بقلم: صبحي غندور*
هناك رؤيتان الآن لما يحدث في بعض البلدان العربية من صراعات دموية. الرؤية الأولى، تضع هذه الصراعات وتفاعلاتها في خانة مواجهة جماعات إرهابية فقط، والرؤية الثانية تعتبر أنّ الجماعات الإرهابية تستغلّ الصراع القائم بين حكومات ومعارضين لها، وبالتالي لا يجوز وقف «الثورة المسلّحة من أجل التغيير» مهما علا صوت الإرهاب بالمنطقة.
فهي إذن مشكلة غياب التوافق على فهم وتوصيف حقائق الصراعات الحاصلة رغم وجود قاسم مشترك بين أصحاب الرؤيتين، وهو استخدام وسيلة العنف المسلّح ضد الآخر.
وما زال الكثير من الإعلام العالمي يُحمّل الإسلام كدين مسؤولية وجود جماعات التطرّف العنفي التي تعمل بأسماء مختلفة؛ منها «القاعدة» المنتشرة عالمياً، و«بوكو حرام» في نيجيريا، وحركة «الشباب» في الصومال، وصولاً الآن إلى جماعات «داعش» و«النصرة»، وغيرها العديد من الأسماء العاملة تحت رايات «إسلامية» في آسيا وأفريقيا، وبعضها يتحرّك في نطاق محلّي فقط، لكن البعض الآخر له امتدادات دولية تصل إلى أماكن مختلفة في «العالم الإسلامي»، وفي القارّتين الأوروبية والأميركية.
فخطر جماعات التطرّف العنفي بأسماء «إسلامية» موجودٌ فعلاً ولا مجال لنكرانه، ولا يصحّ القول فقط إنّ هذه الجماعات هي «صناعة خارجية» يتمّ الآن توظيفها.
للمزيد:الإرهاب في صور أخرى.. بعيداً عن الجماعات المتأسلمة
فالمشكلة الأساس هي بوجود بيئة فكرية مناسبة لنموّ مثل هذه الجماعات في الدول العربية والإسلامية، بغضّ النّظر عمّن يبدأ بالزرع وعمّن يحصد «الثمرات» لاحقاً. إذ لو كانت «الأرض الفكرية» لهذه الجماعات قاحلةً ويابسة وغير مرويّة محلّياً، لما أمكن لأيّ زرعٍ خارجي أن ينجح أو أن يحصد ثمار شرّ ما يزرع!
هناك بلا شك مسؤولية «غربية» وإسرائيلية عن بروز ظاهرة «الإرهاب» بأسماء «إسلامية»، لكنْ هذا هو عنصرٌ واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة. ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري/العَقَدي، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، وحيث ازدهرت الآن ظاهرة فتاوى «جاهلي الدين» في قضايا عديدة، من ضمنها مسألة استخدام العنف ضدّ الأبرياء أو التحريض على القتل والاقتتال الداخلي.
وتظهر هذه الأزمة الفكرية أيضاً في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الدين، من خلال ضعف الانتماءات الوطنية وما ساد بدلاً عنها من «هويّات دينية»، جامعة في الشكل لكنّها طائفية ومذهبية في المضمون والواقع. إضافةً إلى الفراغ الحاصل نتيجة غياب المرجعية العربية الصالحة التي كانت عليها مصر ومؤسساتها الدينية والسياسية قبل أربعة عقود.
ويتزامن مع وجود ونمو دور الجماعات الإرهابية، ما نراه يحدث من عنفٍ مسلّح في المجتمعات العربية التي تسعى للتغيير الآن في أنظمة حكوماتها بينما تسير أمور هذه المجتمعات من سيئ إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح والقتل العشوائي للناس يؤدّي حتماً إلى تفكّك المجتمع، وإلى صراعات أهلية دموية، وإلى مبرّرات لتدخّلٍ إقليمي ودولي.
إنّ قتل النفس البريئة هو جريمة بكلِّ المعايير، مهما ارتدى الفاعل المجرم من عباءاتٍ دينية أو طائفية أو وطنية. فلا تغيير المجتمعات يصحّ بالعنف الدموي، ولا تحرير الأوطان ومواجهة «الإرهابيين» يبرّر قتل الأبرياء. إنّ الواقع العربي الراهن يستدعي وقفةً مع النفس العربية عموماً، للتساؤل عمَّ حدث ويحدث منذ عقد ونيف في المنطقة العربية من عنف داخلي عربي مسلّح، بعضه سبّبته قوى دولية كبرى، عبر الاحتلال أو التدخل العسكري، فأفرز إرهاباً، وبعضه الآخر استخدمته أنظمة أو معارضات، فصبّ لصالح الجماعات الإرهابية وغاياتها في تقسيم الشعوب والأوطان. بالمحصلة: فشلت الحكومات والثورات المسلّحة.. ونجح الإرهاب!
*مدير مركز الحوار العربي في واشنطن/”البيان”