في كلمة مكثفة لم تستغرق سوى دقائق، وفّر العاهل المغربي الملك محمد السادس أمام القادة المجتمعين في اسطنبول، في إطار القمة الإسلامية الثالثة عشر، فرصة لصياغة أجندة عملية وعميقة لقمتهم، تغنيهم عن عشرات الوثائق، وذلك عندما حدد للمؤتمرين تحديات أربعة، إثنان داخليان ومثلهما خارجيان: التطرف والطائفية، وغياب التكامل الاقتصادي داخليا، والإسلاموفوبيا وتهويد القدس خارجيا، وخاتما برفع تحد في شكل تحذير، يحتم على الأطراف الخارجية والداخلية العمل المشترك، من أجل مواجهة هذه التحديات التي أصبحت تكتسي طابعا دوليا عابرا للحدود والقارات.
داخليا:
ربما كان تحدي التطرف والإرهاب، ونزعات الطائفية والدعوات الانفصالية على أسس ضيقة، هي أبرز تحد يجعل خطر “إعادة تقسيم خارطة العالم الإسلامي” الذي حذر منه الملك محمد السادس، ماثلا للعيان، بل وبدأ عمليا في أجزاء مختلفة من عالمنا العربي والإسلامي. خطر يزيد من راهنيته ما يتلقاه من “دعم خارجي” لأطراف إقليمية ودولية تعاني من قصر النظر. وما النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء، والذي يحظى، للأسف، بدعم دولة عربية وإسلامية جارة، إلا تجسيدا لهذا العبث المدمر، ناهيك عما يخلفه العبث الإيراني المماثل في حمى جوارها الخليجي والعربي من مآس، مستندا إلى نعرات طائفية مقيتة، لم تكن يوما من أسس اجتماعنا الإسلامي، بل وكانت دوما غريبة عن النسيج الثقافي والاجتماعي ومنظومة قيمنا الحضارية التي صنعها القرآن.
العاهل المغربي كان واقعيا عندما دعا، بخصوص هذا التحدي، إلى “معرفة العوامل المؤدية إلى هذا الوضع الشاذ، المنذر بالعديد من المخاطر، وكذا معرفة الأسباب التي تجعل من عالمنا الإسلامي مصدرا وهدفا له في نفس الآن”، وهي المهمة المنوطة بجميع الفاعلين في مختلف المجالات.
التحدي الداخلي الآخر يتمثل في تراكم تجاربنا الفاشلة من أجل الوصول بتنسيقنا وتكاملنا إلى ما يحقق مصالح مواطنينا، وذلك رغم التجارب العديدة الناجحة التي يحفل بها تاريخنا الإسلامي ومجمل التجربة الإنسانية المعاصرة. وهنا رسم الملك محمد السادس الطريق الذي لطالما أكد على صوابه ونجاعته، ملخصا إياه في “تكثيف التعاون جنوب-جنوب، المبني على الثقة والواقعية والمصالح المشتركة”.
خارجيا:
وبالانتقال إلى التحديات الخارجية، أشار العاهل المغربي بجرأة وبدون مواربة إلى الأثر الخطير الذي تتركه ما تتعالى في الغرب من “أصوات مناهضة للدين الإسلامي، تؤجج مشاعر الحقد، وتعبئ الرأي العام في تلك البلدان ضده، في نطاق توسع ظاهرة الإسلاموفوبيا”، مرجعا تفاقم هذا الوضع إلى “ما انتشر في المجتمعات الغربية خلال العشريات الأخيرة، من نزوعات العداء ضد الإسلام وزرع الخوف والحذر والكراهية تجاه الأقليات المسلمة”.
إن عدم استشعار الحكومات الغربية للخطر الذي تمثله النزعات العنصرية اليمينية تجاه جمهور المهاجرين عامة، والمسلمين منهم على وجه الخصوص، تحت دعوى احترام حرية التعبير، أو بداعي الخوف من قوتهم التصويتية المتعاظمة في أي انتخابات، كفيل بتعريضها لمزيد من مخاطر الإرهاب الذي ينمو ويترعرع في أجواء التمييز والكراهية، مما يدخل هذه المجتمعات في دوامة عنف يخشى أن يستمر لعقود.
أما التحدي الخارجي الثاني، والذي أفرد له الملك محمد السادس جزءا مهما من خطابه الكاشف، وذلك بحكم مسؤولياته السياسية والدينية والتاريخية عن الملف، فكان ما تتعرض له مدينة القدس ومقدساتها وأهلها من انتهاك وتهويد. تحد لا يمكن فصله بأي حال عن باقي التحديات الداخلية والخارجية، والذي وإن كان لا زال يعتبر أهم عناصر الوحدة الإسلامية، إلا أنه يحتاج لترجمات عملية تخرجه من دائرة الإنشاء والخطابة، التغني بالأمجاد، وتضارب الرؤى وغياب البرامج.
وكخلاصة، فإن هذا الخطاب، أوضح بما لا يدع مجالا للشك، بأن العالمين الإسلامي والغربي محكومان بالتعاون، إن هما أرادا التغلب على تحدياتهما الداخلية. صحيح أن لكل منهما أجندة وتحديات ومشاكل خاصة ينبغي له أن يتصدى لحلها دون إبطاء، بمفرده وبمعزل عن شريكه، إلا أن تعاونهما هو السبيل الوحيد الذي يؤسس لعالم أكثر عدلا وأمانا لكليهما، وهو المطلب المشترك لجيران الشمال والجنوب.
إن استسهال الغرب ومن يعاونه من قوى إقليمية تنظر لمصالحها من منظار ضيق، العبث بخريطة عالمنا الإسلامي او وطننا العربي، لا يمكن إلا أن يصيب بحممه وشظاياه أول من يصيب، العابثين بهذه الحمم ومشعلي هذه الحرائق، نظرا لتشابه مشاكلنا، ولكون تبعات المشاكل التي يمكن أن يعاني منها بلد ما، لم يعد ممكنا أن نحصر تبعاتها داخل الحدود الوطنية للبلد أو المنطقة المستهدفة. ولقد كان المثال السوري واضحا وبالغ الدلالة، حيث اكتوى الجوار القريب والبعيد بمشكلة اللاجئين السوريين، جراء تفجر الأوضاع فيه.
كما أن غض الطرف بل وتغذية الجماعات الإرهابية في هذا القطر أو ذاك لمبررات سياسية ضيقة، لا يضمن شراء ولاء هذه الجماعات، وعدم انتقال شرورها إلى بلد الراعي نفسه.
وأخيرا، فإن استمرار الغرب في التغاضي عن الجرائم الإسرائيلية، لا يمكن إلا أن يشكل وقودا لموجات جديدة من الكراهية والتطرف، ستنفجر عاجلا أم آجلا بين يدي من يدعمون هذا الإرهاب أو يغضون الطرف عنه.
فهل يؤسس خطاب العاهل المغربي محمد السادس أساسا لتعامل عربي وإسلامي ودولي جديد، عنوانه التضامن واستشعار المخاطر المشتركة، أم يبقى قصر النظر والعبث اللامسؤول هو سمة الإدارة الإقليمية والدولية لمشاكل العالم الحارقة؟