*مقدّمة:
لا يختلف اثنان في تونس حول هشاشة المشهد الحزبي في البلاد بعد ثورة 14 جانفي 2011. فرغم الانفجار الحزبي الذي اندلع بعد الحدث الثوري مباشرة وبلوغ عدد الاحزاب الى حدود مائتي حزب، ليستقرّ في حدود 105 أحزاب حاصلة على الترخيص القانوني، ورغم مشاركة 910 قائمة حزبية في الانتخابات التأسيسية وما يقرب منها في الانتخابات التشريعية 2014، فإن الإجماع حاصل لدى المراقبين وحتى لدى عامة الناس على ان هذا “الاكتظاظ الحزبي” لا يترجم حركية وفاعلية سياسية حقيقية، وثراء في البرامج والخيارات السياسية المتاحة أمام المواطن.
يكفي أن نعرف أن 36% من التونسيين لا يعرفون اسم أي حزب سياسي في تونس. وأن 30% من البقية يعرفون فقط بين اسم واحد وثلاثة أسماء من هذه الغابة الحزبية الكثيفة (حسب استطلاع انجزه معهد البحوث الاحصائية وتحليل المعطيات)
* تقاليد السياسة في تونس قبل الثورة..وما بقي منها:
لا يخلو المجتمع التونسي طبعا من التجارب السياسية في ظل الدكتاتوريتين المتعاقبتين مع بورقيبة وبن علي. فقد راكمت الطبقة السياسية المعارضة تجربة نضالية محترمة تمثلت في تيارات سياسية تبلورت حولها تجربة المعارضة: التيار الاصلاحي الليبرالي الذي أسسه منشقون عن الحزب الاشتراكي الدستوري ووفّر مظلة صحفية قانونية استظلّت بها المعارضة وازدهرت على ارضها الحركة الحقوقية، ممثلة في جريدة الرأي وبعدها مجلة المغرب. ومثل البداية الفعلية لتعددية سياسية ممكنة مع حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي نافست الحزب الحاكم في انتخابات 1981 و”اضطرّته” الى تزوير الانتخابات، لتكون الثمانينات عشرية “تبرعم” المطلب الديمقراطي الليبرالي في تاريخ تونس.
قبل ذلك تمخّض الحراك الطلابي في الجامعة التونسية الوليدة عن نشاة “تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي” ومجلته “برسبكتيف” من قبل مجموعة من الطلبة اليساريين الحاملين للحلم الاشتراكي الاممي. هذه التجربة السياسية اليسارية، ورغم انتهائها تنظيميا بعد محاكمات متتالية(1967-1974-1975)،فإنها تواصلت في تجارب سياسية يسارية أخرى مثل “العامل التونسي” الذي تحوّل الى “حزب العمال الشيوعي التونسي” منذ 1986 ليتخلى عن صفته الشيوعية اخيرا ويصبح “حزب العمال” منذ 2012. الى جانب تنظيمات طلابية شيوعية تحولت بعد الثورة الى أحزاب سياسية قانونية مثل “حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد”. الجديد والمهم في تاريخ اليسار التونسي هو تمكنه من تجاوز “تقليد” الانقسام والتشظي ونجاحه في التوحّد ضمن “الجبهة الشعبية” منذ اكتوبر 2012. دون أن ننسى طبعا المكوّن اليساري القديم والأكثر تجذّرا في أوساط النخبة السياسية والادارية والاكاديمية وهو “الحزب الشيوعي التونسي” الذي كان فرعا للحزب الشيوعي الفرنسي ليأخذ صفة “التونسي” سنة 1943، ويمرّ بسلسلة من التطوّرات انتهت به الى وضعه الحالي تحت اسم “حزب المسار”.
الاتجاه القومي العروبي في السياسة كان حاضرا بأشكال عديدة في المشهد السياسي التونسي. ولعله كان أثناء معركة التحرير الوطني في مواجهة الاستعمار شعورا فطريا بالانتماء العربي تماما كالشعور الاسلامي لا يحتاج برهنة ايديولوجية حزبية. غير أنه، ومع ظهور التيارات القومية في المشرق العربي وصعودها الى الحكم في مصر والعراق وسوريا( 1952 في مصر و1963 في كل من العراق وسوريا) وتزامن ذلك مع انقسام الحركة الوطنية في تونس بين بورقيبة وصالح بن يوسف، اتخذ التوجه العروبي في التفكير السياسي شكل الانتظام الحزبي ممثلا في فروع “قطرية” لحزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه العراقي والسوري لينتهي اليوم الى مكوّنين رئيسيين يحملان بذور الانقسام التقليدي بين التيار الناصري، ممثلا في “حركة الشعب” والتيار البعثي اليساري ممثلا في “حزب الطليعة العربي الاشتراكي”(مع الاخذ بعين الاعتبار حزب “التيار الشعبي” الذي تأسس بناء على اختلاف في التقدير السياسي مع حركة الشعب، ولعله في طريقه الى التحول الايديولوجي نحو الضفة اليسارية بحكم انضمامه الى الجبهة الشعبية).
المكوّن الرابع للمشهد السياسي التونسي هو ما اطلقت عليه الصحافة التونسية بداية الثمانينات من القرن الماضي “الاتجاه الاسلامي”. ولعلّ التسمية في حد ذاتها تدلّ على ان نشاة هذا التيار بقدر ما كانت ضبابية المرجعيات (التي تراوحت في تاثرها بين المدرسة الاخوانية في التربية والتكوين التقليدي في الفقه وكتابات مالك بن نبي في الفكر وانجازات الثورة الايرانية في السياسة)، بقدر ما كان هذا دليلا سوسيولوجيا على “محلية” و”وطنية” هذا التيار، الذي استمرّ في نهجه “التجريبي” و”التجديدي” الى الان. ميزة هذا التيار انه مثّل منذ نشأته الرسمية سنة 1981 محور وموضوع الحياة السياسية في تونس. فمنذ محاكمات قياداته في تلك السنة، مرورا بحملة الاستئصال التي تعرّض لها زمن بن علي انطلاقا من 1989 حتى قيام الثورة، مثلت “حركة النهضة”(الاسم الذي اختاره التيار الاسلامي لنفسه في شهر فيفري 1989) قطب رحى السياسة في البلاد . ورغم اعتقاد الكثيرين ان الحركة انتهت سياسيا وماديا بعد عشرين سنة من الغياب والملاحقة والتهجير، فإن الانتخابات التأسيسية التي جرت في أكتوبر 2011 أثبتت تجذّر الحركة في البلاد واتساع حضورها في الوجدان الشعبي بقطع النظر عن تقييمنا لادائها السياسي الذي ليس هذا المقال مجاله. وبعد تجربة حكم ائتلافي مع حزبين آخرين من أصول ايديولوجية مختلفة( وهو ما يُعدّ سابقة سياسية في التاريخ العربي الحديث) فيما اصطلح عليه بحكم “الترويكا”، ورغم حجم الهرسلة الذي تعرضت له حكومتا الثورة الاولى والثانية (والذي وصل الى حد تنظيم اضرابين عامين في سنتين متتاليتين، وهو أمر كفيل لوحده بتدمير أي تجربة حكم في ديمقراطية مستقرة، فما بالك بديمقراطية جنينية)، ورغم اندلاع موجة ارهاب مدمرة استهدفت رموزا سياسية وقوات الجيش والامن، مستفيدة من مناخ الانفلات السياسي والاجتماعي والاعلامي ومرور أجهزة الدولة بمرحلة تحوّل وضعف بعد ثورة…رغم كل ذلك لم تفقد حركة النهضة ثقة ناخبيها. وحلّت في الانتخابات التشريعية الاخيرة(26 اكتوبر 2014) في المرتبة الثانية . وهو موقع اهّلها لتكون جزء من الإئتلاف الحاكم الجديد الذي جمعها بالحزب الفائز، حزب نداء تونس، في التقاء فاجأ المراقبين السياسيين، وربما فاجا ناخبي كلا الحزبين، واعتبره كثيرون ضدّ منطق الأشياء. في حين بيّنت الوقائع جدواه وربما ضرورته في التخفيف من حدّة التجاذب السياسي الذي ميّز البلاد خلال حكم الترويكا ودفع بالبلاد الى حافة الحرب الأهلية والفوضى الشاملة.
