لم يكن المواطن العربي في حاجةٍ إلى وثائق جديدة، لكي يعرف حجم الفساد والنهب والاستنزاف الذي مارسته الحكومات والنخب السلطوية العربية في العقود الثلاثة الماضية، فما يعيشه هذا المواطن يومياً من فقرٍ وفشل وعوز هو بحد ذاته دليل على عفن هذه الحكومات والنخب. فهل كان اليمنيون في حاجة إلى “وثائق بنما” لكي يعرفوا حجم الفساد الذي تورّط فيه نظام علي عبد الله صالح، والغطاء السياسي الذي كان يوفره لرجل الأعمال الفاسد، شاهر عبد الحق بشر، وأخيه عبد الجليل؟ وهل كان السوريون في حاجة إلى الوثائق نفسها، لكي يعرفوا حجم الفساد الذي اقترفه نظام بشار الأسد في العقد الماضي، والغطاء السياسي الذي منحه لابني خاله، رامي وحافظ مخلوف اللذيْن تحولا أخطبوطين فاسديْن استوليا على مقدّرات الشعب السوري وموارده، ولا يزالان يتمتعان بهما؟ وهل كان التونسيون في حاجة إلى الوثائق نفسها، لكي يعرفوا حجم فساد نظام بن علي وأسرته، خصوصاً زوجته وأقاربها ومن حابوهم أو غيرهم من المسؤولين الذين هرّبوا أموالهم خارج البلاد؟ وهل كان المصريون في حاجةٍ إلى أية وثائق لكي يكتشفوا حجم فساد حسني مبارك وعائلته، وخصوصاً أولاده وزوجته؟ فالمصريون يعيشون أوضاعاً كارثية على المستوى الاقتصادي والصحي والخدمي، منذ أكثر من عشرين عاماً، بسبب النهب والسرقة التي قام بها مبارك وأبناؤه وأصدقاؤه الذين يتقدمهم حسين سالم الذي تصالح، أخيراً، مع نظام عبد الفتاح السيسي، في مقابل التنازل عن ثلث ثروته التي تبلغ مليارات الدولارات؟ وهل كان الجزائريون في حاجةٍ لوثائق جديدة كي يعرفوا حجم الفساد والإفقار الذي جرى بحقهم طوال العقود الماضية، على الرغم من أن بلدهم يمتلك وافراً من النفط والغاز يكفي، لو استغل بشكل جيد وعادل، لجعل الشعب الجزائري من أغنى شعوب الأرض؟
ليس غريباً، والحال كهذه، أن تحتل الدول العربية مرتبةً متقدمةً في معظم تصنيفات الفساد وتقاريره العالمية. وليس غريباً، أيضاً، أن تزداد الشعوب العربية فقراً وفساداً، بينما تزداد حكوماتهم ورجال أعمالهم غنىً وثراء فاحشاً، بعد أن حولوا ممتلكات الأوطان وخيراتها إلى ملكيات خاصة بهم، وبأقاربهم ودوائرهم. ومن يرى حجم الأموال والثروات المنهوبة تحت أسماء وهمية، ومن خلال عمليات غسيل أموال وتحايل، سوف يكتشف حجم الكارثة التي تعيشها المجتمعات العربية، فلو جُمعت الثروات والمبالغ التي تم الكشف عنها في “وثائق بنما”، والأخرى التي يُتوقع أن تُكشف لاحقاً، وقُسمت على الشعوب العربية، لكفتها الفقر والعوز.
إقرأ أيضا: “وثائق بنما”.. ليس دفاعاً عن اللصوص!
صحيح أن هذه الفضيحة المالية والسياسية لا تتوقف عند حدود العالم العربي. فنحن نتحدث عن حوالى 11 مليون وثيقة تم تسريبها تحتوي على مليارات الدولارات من الأموال التي تم نهبها من الشعوب، إلا أنه في ظل عدم وجود محاسبةٍ أو شفافيةٍ في بلداننا، فليس متوقعاً أن يؤدي ذلك إلى إطاحة المتورطين في هذه الفضيحة، على غرار ما حدث وسيحدث في بلدان أخرى، لديها من الديمقراطية ووسائل المحاسبة ما يمكّنها من وقف الفاسدين والمتورطين في “وثائق بنما” وتحويلهم إلى المحاكمة.
ومن هنا أيضاً يمكن فهم دوافع الثورات العربية، ولماذا اندلعت، ولماذا يحاول الفاسدون والمستبدّون الآن وقفها وإجهاضها. فقد قامت تلك الثورات من أجل تصحيح الخلل في توزيع الثروات في البلدان العربية، ومحاكمة الفاسدين من أنظمة الاستبداد التي نهبت خيراتها ووزعتها على حاشيتها، من دون أدنى اعتبار للمواطن، صاحب الحق الأصيل فيها.
ما كشفته “وثائق بنما” لا يعدو كونه مجرد قمة جبل الجليد في ملف الفساد في العالم العربي، وهو وإن كان مهماً لمعرفة الفاسدين، وأن نأمل بأن تتم محاسبتهم يوماً، إلا أن ما يعيشه المواطن العربي من معاناة وعوز وفقر ليس في حاجةٍ إلى وثائق أو دليل.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية/”العربي الجديد”