأين تكمن هذه الحلول، ومن بيده تنفيذها؟
لا شكّ بأن وضع الشباب في تونس في أحلك حالاته، وفي أعلى تجليّات خطورته. فداعش الارهابية أصبحت قبلة حميدة، 5500 شاب تونسي يقاتل معها، يذبحون الأبرياء أينما وقعت عليهم أياديهم، بأبشع ما يمتلكون من مواهب في فنّ القتل. و6 آلاف شاب منعتهم السلطات من الالتحاق بهذا التنظيم في سوريا، وهم الان قنابل موقوتة داخل تونس. والعشرات يراوحون ما بين ليبيا وتونس، يتعلمون فنون القتال والتفجير، والعشرات يسكنون الجبال، يغدرون بالأبرياء من الرعاة، والفقراء، يسلبونهم طعامهم وما يملكون. والمئات يركبون البحر، هربا من فقرهم وحرمانهم وفقدان كرامتهم، وغالبا ما ينتهون بأن تأكلهم الاسماك، ولا تعود جثثهم أبدا. وليس هذا فقط، فهناك ما يفوق 300 ألف شاب غارق في داء المخدرات، وما يفوق عدد ضحايا حوادث السير يختارون الموت اراديا حرقا وشنقا. هذا الوضع الخطير الذي يعيشه شباب تونس لابد وان يعتبر أولوية الأوليات في بلد تنخر جوانبه المافيات الماليّة والسياسيّة التابعة للثورة المضادّة، مستغلّة اعلامها القويّ، المحترف، للإيحاء بانّ الثورة هي السبب الوحيد والاوحد لهذه الظاهرة الخطيرة.
الأسباب كثيرة لهذه الظاهرة، الا انّ سببين اثنين اشترك فيهما أغلب هؤلاء الشباب، العطل عن العمل والتصحّر الثقافي. وما ستكون عليه تفاعلات الكيمياء ما بين خليط من قوّة الشباب واندفاعه زائدا الفقر والحاجة والاحساس بالاغتراب وفقدان الهويّة وتقدير الذات؟ حتما سوف لن تكون سوى ما عليه الوضع الان.
والحقيقة فإنّ الثورة لم تكن هي السبب في نشوء هذه الظاهرة، بل كان لها (أي الثورة) الفضل في كشف حقيقة لطالما حاول النظام القديم طمسها، والاستفادة من تعميق أسبابها. فالمخلوع بن علي لم يكن رجلا مثقفا، او صاحب مشروع بناء دولة، كان كلّ همّه السيطرة على مفاصل الدولة بقبضة من حديد، ولم تكن بطانته أفضل منه فجمعت كلّ الانتهازيين، منهم من آثر السيطرة على مقاليد المؤسسات، ومنهم من آثر سرقة أموال الشعب وتفقيره. وعمل هذا المركّب الانتهازي القابض على السلطة على عزل الشعب وتهميشه، وضرب ثقافته وهويته، وخلق جيلا منكسر الخواطر، مهزوزا نفسيا، فاقدا لكل أمل، ميالا للعنف والانتقام، فجاءت الثورة لتكسر كل حواجز الخوف وآلات القمع التي كانت تقف حائلا دون اظهار الحقيقة، الحقيقة التي يتآكل فيها الشباب، ويقتل ويموت إراديا ودون غاية تذكر، بعيدا عن كل أمل في حلول سريعة وواضحة، تتكاتف من أجلها كل قوى الدولة والشعب.
إقرأ أيضا: ثورة تونس.. المنجز والمنشود
والحلول، إذا أردنا، لابدّ وان تتّجه مباشرة الى إيجاد مواطن الشغل لكلّ الشباب، والى دعم الخطاب الروحي الذي يعيد الثقة للنفس، والاحساس بقيمة الذات. العمل سيوفّر لكل شاب موقع قدم ثابت على ارض البلاد التونسية، وسيعيد اليه فكرة الانتماء الى الوطن. العمل سيعطل تلك الطاقة الشبابية الهائلة المتّجهة الى العنف، سيوجّها الى الخلق، وربّما الى الابداع. ودعم الخطاب الروحي والنفسي لا بدّ وأن يمرّ أولاّ من بوابة الإعلام الذي لا بدّ وأن يتحلّى ولو بالقدر الأدنى من المسؤولية، وعدم بثّ خطابات العنف، والفرقة، والتنابز، والاقصاء والعنصرية، والسجالات الأيديولوجية الحاقدة المدمّرة. وثانيا، العمل على فتح كل قنوات الحوار المعتدل والتسامحي، من بينها المساجد، وتشجيع الحديث الديني الوسطي المعتدل، والدعوات الى التعايش السلمي بين كلّ الأطراف في ظل العدل والمساواة وتكافئ الفرص.
ومن ينفدّ هذه الحلول العاجلة، حتما هي الدولة. الا ان الدولة التونسية ما بعد الثورة بقت رهينة لعنصرين، الاول، الصراع الأيديولوجي لنخب منبتة عن المجتمع ولا تدرك حقيقته، والثاني، اتحاد الشغل الذي هو الحاكم الفعلي للمؤسسات، وهو الذي منع التشغيل بآليتين، الأولى منع التشغيل في اتجاه اثارة الاحتجاجات والإضرابات للزيادة في الأجور، والثاني ضرب الإنتاج وتخفيضه الى اقل مستويات ممكنة، مما أوهن الدولة فالتجأت الى التداين، وربما الإفلاس إذا استمر هذا النهج.
وشبح إفلاس الدولة أصبح يلوح من بعيد، خاصة بعد ان أكّد العياري، محافظ البنك المركزي، بان الاقتصاد في حالة انكماش، وهو ما سيزيد من التأكيد على ان الثروة الشبابية مهددة حقا.
*كاتب صحفي/ ” ميدل ايست أونلاين”