تطرح سلسلة الإضرابات المتتالية، التي عرفتها تونس في الأسابيع الأخيرة، والتي قد يشهد شهر مايو/أيار الجاري ذروتها، مسألة عميقة تخص المشروعية القانونية والأخلاقية لهذا الشكل من الاحتجاجات، التي ارتفعت وتيرتها منذ الثورة، والتي تجاوزت كل الأعراف وحتى القوانين في أكثر من حالة، في سياق لا تخفى ملامحه على أحد: اقتصاد على حافة الإفلاس في مناخ من الإرهاب المتنامي.
صورة العجوز، المبثوثة على الشاشات، والتي تتضور ألماً في أحد الأحياء الشعبية في ضاحية المرسى، وهي تستعطف عمال شركة الكهرباء والغاز الوطنية إعادة النور إلى منزلها المنقطع منذ ثلاثة أيام، وهي المشدودة باستمرار إلى آلات طبية، تعينها على التنفس، من حين إلى آخر، وتضبط لها دقات قلب عليل، ستظل تؤرق أصحاب الضمائر الحية طويلا.
أعربت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، هذه المرة، في بادرة نادرة، عن إدانتها بعض هذه الإضرابات، إثر إضراب أعوان شركة السكة الحديدية بشكل مفاجئ، في زمن تعرف فيه البلاد ذروة الامتحانات الجامعية. لم تستطع الهياكل القيادية للاتحاد، وأساسا مكتبه التنفيذي، هذه المرة، أن تلزم الصمت، أو أن تساند، كما جرت العادة، جملة الإضرابات، فأدانت صراحة “الإضرابات العشوائية” التي تسعى، حسب رأيه، إلى ضرب مصداقية الاتحاد.
لا أحد يشكك في شرعية الإضراب، بصفة عامة، شكلاً من أشكال النضال المطلبي النقابي، خصوصاً وأن الدستور التونسي يعد من الدساتير النادرة، التي تعترف بحق الإضراب صراحة، وتجعله من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولكن، يخضع هذا الحق إلى جملة من الإجراءات القانونية المعمول بها، وأهمها الإشعار المسبق (بما لا يقل عن عشرة أيام)، ناهيك عن استنفاد أشكال التفاوض والتحكيم والوساطة المعمول بها في مثل هذه الحالات، والتي شكلت أعرافاً نقابية عتيدة. وخارج هذه التفاصيل التي أصبحت تشكل كابوساً حقيقيا للتونسيين، يومياً، يحتاج الأمر في تونس ما بعد الثورة إلى إعادة رسم الحقول وتوزيع المواقع داخلها، حفظاً للصالح العام.
لن نسرد مختلف المحطات، التي مر بها الاتحاد العام التونسي للشغل، ولا الترابط العميق بين رسالته الاجتماعية، المتمثلة في الدفاع عن حقوق العمال، ومهمته الوطنية، سواء في مرحلة الاستعمار، أو بناء الدولة الوطنية، وهذه خصوصية تونسية محضة، وصولاً إلى مساهمته المهمة في الثورة، فبقطع النظر عن تلك المميزات، لا أحد ينكر، أيضاً، أن بعض قياداته، ومن دون أن تعير اهتماما لرأي القواعد التي أحالتها على مجالس التأديب، ووصل الأمر بها إلى تجريد بعضها من الانتماء، خصوصا في العشرية الأخيرة التي سبقت الثورة، فضلت، لتقديرات عديدة خاطئة، غض الطرف عن النظام ومساندته أحياناً، وهو أمر يعود، في اعتقادنا، إلى مركزةٍ مفرطة ذات صلة بالبناء الهرمي للهياكل، ناهيك عن موازين القوة المتحكمة في مختلف القطاعات والأجنحة داخله.
استطاع الاتحاد، بذكاء مفرط، أن ينتقي من ذاكرته الأصفى والأنقى، ليشكل ثقافة هي مزيج من الشهادة و”المظلومية”، إلى حد أصبح فيه مجرد التساؤل البحثي اعتداء على الاتحاد، وهكذا صعد الاتحاد فوق التاريخ جوهراً سرمدياً، ونمى رصيده من تلك النضالات، ليتمدد على فضاءات غير تقليدية: الحوار الوطني، وهو حوار سياسي بامتياز، لم يلعب فيه الاتحاد دور الوسيط المحايد، ودافعت قياداته عن رفض هذه المفردات التي لا تعنيهم، فضلاً عن أنها تصادر حقهم، فهم ليسوا وسطاء في الشأن الوطني، بل هم طرف فيه ومعنيون به قبل غيرهم، وأكثر منهم. وكان نجاح الحوار الوطني، ولا شك، نجاحاً للاتحاد، فهو أكثر مَن استفاد منه، فثمّنه وراكمه لصالحه، ولكن لمزيد من توسيع مناطق تدخله، وحقول نفوذه، في ظل انكماش الدولة وانكفاء الحكومة، واستطاع، أيضاً، في مناخ الضعف هذا أن يكون الطرف المهم في إصلاح المنظومة التربوية الجارية حالياً، وغيرها من المسائل المجتمعية الأخرى، على غرار نقل السلطة بين الرئيسين، الإرهاب والإعلام إلخ.
