دخلت إسپانيا صباح اليوم الاربعاء، طورا جديدا، بكل المعاني، في مسارها الديموقراطي الذي أرساه دستور البلاد نهاية العام 1978. جسدته الجلسة الأولى للبرلمان لانتخاب الرئيس وأعضاء المكتب.
واختلفت الصورة عن سابقاتها خلال الولايات التشريعية الماضية، اذ لأول مرة يختار النواب رئيسا من خارج الحزب المتصدر للنتائج وهو الحزب الشعبي الذي يقود الحكومة المنتهية ولايتها والذي وجد نفسه مضطرا للتنازل عن حقه الادبي، في الدفع بمرشح عنه للرئاسة، بالنظر لفقدانه الاغلبية المطلقة عقب انتخابات العشرين من ديسمبر الماضي.
ووفقا لاتفاق ثلاثي غير مكتوب، بين الحزب الشعبي وثيودادانوس والحزب الاشتراكي العمالي، فقد فاز بالرئاسة مرشح عن هذا الاخير في الجولة الثانية من الاقتراع بأغلبية نسبية بلغت 130 صوتا، هو نفس العدد الذي حصل عليه “پاكتسي لوپيث” في الجولة الاولى، مقابل 71 صوتا آلت لمرشحة حزب، پوديموس، كارولينا بيسكانسا، التي حضرت الى البرلمان رفقة رضيعها الذي كان بإمكانها ان تودعه في حضانة المؤسسة التشريعية؛ لكن بما انها كانت واثقة من انها مجرد أرنبة سباق نحو الرئاسة، فقد فضلت احتضان طفلها ومداعبته على مرأى نواب الأمة.
ولأول مرة في تاريخ المؤسسة التشريعية الاسبانية يصوت 140 نائبا بورقة بيضاء اي ان العدد يفوق أصوات الفائز بالرئاسة، وهذه مفارقة غريبة قد تكون لها تداعيات على المستقبل السياسي في البلاد ولا سيما تشكيل الحكومة الجديدة التي ان نجح المكلف بتشكيلها، ستواجه برلمانا منقسما على نفسه، متباعد المواقف.
ولاحظ محللون ان أغلبية النواب الاسبان يجلسون لاول مرة على مقاعدهم تحت قبة المؤسسة التشريعية جدد، فقد اختفى فرسان الماضي، وخاصة من الحزبين التاريخيين: الشعبي والاشتراكي؛ بعضهم لم يترشح وآخرون فقدوا مقاعدهم امام زحف الحزبين الجديدين، پوديموس وثيودادانوس.
وبرأي محللين، فإن مهمة الرئيس الاشتراكي الجديد، لن تكون سهلة، اذ عليه ان يوحد ويجمع شمل ما فشل، راخوي، في ضمهم حتى الآن، الى أطروحته والقبول به كخليفة لنفسه في حكومة ائتلافية، ذات قاعدة برلمانية عريضة تمكنها من إجراء الإصلاحات الكبرى التي تنتظرها البلاد. ويراهن كثيرون على تجربته وخبرته في ادارة الخلافات السياسية، وهو من إقليم “الباسك” وهي سابقة، ومن مواليد 1959.
ويعول راخوي، على مرونة قيادة الاشتراكيين وثيودادانوس، وهما اللذان صوتا لصالح رئيس البرلمان، للدخول معه في تحالف تاريخي، يعزل، پوديموس، في خانة المعارضة، خاصة وان الجهاز التنفيذي سيواجه منذ البداية تداعيات الحالة السياسية في اقليم كاتالونيا؛ اذ يفضل راخوي ان لا يكون وحده في المواجهة مع دعاة الانفصال في الاقليم الذي تصر حكومته الجديدة، وبلهجة تصعيد اكثر حدة من السابق، على المضي حتى النهاية في الطريق الخطر نحو اعلان جمهورية “كاتالونيا المستقلة”!!وهذا سيناريو التزم راخوي بمقاومته خلال المرحلة الانتقالية حتى ان فشل في تكوين حكومة، اذ أمامه خمسة أشهر على الاقل تمكنه من تفعيل الآليات الدستورية وحتى العسكرية لابطال الانفصال. فهل يتخلى، پيدرو سانشيث والبرت ريفيرا، عن لاءاتهما وينخرطا في فريق حكومي متفاوض عليه للحيلولة دون ازمة عميقة تبدو البلاد على شفا السقوط في حفرتها السحيقة؟
إقرأ أيضا: “راخوي” يستبعد الخطوط الحمراء لتشكيل حكومة مع الاشتراكيين و”ثيودادانوس”
يبدو ذلك صعبا، لكن منطق الدولة والمصلحة العليا للبلاد يمكن ان ينتصر في النهاية. وفي هذا الصدد سيختبر العاهل الاسباني مدى تأثيره المعنوي لاقناع الحزبين بالانضمام الى راخوي وقبوله رئيسا ببرنامج حكومي انتقالي متوافق ومتفاوض عليه. ذلك ان ملك إسبانيا، يدرك قبل غيره ان التحدي الانفصالي في، كاتالونيا، سابقة منذرة باخطر العواقب ان تم التسامح معها، والانفصال يستهدف برضوح، العرش الاسباني قبل اي هدف آخر. وبالتالي فان فشل، فيليپي السادس، في الاقناع، فإن الدعوة لانتخابات جديدة ستصبح الحل الوحيد المتبقي. وهذا الاحتمال سيسعد، پوديموس، الذي يطمح في رفع شعبيته، لكنه بذات الوقت قد يكون سبب تراجعه، اذ سينظر اليه على انه معرقل لأي تفاهم أو تحالف بين المكونات الحزبية.
ويشرع الملك الاسباني قريبا في إجراء المشاورات مع قادة الأحزاب الممثلة في البرلمان، بدءا من الأصغر حتى الأكبر الذي قد تعود اليه في الخاتمة مهمة تشكيل الحكومة اي الحزب الشعبي. وان فشل يأتي الدور على زعيم الحزب الاشتراكي، الذي يراهن على حكومة يسارية تعددية، يتوقع لها الجميع الإخفاق بسبب التباعد بين مواقف مكوناتها ولا سيما بخصوص المسألة الكاتلانية.
واذا سارت الأمور بدون مفاجآت، يتوقع ان يمثل ماريانو راخوي، أمام البرلمان نهاية الشهر الجاري او بداية المقبل على ابعد تقدير.