في ما يُشبه تقاسماً للانتصار، في الانتخابات المحلية والمناطقية،، أخيراً، في المغرب، حقق حزبُ الأصالة والمُعاصرة نصراً انتخابياً واضحاً. في المُقابل، حقق “العدالة والتنمية” نصراً سياسياً، لا غُبار عليه.
الأصالة والمعاصرة الذي تأسس عام 2008، وحامت حوله شُبهة “حزب الدّولة “، استطاع تكريس نتائج تفوقه في محليات 2009، عبر الحفاظ على رتبته الأولى في عدد المُنتخبين المحليين.
في المُقابل، استطاع الحزب الإسلامي الذي يقود التحالف الحكومي، على الرغم من احتلاله الرتبة الثالثة من حيث عدد المقاعد، أن يحقق المرتبة الأولى، من حيث عدد الأصوات المعبر عنها في الانتخابات المحلية (أكثر من مليون ونصف صوت)، والمرتبة الأولى في عدد المُنتخبين في مجالس المناطق. ليُحقق بذلك مُقارنة مع نتائج اقتراع 2009، زيادةً في رصيده الانتخابي بحوالي 900 ألف صوت، ما مكنه من مضاعفة مقاعده ثلاث مرات ونصف، قافزاً من الرتبة السادسة إلى الثالثة.
بعيداً عن الأرقام المُضللة في حالاتٍ كثيرة، اكتسح “العدالة والتنمية” غالبية المدن والحواضر الكبرى، مُطيحاً معارضين كثيرين له، خصوصاً في معاقلهم الأكثر رمزية، والتي لعَل أهمها مدينة فاس التي استطاع أن يُزيح منها الأمين العام لحزب الاستقلال المعارض الذي ظل يُسيّر المدينة أكثر من ولايتين.
كلّ هذا جعل “العدالة والتنمية” يبرز من جديد أول قوة سياسية مدينية تحظى بالتصويت السياسي لفئات الطبقة الوسطى.
يزكّي السياق دلالات التفوق السياسي لـ “العدالة والتنمية”، فهذا الحزب الذي يدبر الشأن العام شكّل الاقتراع اختباراً حقيقياً لشعبيته ولسياسات حكومته، لكنه استطاع، في الأخير، أن يبتعد كثيراً عن فرضية التصويت العقابي.
استطاع اقتراع سبتمبر/أيلول الجاري استقطاب أكثر من 53% من المغاربة المُسجلين في اللوائح الانتخابية.
وإذا كان هذا الرقم لا يُشكل فتحاً مُبيناً في العلاقة المعقدة للمغاربة مع السياسة، فإنه يظل معقولاً، قياساً مع نسب المشاركة المُسجلة في محطاتٍ سابقة.
من حيث علاقة الاقتراع بالبنية الحزبية، يتأكد استمرار الأثر السياسي للإصلاح الانتخابي الذي دخله المغرب منذ سنوات، حيث تظل الخريطة الحزبية مُهيكلةً حول ثماني تشكيلات حزبية أساسية. لكن، مع تمايزٍ واضح بين مجموعةٍ أولى تضم الأربعة أحزاب الأولى الأكثر قوة ونفوذاً، والمجموعة الثانية التي تضم أحزاباً متواضعة أو صغيرة .
لكن هذا الاستمرار لا يجب أن يُخفي التحولات الأيديولوجية التي يعرفها المشهد الحزبي، والمُتميزة أساساً بخُفوت الصوت اليساري، وهيمنة الاتجاه اليميني والمُحافظ. ومن جهة أخرى، بتراجعٍ كبير لما كانت تعرف بأحزاب الحركة الوطنية.
كما أن المشهد الحزبي يبدو تحت تأثير دينامية إعادة التّشَكّل، تتميز، بالأساس، بتعددية مُعقلنة مع إرهاصات ثنائيةٍ حزبيةٍ حادّةٍ، بين حزبي العدالة والتنمية، والأصالة والمعاصرة، حيث يبدو الصراع بين المشروعين المجتمعييْن لكلا الحزبين، مُهيكلاً لكل الخريطة السياسية والحزبية، ومُلقياً بظلاله على باقي الفاعلين.
سياسياً، أحد دروس الاقتراع هي كذلك الفشل الذريع لأُطروحة مواجهة رئيس الحكومة وزعيم “العدالة والتنمية” عبدالإله بنكيران، بواسطة أحزاب فاقدة استقلالية القرار، ومن خلال قيادات بلا مصداقية، إذ من جديد يتأكد أن “بعض” المُعارضة المنخرطة في أجندة مقاومة الإصلاح تُشكّل، من حيث لا تدري، واحداً من عوامل قوة “العدالة والتنمية”، حيث لا تعمل سوى على تقوية فرضية تفوقه الأخلاقي لدى فئاتٍ واسعةٍ من الرأي العام، غير راضية بالكامل على سياسات الحكومة، لكنها غير مُقتنعة أخلاقياً بالبديل المطروح.
من جهةٍ أخرى، شكل اقتراع 4 سبتمبر/أيلول الجاري في الانتخابات المحلية تقدماً على مستوى شروط النزاهة والتنافسية، من خلال ما رصدته تقارير المُلاحظين من حيادٍ إيجابيٍ للسلطات العمومية، على الرغم من استمرار ظاهرة الاستعمال المُكثف للمال للتأثير على الناخبين، وتسجيل نسبٍ ملحوظةٍ من الخروق الانتخابية، وكذا الكثير من حالات العُنف اللّفظي المُتبادل.
على أن الدرس الرئيس لهذا الاقتراع يبقى، على العموم، انبعاثُ فرضية عودةٍ مترددة للسياسة إلى الحقل الانتخابي المغربي. فقد قُرئت معادلة اقتراع 2015 مُحاولة تعبئة “المحلي” لخدمة المشروع “الوطني”، وهي المُعادلة التي طالما تم عكسها في محطات انتخابية كثيرة أخيرة، عندما كان المشروع السياسي الوطني يكاد يختفي وراء تفاصيل المعارك المحلية وكثافتها. حيث أن الخطابات التي أنتجها فاعلو هذه الانتخابات اتخدت طابعاً سياسياً، بأفقٍ وطنيٍ مُتحرر من قضايا “القرب” التي طالما هيمنت على التنافس الانتخابي المحلي، وبموضوعٍ مركزيٍ كبير، هو الدفاع أو مهاجمة المُنجز الحكومي، ما أدى، في النهاية، إلى تعبئة أكبر في صفوف فئات الطبقة الوسطى المدينية، وإلى إعادة الاعتبار للتصويت السياسي. ما يعني، في نهاية التحليل، انتصاراً نسبياً، خصوصاً داخل الحواضر الكبرى للتصويت المبني على اختيار المشروع والفكرة والحزب، على أشكال التصويت المبنية على روابط الدّم والنفوذ القبلي ووشائج الزبونية التي يخلقها الأعيان، أو على استثمار شبكات الخدمة اليومية.