رغم ما يحدث الآن في أكثر من بلدٍ عربي من صراعاتٍ دموية تبدو وكأنّها مفتوحة الأجل ولا حلول قريبة لها… ورغم قتامة كل المشهد العربي، ورغم سوء الحاضر فعلاً، فإنّ جملة تطورات دولية وإقليمية تؤشّر إلى قرب خروج هذه البلدان العربية، المتصارع فيها وعليها، من النفق المظلم الذي تعيش فيه حالياً.
لقد مرّ أكثر من عقدٍ من الزمن على إشعال شرارة الحروب الأهلية العربية المستحدثة في هذا القرن الجديد، والتي بدأت من خلال الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وتفجير الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية فيه، ثمّ من خلال اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في العام 2005، ثمّ بالمراهنة على تداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، ثمّ بتقسيم السودان في مطلع العام 2011 وفصل جنوبه المختلف دينياً وإثنياً عن شماله، ثمّ بتحريف مسارات الحراك الشعبي العربي الذي بدأ بتونس ومصر متحرراً من أي تأثير خارجي، وسلمياً في حركته، فانعكس على دولٍ عربية أخرى، لكنّه انحرف عن طبيعته السلمية المستقلّة بسبب التأثيرات والأجندات الإقليمية والدولية المختلفة، حيث أراد بعضها توظيف الانتفاضات الشعبية العربية لكي تكون مقدّمةً لحروبٍ أهلية ولصراعاتٍ طائفية ومذهبية وإثنية، ولتغيير سياسات وخرائط أوطان، وليس حكومات وأنظمة فحسب.
وقد رافق هذه الأجندات الإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض العربية نموّاً متصاعداً لجماعات التطرّف المسلّحة التي استغلّت حالات الفوضى والعنف لكي تمتدّ وتنتشر، بعدما صنعت والدتها “القاعدة” لنفسها قيمة دولية كبرى من خلال أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى بالعالم.
وقد استغلّت إسرائيل طبعاً هذه الصراعات العربية البينية، فواصلت عمليات الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة مراهنةً أيضاً على تحوّل الصراع الأساس في المنطقة من صراعٍ عربي/إسرائيلي إلى صراعاتٍ عربية/عربية، وعربية/إيرانية، وعلى تقسيمات طائفية ومذهبية تبرّر أيضاً الاعتراف بإسرائيل كدولةٍ يهودية.
لكن السمات السلبية الداكنة للسنوات الماضية بدأت تتغيّر إلى حدٍّ ما مع أواخر العام 2015، حيث انتقلت موسكو وواشنطن من حال التنافر والخلاف بشأن الأزمة السورية إلى حال التفاهم على العمل المشترك لحلّها، وفق قرار مجلس الأمن 2254 ثمّ بيانات فييّنا وميونيخ. كذلك شهد نهاية العام الماضي بدء تنفيذ اتفاق الدول الكبرى مع إيران بشأن ملفها النووي وبدء رفع العقوبات المفروضة على طهران منذ زمنٍ طويل. وهذان الأمران (التفاهم الأميركي – الروسي والاتفاق الدولي مع إيران) لهما أهمّية كبيرة الآن في معالجة أزماتٍ عربية متفجّرة أو مهدّدة بانفجارٍ أكبر. وربّما هذا ما يُفسّر سبب غضب بعض الأطراف الإقليمية على إدارة أوباما، وخاصة انتقادات تركيا الأخيرة، وقبلها ما صدر عن حكومة نتنياهو حيث سقطت المراهنة الإسرائيلية على إشعال حربٍ دولية وإقليمية ضدّ إيران وحلفائها بالمنطقة.
هي حقبةٌ جديدة في العلاقات الأميركية/الإسرائيلية، حقبة فيها المصالح الأميركية أولاً كمعيار لوضع السياسات الأميركية وليس نتيجة حجم التأثير الصهيوني في صنع القرار الأميركي. وهذا التغيير الذي حصل في العلاقات بين واشنطن وتل أبيب لن يؤثّر حتماً على حجم الدعم المالي والعسكري الأميركي لدولة إسرائيل، فواشنطن تُميّز بين الحاجة لدولة إسرائيل وضرورة دعمها، وبين الخلاف السياسي مع حكومة هذه الدولة، ومحاور الخلاف هي الآن شاملة لمسألتيْ سوريا وكيفيّة التعامل مع الملف الفلسطيني، إضافةً إلى الخلاف الذي حصل بشأن إيران.
إنّ المتغيّرات الإيجابية الجارية حالياً في العلاقات بين واشنطن وموسكو، وبين إيران والدول الغربية، ستؤدّي حتماً إلى تخفيف الصراعات الدولية والإقليمية على بلدان المنطقة العربية، كما ستضع مشاريع تسويات لصراعاتٍ وتطورات جارية الآن ومعنيّة فيها القوى الإقليمية الفاعلة، وشاملة للأزمات السورية واليمينة والفلسطينية واللبنانية والعراقية والليبية، وطبعاً للمواجهة مع جماعات الإرهاب.
فخيار التسويات هو المطلوب حالياً من قبل الأقطاب الدوليين حتّى لو كانت هناك “معارضات” لهذه التسويات على مستوياتٍ محلّية وإقليمية. لكن هذه التسويات يتمّ وضعها الآن على “ظهر سلحفاة”، بعدما فشلت تجارب دولية انفرادية سابقة بوضع مشاريع تسوية في “قطارٍ سريع”، لكن على سكك معطوبة من قِبَل أصحابها أو ملغومة بفعل هذا الطرف أو ذاك.
إقرأ أيضا: الصراعات قدَرُ المنطقة العربية
وفي ظلّ الظروف العربية السلبية القائمة حالياً وما فيها من مخاطر أمنية وسياسية على الكيانات الوطنية، فإنّ هذه التفاهمات الدولية هي الأمل الوحيد المتاح حالياً لمعالجة أزمات المنطقة، ولوقف انحدار أوطانها نحو هاوية التقسيم والحروب الأهلية المدمّرة. وهي حتماً مراهناتٌ عربية جديدة على “الخارج” لحلّ أزمات مشكلتها الأساس ضعف “الداخل” وتشرذمه.
المنطقة العربية تعيش الآن مرحلة عشيّة الخروج من النفق المظلم الذي ساد طيلة أكثر من عقدٍ من الزمن، لكن هي المرحلة الأخطر لأنّ كلّ طرف معني بصراعات المنطقة سيحاول تحسين وضعه التفاوضي على “الأرض” قبل وضع الصيغ النهائية للتسويات. وسيكون صيف هذا العام هو الحدّ الزمني الفاصل للاستحقاقات المتوجّبة لهذه التسويات، ليس فقط بحكم ما ورد في قرار مجلس الأمن حول سوريا أو المهل الزمنية المحدّدة لأزمات أخرى، بل لأنّ إدارة أوباما ستفقد فاعلية القرار في مطلع الخريف القادم بسبب استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية.
تحدث كل هذه التطورات الهامّة بينما العرب منشغلون في أوضاعهم الداخلية أو منقسمون ومتصارعون حول قضايا جوارهم العربي والإقليمي. فلا توافق عربي على أي أزمة عربية، ولا مرجعية عربية واحدة فاعلة، ولا رؤية عربية مشتركة لمستقبل المنطقة في ضوء المتغيّرات الحاصلة. ولعلّ ما يزيد من حجم المرارة في وصف الحاضر العربي أنّ الشعوب، وليس الحكومات فقط، غارقة أيضاً في الانقسامات وفي الخضوع لما تنقله وتعرضه وسائل إعلام عربية من تحريض وتعبئة وأكاذيب ضدّ “الآخر” في الوطن نفسه أو في الأمَّة عموماً.
وتظهر الأزمة الكبرى في المجتمعات العربية الآن حينما نسأل على ماذا تتصارعون؟ حيث الإجابة تتراوح بين من ينشدون الديمقراطية والتغيير عبر العنف المسلّح، وبين من يعتبرون أنفسهم حماة الدين أو الطائفة، بينما واقع الحال أنّ الديمقراطية والدين براء ممّا يحدث باسمهما من قتلٍ وسفك دماء.
هو انحطاط، وهو انحدارٌ حاصلٌ الآن، بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، عسكرة الحراك الشعبي واستخدامَ السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها، وفي صراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الأربعة الماضية. وقد ساهم في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي، على المستوى الشعبي العربي، هيمنةُ الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية، وضعفُ الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي، إضافةً لاستمرار غياب دور مصر الريادي الإيجابي في الأمّة العربية.
ومهما حدثت تطوّرات إيجابية على الصعيد الدولي، فإنّ السؤال يبقى: ما ينفع أن تخرج الأزمات العربية من النفق المظلم بينما تستمرّ عيون العرب معصوبةً بسواد الانقسامات الطائفية والمذهبية، وأياديهم مقيّدةً بسلاسل الارتباطات الخارجية!؟.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن