هل يحق لليبيين أن يحتفلوا بذكرى ثورة فبراير (شباط)٬ وهم الذين أطاحوا بالقذافي ونظامه الشمولي؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار أن دواعي الاحتفال واستحقاقاته قائمة الذات؟
لا شك في أن طرح هذين السؤالين٬ لن يروق للكثير من الأخوة الليبيين خصوصا أن ماُيفهم منها من الوهلة الأولى أن وضعهم قد صار أسوأ بكثير٬ مما كانت عليه قبل الإطاحة بالقذافي.
وفي الحقيقة من المهم الإشارة مسبقا إلى أننا أبعد ما يكون عن هذه القراءة٬ وذلك لسبب واحد واضح وضوح الشمس٬ مفاده أن القذافي هو سبب ضياع ليبيا وبلوغها هذا الحّد المخيف من الفوضى وانسداد الأفق.
لا ننكر أن في هذين السؤالين ما يشبه التشكيك في مشروعية الاحتفال٬ إذ إن كل مؤشرات الواقع الليبي ومعطياته الّراهنة٬ لا تسمح بذلك ولا تتحمله.
كل شيء هو ضد فكرة الاحتفال في حّد ذاتها أولا٬ والاحتفال بذكرى الانتفاضة ثانيا٬ وهي معارضة قابلة للتفسير والتبرير: بلد يمر بوضع حرج ومتفجر حيث استولت على عدد من حقوله النفطية تنظيمات إرهابية٬ وأيضا اضطرار آلاف من الشعب الليبي الهجرة إلى دول الجوار. ناهيك عن الفراغ السياسي الذي طال وبلغ حد تمزيق البلاد والعبث بقرارها وسيادتها. وإضافة إلى كل هذه المعطيات والمؤشرات٬ فإن الوضع بدأ يعرف منعرجا مفتوح السيناريوهات٬ ونقصد بذلك ما يتداول منذ أسابيع طويلة حول الاستعداد الغربي على قدم وساق للتدخل العسكري في ليبيا ومحاربة تنظيم داعش٬ الذي بلغ الخمسة آلاف من المتشددين٬ والذي بات عامل تهديد قوي وبصدد قطع خطوات مخيفة في مجال الاستيلاء على الثروة النفطية. أي أن ليبيا تعاني اليوم معاناة متعددة تجمع بين الإرهاب والفوضى والفراغ السياسي والتهجير المنظم للسكان٬ ومهّددة كذلك بتدخل عسكري وشيك. فهل هذه المعطيات تفتح شهية الاحتفال بذكرى الانتفاضة الليبية؟
إقرأ أيضا: شعوب محبطة لأمة مستهدفة
لم يحن بعد الوقت للاحتفال لأن الأزمات تضاعفت والأوضاع في تعقيد متزايد٬ الشيء الذي جعل أخبار الاحتفالات حتى بفتورها النسبي تثير الاستغراب على شبكات التواصل الاجتماعي.
وليس المقصود في الحقيقة الاستنقاص من رمزية حدث الانتفاضة الليبية أو التلميح المستبطن كما شأن البعض بأن ما حصل ليس نتاج ثورة شعبية تلقائية محضة٬ ولكن المقصود حقيقة هو أن ليبيا خرجت من حقبة سجن مطولة إلى حقبة فوضى دامية. وهو ما يعني أنها لا تزال في المرحلة الحرجة ولم يحصل التحول الذي كان الشعب الليبي يرنو إليه. لا معنى للانتقال من السيئ إلى ما هو أكثر سوءا. المفاضلة لا تكون بين السيئ والأسوأ. المشكلة أن الوضع الليبي دخل في حالة من السقف الأدنى في الطموحات٬ ولم يغادر بعد مرحلة الصفر في كل شيء.
لذلك٬ فإن العقل ينص على تأجيل الاحتفال إلى لحظة التعافي الليبي أو لنقل على الأقل بدء أخذ العلاج٬ وضبط طريق الخروج من هذه الدوامة.
يحق لكل الليبيين أن يفرحوا بانتهاء مرحلة القذافي٬ لأنه فشل في صنع مؤسسات ودولة وتنمية على أسس تبني الإنسان الليبي٬ بناء يساعده على تحمل صراعات العالم وهجمة تنظيمات الموت. ليس من السهل تجاوز أربعة عقود من تدمير الإنسان الليبي على النحو الذي يسمح باستمرار نظام شمولي ديكتاتوري. ولا تكفي الانتفاضة في حد ذاتها لمسح أربعين عاما من عدم الاستثمار في الإنسان الليبي. لذلك فقد ترك وراءه الفراغ القاحل وشعبا مثقلا بعقود الديكتاتورية والقمع. للشعب الليبي ألف سبب كي يحتفل بطي صفحة القذافي. ولكن في نفس الوقت لا يمتلك اليوم أي سبب لأي احتفال بسيط.
قد يبدو الأمر مفارقة٬ ولكنها البعض من الحقيقة: لا يزال خراب القذافي متغلغلا. وما دام الشعب الليبي لم يتدارك أمر مؤسساته ولم ينطلق في تحديث البلاد والتخفيف من وطأة قيم القبيلة لن يستطيع طرد التنظيمات الإرهابية٬ ولا أن يستفيد من الثروة النفطية في تعمير العقول والبلاد.
لم يحن بعد وقت الاحتفال. وأي احتفال سيكون حاليا بمثابة الأكذوبة أو الوهم ولا يستحق الشعب الليبي احتفالات شكلية يقوم بها وهو يستشعر غامض الحاضر والمستقبل.
يستحق الشعب الليبي احتفالا حقيقيا يقطع مع تاريخ الضياع والفوضى الطويلين. ويستحق أجهزة دولة تحكم البلاد وخيراتها بقبضة الديمقراطية والفصل بين المؤسسات وبمشروع تحديثي يعيد بناء العقل الليبي بناء معاصرا.
حين تبنى الدولة في ليبيا٬ ويبدأ قطار التنمية والاستثمار في الإنسان الليبي٬ ساعتها فقط من واجب الشعب الليبي أن يحتفل بمنجزه التاريخي الفذ. أما الآن فاللحظة لحظة إنقاذ وتدارك وخوض غمار معركة شرسة ومتعّددة الأطماع وذات تكلفة باهظة جدا.
كاتبة وشاعرة تونسية/”الشرق الأوسط”