النقابة بمؤسساتها وهياكلها هي التي أنقذت تونس من الفراغ بعد تهاوي نظام زين العابدين بن علي. فالنقابة ممارسة ميدانية متصلة بالشارع وبالناس. والهياكل النقابية منتشرة في كل ربوع تونس. ولهذا لم تسقط تونس في الفراغ عندما سقط النظام الحاكم مثلما حدث في أقطار عربية أخرى. فلما خلتْ تونس حتى من الشرطة وجدت النقابيين ينظمون عمليات الدفاع الشعبي ويسيّرون الشأن العاجل، مساندين الدور الذي أدّاه الجيش الوطني بعد 14 يناير 2011.
ومهما تحركت الساحة السياسية في تونس ومهما اكتظت بالأحداث، تظل المسألة النقابية في عمق المشهد الاجتماعي والسياسي التونسي. والحقيقة أن المسألة النقابية لم تحظ بما هي أهل له من متابعة نقدية تحليلية، إذ كانت غالبا مدارا للتجاذبات والمزايدات. ثلاثة محاور يمكن من خلالها تقديم قراءة لقيمة العمل النقابي في تونس وتفكيك المواقف الغامضة منه وهي؛ علاقته بالشعب وبالدولة وبالإرهاب.
في علاقته بالشعب، كان العمل النقابي عبر تاريخه في تونس نبض الشعب معبّرا عنه. فالعمل النقابي ممارسة مدنيّة غايتها حماية العمّال والدفاع عنهم ضدّ كلّ أوجه الاستغلال. والممارسة النقابية في تونس ممارسة تاريخية تعود إلى زمن الاستعمار الفرنسي، إذ تشكلت أول نقابة عمالية تونسية سنة 1920 من قبل الزعيم محمد علي الحامي. وكانت تؤدي الدوريْن السياسي والنقابي، إذ لم يتخلف النقابيون عن الحركة الوطنية التي قاومت الاستعمار.
المزيد: الإضرابات في تونس ودولة النقابة
وخاض النقابيون كل التحركات الشعبية مع شعبهم ضد الاستعمار وأشهرها أحداث 9 أبريل 1938 التي صارت تعرف بعيد الشهداء في تونس. وكان في طليعة القوى التي تصدّت للاستبداد والظلم خلال دولة الاستقلال، من ذلك أحداث الخميس الأسود يوم 18 يناير 1978 وأحداث انتفاضة الخبز سنة 1984، ومسيرة 12 يناير 2011 في صفاقس، والإضراب العام ليوم 14 يناير يوم هروب بن علي من تونس، والإضراب العام يوم 8 فبراير 2013 يوم جنازة الشهيد شكري بلعيد، والإضراب العام يوم 27 يوليو يوم جنازة الشهيد محمد البراهمي.
هذه النماذج من الأحداث تؤكد اصطفاف النقابيين إلى جانب شعبهم. ولكن ما يعرفه العمل النقابي اليوم من انفلات من خلال فيضان الإضرابات والاعتصامات والمطلبية التي لم تتوقف منذ 14 يناير أربكت السير الطبيعي للحياة العامة في تونس. بل إن كثيرا من النقابات التي كانت تحتل مكانة اعتبارية عالية عند التونسيين باعتبار نضاليتها وشجاعتها في التصدي للاستبداد ووقوفها ضد السلطة، بدأت تخسر هذه المكانة عند الرأي العام الوطني. ولم يعد التونسيون ينظرون إلى العمل النقابي بنفس التقدير إذ الاستبداد زال وزالت معه بطولة العمل النقابي. وبقي الوطن عاريا من كل دعم تتنازعه المطامع. ويعتقد التونسيون أن النقابيين لم يقفوا مع الوطن بعد الثورة، بل وقفوا مع أنفسهم ومطالبهم القطاعية.
أما الدولة فقد كانت خصم النقابة الأول باعتبارها المشغل الأول في تونس. ولذلك لم تكن العلاقة بينهما على ما يرام، إذ أن الدولة تعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل الشريك الذي تتفاوض معه حول الأجور والقوانين الأساسية والمسائل المهنية. ولكن في الوقت نفسه يشكل العمل النقابي شريانا تنظيميا متماسكا موازيا للتنظيم الإداري الرسمي. ولقد حاول نظاما بورقيبة وبن علي مواجهة العمل النقابي بالتنظيمات الحزبية المتمثلة في الشُّعَب المهنية. وعرفت تونس طيلة تاريخها المعاصر إلى حدود 14 يناير 2011 صراعات حادة خفية ومعلنة بين النقابات القطاعية والشعب المهنية التي كانت تؤدي، في الغالب، دور الميليشيات وعيون الحزب الحاكم والبوليس.
ولما سقط النظام في 14 يناير 2011 سقطت معه عيونه وشعبه وبقيت النقابات. واكتسبت سلطة كبيرة وتولت طرد الكثير من المسؤولين من الإدارات عبر أسلوب “إرحل” الشهير. ولكن رياح الترويكا جرت بما لا تشتهيه سفن النقابات، فتمّ ملء الفراغ على رأس الإدارات بأشخاص أكثرهم من الإسلاميين المتحصّلين على العفو العام عبر آلية الولاء لا الكفاءة والجدارة وساء حال الإدارة. الترويكا، وخاصة حركة النهضة، حاولت إضعاف النقابات بتشجيع النقابات الموازية، ولكنها فشلت في مسعاها.
في علاقة بالإرهاب يتساءل كثيرون عن تفسير تهديد قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل بالاغتيال. التفسير موجود في ثنايا ما قلناه من أن الاتحاد خلايا منظمة مهيكلة منتشرة في كل ربوع تونس تمكنت من إنقاذ الدولة لما حدث الفراغ السياسي بعد 14 يناير. والمعروف أن الإرهاب يستهدف الدولة لإضعافها ووجود الاتحاد العام التونسي للشغل يساند الدولة ويعوض فراغها وأصحاب الأجندة الإرهابية يعرفون مكانة العمل النقابي عند الشعب التونسي وعند الدولة ويعرفون أنه شريك رئيسي لها.
فإضعاف الدولة لا معنى له في وجود الاتحاد والنقابات. من هنا نفهم الهجمة الشرسة التي خاضتها المساجد الكثيرة الخارجة عن الدولة على الاتحاد، حيث تمّ تجريم العمل النقابي وتكفير النقابيين وإهدار دم قياداتهم طيلة الفترة التي سبقت انتخابات 23 أكتوبر 2011 وأثناء حكم الترويكا.
المزيد: المأزق النقابي في تونس
العمل النقابي رغم قيمته التاريخية ورغم نضاليته فإنه صار يدور ضمن أوضاع متحركة تتسم بانقلاب المفاهيم وبتحولات اجتماعية وسياسية عاصفة وبرأي عام ملّ من الحراك ونفذ صبره على تأجيل الاستقرار الاجتماعي. ولهذا يحتاج العمل النقابي في تونس إلى مراجعات ضرورية حتى يواكب التحولات الوطنية الكبرى ويحافظ على مكانته الاجتماعية الرفيعة.
*كاتب وباحث سياسي تونسي/”العرب”