ثورة تونس.. المنجز والمنشود

مرّت تونس بعد الثورة بمرحلة انتقال ديمقراطي صعبة، تميّزت بشيوع الشّعور بعدم اليقين إزاء الرّاهن والمستقبل، وتزايد الحركات الاحتجاجيّة ذات النّزعة المطلبيّة (المطالبة بالعمل، المطالبة بالعدالة، المزيد من الحرّيات، الدّعوة إلى محاسبة الفاسدين في النّظام السّابق)، وواكب ذلك انفلات أمني بين الفينة والأخرى، أخبر بعلاقة متوتّرة بين رجل الأمن والمحكومين، ودلّ على تراجع هيبة الدّولة، وانحسار سلطتها الرّدعيّة. لكنّ الثابت أنّ تونس شهدت، في مرحلة الانتقال الديمقراطي، تحوّلا نوعيّاً من عصر الدّولة الأحاديّة إلى عصر الدّولة التعدديّة، وبدا الاتّجاه نحو إشراك المواطن في الشّأن العامّ أمراً جليّاً، فتمّ السّماح بتكوين الأحزاب والجمعيّات المدنيّة، والنّقابات العماليّة، وأصبحت الحكومات الجديدة تستأنس بالرّأي الآخر، وتنفتح على النّقد، وتفعل في الواقع، وتنفعل به، استجابةً لمستجدّات الظّرف التاريخي الجديد الذي أنتجته الثّورة. وفي هذا السّياق، تعدّدت وسائل الإعلام ومنابر التّفكير وفضاءات التّعبير، وبدا الحكّام الجدد ميّالين إلى ترسيخ الحرّيات العامّة والخاصّة، الدّينيّة والفرديّة، بدل الوصاية على سلوك النّاس، وتنميط أفكارهم وأفعالهم، والزّجر على معتقداتهم وقناعاتهم. ومثّل صوغ الدستور نقطة فارقة في تاريخ تونس، فبمقتضاه، تم رسم معالم دولة مدنية جديدة. وتم تفكيك المنظومة الدستورية التقليدية، وبناء دستور تقدمي، يستجيب لتطلعات المواطنين، ويضمن حقوقهم، ويحدد واجباتهم في إطار دولة القانون.
وغلب النهج التوافقي/ التفاعلي على صياغة الدستور خصوصاً، وعلى المشهد السياسي عموماً، في تونس بعد الثورة، فشاركت مكونات المجتمع المدني والسياسي والديني في البلاد في بلورة دستور تقدّمي، أقرّ حقوق المرأة، وحرّية الضمير، وحرية التعبير، واستقلالية القضاء .وتداول التونسيون سلمياً على السلطة، وجرى تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في مناسبتين، شهد العالم بنزاهتها، وتصدّرت تونس مراتب متقدّمة في سلّم الدول الديمقراطية، وتجاوزت مزالق الصراع على السلطة، وتداعيات الثورات المضادة في بلدان الربيع العربي، وتمكّن التونسيون من الاحتكام إلى الحوار، بدل العسكر في إدارة خلافاتهم، وتجاوز أزماتهم، وتمّ تتويج جهودهم، في هذا الخصوص، بحصول تونس على جائزة نوبل للسلام. غير أنّ الإصلاح السياسي، الرامي إلى ترسيخ دعائم الثقافة الديمقراطية والعدالة الانتقالية ما زال بطيئا. كما أنّ جهود التعريف بالثورة، والتأريخ لها، وبيان فضائلها للأجيال الصاعدة، ما زالت محدودة، فلم يتمّ بعد إدراج الثورة في البرامج المدرسية والجامعية، ولم يتمّ بعد تأهيل الإعلام ليضطلع بدوره في تنوير الناس، وإبراز أهمّية التعددية والحياة المدنية، وغلب على المشهد الإعلامي خطاب التخوين والتيئيس من الثورة.

إقرأ أيضا: بماذا دخلت تونس السنة السادسة للثورة

“ما زال ضحايا الدولة الاستبدادية ينتظرون من ينصفهم، وما زال التونسيون يتطلّعون إلى استرجاع أموالهم المنهوبة، ومحاسبة المفسدين”
على الصعيد الاقتصادي، ورثت الثورة اقتصاداً هشاً وبطالة مستشرية، وإدارة بيروقراطية غلب عليها الفساد، وأنهكها غياب الحوكمة، وإهدار المال العام، وسوء التصرف في الموارد الطبيعية والبشرية. ووعدت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بتجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة، بإرساء منوال تنموي، بنائي شامل، يساهم في إحداث مواطن شغل جديدة، وفي الترفيع في نسبة النموّ، وتحقيق توزيع عادل للثورة بين الجهات، وفي تعديد قطاعات التنمية الاقتصادية، وتنويع مجال الشراكات الإقليمية و الدولية. لكن الناظر في المنجز الاقتصادي، بعد خمس سنوات من الثورة، يتبين أن تلك الوعود ما زالت بعيدة المنال، فخطوات الإنماء الاقتصادي والإصلاح الإداري متعثّرة لمحدودية الموارد الطبيعية من ناحية، ولخوف المستثمرين من ناحية أخرى، وتردّدهم في بعث المشاريع في دولةٍ ما زالت تتحرّك على صفيح ساخن، خصوصاً في ظلّ عدم استتباب الأمن، وتزايد العمليّات الإرهابية والمظاهرات المطلبية، والاعتصامات الفوضوية. يضاف إلى ذلك أن البطالة تفاقمت بدل أن تتراجع، كما اتسعت المسافة بين الأغنياء والفقراء، وتقلص حضور الطبقة الوسطى في مقابل ارتفاع الأسعار ومحدودية دخل الفرد، وانعدام التوازن بين الجهات، وازدياد موجات الهجرة من الدّاخل، نحو الحواضر الكبرى أو نحو العواصم الأوروبية، ولو عبر قوالب الموت.
بعد خمس سنوات من الثورة، ما زال التعذيب حاضراً في بعض مراكز الإيقاف التونسية. وما زال ضحايا الدولة الاستبدادية ينتظرون من ينصفهم، وما زال التونسيون يتطلّعون إلى استرجاع أموالهم المنهوبة، ومحاسبة المفسدين، في زمن يعمد فيه بعضهم إلى تبييض الدكتاتورية، والتشريع للإفلات من العقاب. أمّا الشباب الذي قاد الثورة، فما زال يتطلّع إلى عيش كريم، وشغل قارّ ومساهمة فعّالة في صنع القرار، في زمن غلب عليه الشيوخ.
على الرغم من نجاح تونس في تقديم نموذج لديمقراطية عربية ممكنة، وتأسيسها لتعايش ممكن بين الإسلاميين والعلمانيين في إدارة الحكم والتداول السلمي على السلطة، وتقديمها مثالاً لإشراك المواطن في الشأن العام، وتحييد الجيش عن السياسة، فإنها لم تنجح في تحويل المنجز الديمقراطي إلى تطوّر اقتصادي، وازدهار اجتماعي، وهو ما يُخبر بأنّ الدرب نحو مأسسة الثورة، وتحقيق النهضة الشاملة ما زال طويلاً.

أستاذ وباحث جامعي تونسي/”العربي الجديد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *