حين سقط نظام العقيد القذافي اختفت جماهيريته كما لو أنها لم تكن.
ولأن تلك الجماهيرية كانت الأثر الوحيد المتبقي من الدولة التي كان القذافي قد أعاد صياغتها بما يناسب قياساته الشخصية فإن الليبيين وجدوا أنفسهم فجأة خارج الغطاء القانوني الذي يوفره وجود دولة، بغض النظرعن حجم ونوع تلك الدولة.
ما عاشته ليبيا كان متوقعاً في أية لحظة يغيب فيها الأخ العقيد.
فالفوضى الذي كان ينظمها القذافي بنفسه كانت هي الاساس الذي بني عليه النظام السياسي الذي أقامه العقيد، وهو ما كان يسمح له بارتجال صور لشخصيته المضطربة من خلال القوانين والاجراءات.
ما يعيشه الليبيون اليوم من حالة فوضى كانوا قد تدربوا في زمن الدولة المجازية على ما يمكن أن يشكل تمهيداً لها. لذلك ليس لديهم سبب واحد يدعوهم إلى الحنين إلى ذلك الزمن.
فزمن الجماهيرية لم يكن حقاً زمن الشعب. كان زمناً للقذافي وحده. وحين نقول “القذافي” فإننا نعنيه شخصياً اضافة إلى من هم حوله من الاقرباء والمنتفعين وبائعي أوهام الثورة.
وقد لا يكون مفاجئاً أن تطوى صفحة ذلك الزمن بخفة وسرعة لا لشيء إلا بسبب هزال أخلاقيات ذلك الزمن وسطحية مضامينه ورثاثة أفكاره.
للمزيد: أربع سنوات على مقتل القذافي..هل تخرج ليبيا من متاهتها؟
غير أن طي صفحة الماضي الذي تم على عجل، بتأثير الحرب التي شنها حلف الناتو على ليبيا والتي أدت إلى اسقاط النظام فيها ومن ثم إلى مقتل القذافي لم يكن يعني بالضرورة أن هناك قدرة كامنة لدى المعارضين على بناء دولة بديلة، تكون بمثابة خط الانطلاق لبداية زمن مختلف، يكون الشعب سيده.
فبسقوط نظام القذافي حدث فراغ متوقع، لم تكن الحياة السياسية التي تشكلت في ظل جماهيرية القذافي قادرة على ملئه واستيعاب صدماته ومواجهة مفاجآته.
وهو ما دفع جيل المعارضين الاوائل إلى التراجع عن الصف الامامي بسبب فشلهم في ادارة دولة وهمية، ما كان لها أن تولد من الفوضى.
وكما يبدو فإن أولئك المعارضين كانوا قد صدموا بتخلي الغرب عنهم بعد أن كانوا يأملون بأن الحرب الي شنها الناتو من الجو سيتم تكريس نتائجها وقطف ثمارها على الأرض من خلال دعم سياسي دولي، يكون بمثابة الضمانة للبدء في بلورة مشروع وطني لبناء ليبيا جديدة، لا تذكر بماضي جماهيريتها العظمى.
يومها تبين أن المشروع الوطني لم يكن يحظى بإهتمام وعناية الغرب.
وهو ما أدى إلى أن تترك ليبيا نهباً، لصراعات بين قوى وأطراف، لم يكن لدى أي منها تصور واضح لبناء دولة موحدة، تكون بمثابة الخيمة التي يستظل بها الليبيون، بعد أن يكونوا قد استعادوا صفة المواطنة.
كان الصراع بين تلك القوى قائماً على أهداف جهوية ومنافع ضيقة ومؤقتة.
كان السؤال يتعلق بالحق في الارث لا في واجب البناء.
كان ذلك السؤال باباً، دخلت من خلاله الكثير من القوى الهامشية لتتمكن من فرض سيطرتها على مناطق من البلاد بعد أن اعتبرتها ملكا استثماريا، يمكنها من خلاله التفاوض على مستقبل ليبيا.
لذلك لم يكن في الإمكان الوصول إلى حل سياسي يقي الشعب الليبي من الغرق في مستنقع الصراعات التي لا يطمح االمنتفعون من استمرارها إلى أن تصل إلى الحد الذي تنتفي عنده الحاجة إليها.
وإذا ما كان الشعب الليبي قد وعى خطورة السير في الطريق الذي شقته تلك القوى فقرر أن يكون له دور في التغيير، فإن ذلك التغيير لن يكون سهل المنال في ظل استمرار القوى الجهوية المنتفعة من الفوضى في التلويح باللجوء إلى السلاح والانفصال.
لذلك لم يعد أمام الليبيين سوى أن يأملوا بالضغط الذي يمكن أن يمارسه المجتمع الدولي على القوى المستميتة في الدفاع عن مصالحها الجهوية الضيقة، ضاربة عرض الحائط بحلم بناء دولة، تكون بمثابة حاضنة لزمن انتظره الليبيون طويلا.
* ناقد وشاعر وكاتب / ميدل ايست أونلاين