ولكن، مقابل هذا الانخراط الشمولي في الشأن العام، يقف المحلل على مفارقة عجيبة، إذ يتردد الاتحاد مقابل ذلك في أن يكون شريكا ملتزما في مسائل تعد من صلب اختصاصاته ومهامه، وأساسا المسألة الاجتماعية، وهو الذي وافق على وثيقة “العقد الاجتماعي” في 14 يناير/كانون ثاني 2013. ولكن، يبدو أنه لم يعد متحمساً للبحث في كيفية تفعيل ذلك، والعقد ينص على ضرورة بعث المجلس الوطني للحوار الاجتماعي، في ظرف زمني، أقصاه سنتان من تاريخ إمضاء العقد. ربما لأن ذلك قد يضعه بلا شك أمام التزاماتٍ ستقلص من هامش مناوراته الواسعة حاليا. كان في وسع الاتحاد مقابل حماسه لتلك الأدوار أن يلعب، أيضاً، دور “الوسيط الاجتماعي” الحريص على حقوق العمال، وعلى السلم الاجتماعي في بلد ينهشه عدم الاستقرار الناجم عن تصاعد مخاطر الإرهاب. ولكن، رأينا اتحاداً يتلكأ في قبول أن يكون له شركاء آخرون يفكرون ويقترحون معه في تلك المسائل الاقتصادية والاجتماعية. ولعلّ القطيعة والفتور اللتين تسمان العلاقة الحالية بينه وبين اتحاد الأعراف من صناعيين وتجار رجال أعمال وغيرهم، وقد تم إقصاؤه من مشروع الإصلاح التروي، مؤشر عما وصلت إليه الأمور، كما أن صمته عما يحدث في الحوض المنجمي، وهي مسألة اجتماعية اقتصادية، يفترض أن يكون للاتحاد موقف منها، وهو يشاهد إحدى أهم الأذرع، اقتصاد البلاد، تشل، وهذه مسألة تطرح أكثر من سؤال.
يبدو أن قيادة الاتحاد العام للشغل في تونس قد ضاقت ذرعا بجملة من التصرفات “غير المنضبطة” التي تأتيها بعض الأطراف من داخله، لربح مواقع سياسية، تعويضاً عما خسرته من قبل، في المنافسات السياسية التي شهدتها البلاد. وتضاعف الأمر من خلال “بلقنة” تجري حالياً فيه وانغراس قطاعاته في مصالح ضيقة، لا تستحضر ضرورة التضامن العمالي، في مقابل التضامن القطاعي. ولقد ترسخت، في السنوات القليلة الفارطة، هذه الثقافة، وتقاطعت مع مصالح بعض القيادات في علاقة بالمحطات الانتخابية المقبلة، والإصلاحات المزمع إدخالها عل الهياكل التنظيمية للمنظمة. وكل هذه العوامل المتداخلة ستدفع تلك التناقضات والاختلافات إلى أن تطفو على السطح، قادماً، في ظل ثقافة نقابية، ما زالت تعد الدولة نظاماً غاصباً والصراع مع الأعراف واجباً وطنياً. يحدث هذا وقد أنجزنا ثورةً، يفترض أن نعيد فيها تسمية الأشياء، فضلا عن نسج الصور والتمثلات.
لا أحد يرجو أن يكون لنا، في تونس، اتحاد ضعيف. ولكن لا أحد “ماسك عقله” يتمنى أن يكون لنا اتحاد فوق الدولة. الشعارات التي يرفعها بعضهم: “الاتحاد هو الكل …” فيه طمس للتعدد والاختلاف، واستحواذ على مهام ليست من مشمولاته، وما الشغف المحموم حاليا بافتكاك ما تخلت الدولة عنه، لعجزها أو ضعفها، إلا دليل على قصر نظر بعضهم. سينتشي بعضهم بما يغنمه من مهام الدولة التي تتبدد تحت أعيننا، ويبادر باستعراض القوة. ولكن، ستكون البلاد برمتها والاتحاد أول من يدفعان فاتورة ذلك الغي، لو انسقنا جميعا إلى الهاوية. وكما نخشى من دولة القضاة، أو دولة الإعلام، فإننا نخشى أيضا من دولة النقابة، حتى ولو كان الاتحاد.
* ناشط سياسي/”العربي الجديد”