المسيحيون العرب يتعرّضون في السنوات الأخيرة لحملات إساءة وتهجير في أكثر من بلدٍ، وهناك جماعات تحمل رايات دينية إسلامية تقوم بأعمال قتل وتدمير وتهجير لقرى مسيحية عربية، كالذي حدث أخيراً في العراق وسوريا.
فالمسيحيون العرب هم الآن ضحية في حالتين: أنّهم أولاً من مواطني هذه البلدان التي تشهد حروباً وتدميراً لكلّ ما فيها، وهم أيضاً مستهدَفون من قبَل جماعاتٍ متطرّفة، فقط لكونهم من أتباع الديانة المسيحية.
والتساؤل عن مستقبل الوجود المسيحي العربي ليس وليد الحاضر فقط، وما يتميّز به هذا الحاضر من ممارساتٍ إجرامية وتصاعدٍ في حدّة الطروحات العصبية الدينية، بل تعود جذوره إلى سنواتٍ بعيدة في الزمن، وقريبة في الاستحضار الذهني. فالمسيحي العربي يتذكّر ما قاله الأجداد عن سنوات الذلّ أيام حكم الأتراك العثمانيين، والمسيحي العربي يسمع ويشاهد ويلمس وجود تيّارات دينية متطرّفة تطرح عليه إمّا تحدّي القتل أو التهجير. فمن حقّ المسيحيين العرب الخوف على الحاضر وعلى المصير معاً.
وللأسف، هناك أيضاً مفاهيم وأفكار تتحدّث الآن عن المسيحيين العرب وكأنّهم غرباء عن هذه الأمّة وأوطانها، أو أنّ حالهم كحال الأقليات الدينية التي وفدت لبلدان العرب من جوارهم الجغرافي. إنّ الوجود المسيحي على الأرض العربية تزامن مع الوجود الإسلامي لأكثر من ألفٍ وأربعمئة سنة.
إنّ ما هو قائمٌ الآن من ممارساتٍ سيّئة بحقِّ بعض المسيحيين العرب ليس حصيلةَ التدخّل الأجنبي والعملاء وأجهزة المخابرات فقط، بل هو أيضاً نتاج الفهم الخاطئ لدى الغالبية للدين وللعروبة ولمفهوم حقوق المواطنة.
والأمر لا يقتصر على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين العرب فقط، بل هو قائم بين المسلمين أنفسهم أيضاً بما هم عليه في عموم العالم الإسلامي من تعدّد في المذاهب والأعراق والإثنيات.
بلا شك، هناك أسبابٌ متعدّدة لما نراه اليوم من خوف مسيحي عربي مشروع على الحاضر والمستقبل. بعض هذه الأسباب خارجي مفتعل، وبعضها الآخر عربي داخلي كانعكاسٍ لحال التخلّف السائد في هذه المرحلة. وهي حتماً ليست مشكلة «حقوق المواطنة» للمسيحيين العرب فقط، بل هي مشكلة غياب «المواطنة السليمة» لكلّ العرب بتعدّدهم الديني والإثني.
لكن ربّما من المهمّ أن يدرك العرب كلّهم، بغضّ النظر عن ديانتهم وطائفتهم، أنّ المشروع الرامي إلى تقسيم الكيانات العربية الراهنة وإقامة دويلات جديدة في المنطقة على أساس ديني ومذهبي وإثني، يتطلّب الشروع أولاً بتهجير المسيحيين العرب، لما يعنيه ذلك على المستوى العالمي من «مشروعية» لفكرة وجود دول في «الشرق الأوسط» على أساس ديني، كما هو المطلب الإسرائيلي حالياً من العالم كلّه، ومن العرب والفلسطينيين خصوصاً، أن يحصل الاعتراف بإسرائيل كـ«دولة دينية يهودية».
إقرأ أيضا: داعش والمسيحيون.. والجزية في الإسلام
وهذا الأمر، لو آلت الأحداث إليه، فستكون المنطقة العربية عبارةً عن تكتلات دينية وإثنية متصارعة فيما بينها، ولكن تدور كلّها في الفلك الإسرائيلي الأقوى والأفعل والأكثر استفادة من هكذا مشروع للخرائط الجديدة في المنطقة. وحتماً لن يكون هناك عندئذٍ حديثٌ عن دولة فلسطينية مستقلّة، ولا عن حقوق ملايين اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أراضيهم، وسيكون العرب قبائل متناحرة لا شعوباً لأوطان واحدة متعدّدة الانتماءات الطائفية والإثنية.
لذلك، فإنّ التمييز بين ما تريده إسرائيل وبين ما تقوم به بعض الجماعات الإرهابية بأسماء إسلامية لم يعد ممكناً، بل إنّ هذا يطرح تساؤلاتٍ خطيرة عن طبيعة هذه القوى ومدى ارتباطها بأجهزة المخابرات الإسرائيلية التي سبق لها أن دسّت قيادات في العديد من المنظمات العربية والإسلامية، تماماً كما تفعل إسرائيل حتّى مع أصدقائها في العالم، حيث شبكة العملاء الإسرائيليين تصل إلى مستوياتٍ عالية.
إنّ صيغة «المواطنة المشتركة» المتساوية في الحقوق والواجبات ليست «حقّاً» للمسيحيين العرب فقط، وليست «واجباً» على المسلمين العرب فقط، بل هي مسؤولية مشتركة فرضتها الإرادة الإلهية التي اختارت الأرض العربية لتكون مهد كلّ الرسل والرسالات السماوية؛ فالحفاظ على هذه الصيغة، امتحانٌ لكلّ العرب في كيفية الفهم الصحيح للدين وللهوية الثقافية المشتركة، وفي مدى الانتماء الوطني والحرص على أولوية المصالح الوطنية والعربية.
هو موضوعٌ حيويٌّ مهم يمسّ وحدة المجتمع العربي، ويطال المداخلات الأجنبية التي سعت ماضياً وحاضراً إلى السيطرة على المنطقة العربية، وإلى تجزئتها ومصادرة ثرواتها وتغيير هُويّة بلدانها من خلال شعارات «الحماية الأجنبية للطوائف والأقلّيات».
وفي مثل هذه الأيام التي تشهد احتفالات عيد ميلاد السيّد المسيح، عليه السلام، يتكرّر استخدام قوله: «المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام». وهو قولٌ يجمع بين ما هو حتمي لا خيار إنسانياً فيه (المجد لله)، وبين ما هو واجب مستحق على البشر تنفيذه، أي تحقيق السلام على الأرض. لكن هناك مسافة شاسعة بين ازدياد عدد الممارسين للشعائر الدينية في كل العالم، وندرة من يطبقون ما تدعو إليه الرسالات السماوية من قيم وأعمال صالحة، ومن واجب نشر روح المحبة وتحقيق السلام بين البشر.
ولعلّ المأساة تظهر الآن جليّةً من خلال حروب وفتن حدثت وتحدث تحت «شعارات دينية» في أكثر من مكان شرقاً وغرباً. بل إنّ كلَّ مُشعِلٍ الآن لحربٍ أو لفِتنة على الأرض يختبئ وراء مقولات تستند إلى ادّعاءات الوصل بالأديان، والأديان منها بُراء.
*مدير مركز الحوار العربي في واشنطن/”البيان”