طبعا لا يمكننا ان نغفل عن ذكر مكوّن آخر رئيسي في المشهد السياسي التونسي وهو “الاتحاد العام التونسي للشغل” الذي لعب منذ تأسيسه دورا سياسيا مباشرا الى جانب دوره النقابي المطلبي. ولعلّ الموقع الذي تبوّأه خلال الثورة وتأطيره للتحرّكات الاحتجاجية ضد النظام، ثم انخراطه المباشر في صف معارضة الترويكا، ثم اشرافه على “الحوارالوطني” الذي انتهى بخروج النهضة من الحكم وتشكيل حكومة “تكنوقراط” أشرفت على تنظيم الانتخابات واستكمال المرحلة التاسيسية… كل ذلك جعل المنظمة النقابية في قلب العملية السياسية في تونس وجعل كثيرين ينظرون اليها على انها اكبر حزب سياسي في البلاد.
* موج الحرية العالي وزبد الأفكار السياسية
ما تمخّض عن هذا المسار السياسي المعقّد والثريّ والمليء بالنضالات الحقيقية والتضحيات المؤلمة التي لم تُمح آثارها الى اليوم، يوشك أن يكون زبدا خالصا، رغم موج الحرية العالي الذي وهبته ثورة مفاجئة للجميع، شعبا ونخبا وسياسيين وكادحين وشبابا حالمين..الخ.
فبعد موجة الحماس العارمة التي أعقبت الثورة وانخراط الناس في السياسة كشأن عام يخصّ الجميع، وبعد أن صدّق الناس ان الديمقراطية، بما هي المشاركة الحرّة والمباشرة في رسم السياسات وتنفيذها، أمر ممكن وواقعي وليس من قبيل الحلم والطوبى. وبعد افتتاح مسار تأسيسي اختار القطع مع القديم والتأسيس الجديد للسياسة والثقافة والاجتماع…بعد كل هذا نفاجأ الان بحجم النقمة العامة على الطبقة السياسية وبحجم التذمّر من السياسيين وبحجم الانسحاب من الاهتمام بالشان السياسي، بما يجعلنا نتحدّث عن أزمة حزبية حقيقية.
* من صنع هذه الهشاشة الحزبية رغم توهّج الحلم الثوري؟
اوّل عوامل هذه الهشاشة هي جدّة السياسة في تونس. فرغم ما تحدّثنا عنه من عراقة النضال السياسي في تونس فيجب ان لا نغفل عن أن آلة التجريف القمعي البوليسي في عهد بن علي صحّرت المشهد السياسي وكادت تقتل السياسة نهائيا أواخر الزمن الدكتاتوري . وربما كان ذلك احد أسباب اضطلاع الشارع بدور الاحتجاج الجذري الراديكالي غير المؤطر سياسيا وتجاوزه للأفق السياسي الحزبي، الامر الذي أتاح قيام الثورة.
ثاني العوامل هو عدم استقرار العملية السياسية برمتها في ظل مؤثرات محلية واقليمية ودولية معقّدة جعلت قطاعات واسعة من الناس وحتى من السياسيين يؤمنون بان ” اوراق” اللعبة (بعبارة السادات الشهيرة) توجد في مكان اخر وليس في تونس.
ولعلّ العنصر الخطير الذي أربك المشهد وأشاع مناخا من الشك في جدوى السياسة هو “الارهاب” الذي يرى الجميع آثاره المدمرة القاتلة والفاجعة ويختلفون حول أصله وفصله وحقيقته، حتى لا يكاد يتفق اثنان على تعريف واحد له. الارهاب يكلّف الدولة ثمنا اقتصاديا مرتفعا جدا، ويمنع الاستقرار الضروري للعمل والانتاج، ويكلّف المجتمع انقساما واحترابا. ويكلّف نزيفا في صفوف شباب يرتمي في احضان مشاريع القتل والتدمير الذاتي للوطن عوض ان يكون قوّة بناء وطاقة نهوض. أما كلفته الثقافية فهي لا تكاد تقدّر، إذ انه يُهدر طاقة الدين الروحية والفكرية، التي من المفترض ان تصرف في الخير والبناء والاعمار، في مشاريع انتحار وقتل مجاني.
عامل اخر خلق حالة العزوف العام عن السياسة هو مناخ المناكفة السياسية غير المنضبطة لا للقانون ولا للاخلاق . وهنا لعب الإعلام دورا، يحتاج ان يقع تقييمه موضوعيّا، في إشاعة ونشر مجموعة من الشعارات التي اخترقت الوعي العام وانتهت به الى “الكفر” بالسياسة والسياسيين والى اليأس من مستقبل العملية السياسية عموما. ولعلنا نذكر جميعا شعارات “البلاد داخلة في حيط”،”الاحزاب الكل كيف كيف”،
“السياسيين الكل يجرو على المناصب”، “تقاسم الكعكة”، “الحكومة فاشلة”…بما خلق حالة قرف عام لدى الناس من هذا الصراخ والتشنج الذي طبع المناخ الاعلامي والسياسي وانعكس على المزاج العام ..يأسا وانسحابا .
* تونس ..الى أين؟
السياسة في تونس بعد الثورة تتجدّد وتتقدّم في صنع جديد لم يتبلور شكله النهائي بعد. لكن لا احد ينكر ان نجاحا مهما سجلته الطبقة السياسية، على كل القصور الذي اثرنا بعض أوجهه، في الملف السياسي. فقد تم إنجاز دستور الثورة بعد توافقات عسيرة بين كل أطياف الفكر والسياسة في البلاد. وتم عقد تسويات تاريخية بين عائلات ايديولوجية تختلف جذريا في أرضياتها النظرية، في مشهد يكاد يكون “عجائبيا”، وكل ما يقال حول هشاشة هذه التوافقات، رغم وجاهته، لا يمسّ من قيمتها وضرورتها، ودورها في ضمان استمرار العملية السياسية ومنع الانزلاق نحو الفوضى الشاملة التي انحرفت اليها الثورات العربية الاخرى بسبب فشل النخب السياسية الجديدة في ادارة الوضع الجديد سلميا ومدنيا وديمقراطيا.
يدور الصراع السياسي في تونس اليوم بكثير من الصمت، وبكثير من الدهاء وربما النضج أيضا. فالمشهد الحزبي لم يستقرّ نهائيا. والأحزاب الكبرى تمرّ بتحوّلات تاريخية مهمة في انتظار أن يعقد نداء تونس مؤتمره التأسيسي، وان تعقد حركة النهضة مؤتمرها العاشر. وهما حزبان سيقرران شكل الحكم في تونس وطبيعة الديمقراطية التونسية . لا أحد في تونس اليوم يشكك في العملية السياسية وفي النهج الديمقراطي . ولكن لا أحد من الأحزاب الخمسة الكبرى( من حيث الحجم والحضور، على تغير ترتيبها وهوية واحد او اثنين منها ) يتحمّل خروجا “مبكرا” من سباق السياسة . اتحاد الشغل (المقدم على مؤتمر انتخابي مهم) واتحاد الأعراف لن يقبلا تراجعا في المواقع التي اكتسباها خلال المرحلة الانتقالية . بل لعلّ مصلحة العملية الديمقراطة تقتضي استقرارا في الحد الأدنى في المشهد الحزبي والجمعياتي حتى يكتمل البناء المؤسساتي الدستوري ( انتخاب المجلس الاعلى للسلطة القضائية وتكوين المحكمة الدستورية، واقرار قانون الانتخابات البلدية وموعدها ) وحتى يتمّ الشروع في فتح ملفات الإصلاح الاستراتيجي المعطلة مثل ملفّ الارهاب وملف اصلاح التعليم وملف العدالة الانتقالية وملف المصالحة الاقتصادية وقانون المالية لسنة 2016 … وهي كلها ملفات خلافية لا يحصل حولها إجماع وقد تكون مدخلا لانقسامات سياسية وتجاذبات قد تنتج تصادما بين القوى السياسية والاجتماعية بما لا تتحمله البلاد في نهايات مرحلتها الانتقالية الهشّة.
* خاتمة
لا يُنبئ المشهد السياسي الحزبي في تونس بوضوح ودقة كافيين عن اتجاهات العملية السياسية فيها. ولكن حجم المكاسب السياسية على طريق انجاز الديمقراطية يعطي انطباعا بأن ما تراكم من فعل ووعي ديمقراطيين، اذا ما وُضع في سياق مقارن بدول الجوار الاقليمي، لا يمكن ان ينهار بسهولة يتخيلها البعض من ذوي الهوى الانقلابي، أو من الزاهدين في الديمقراطية والذين يفضلون عليها استقرارا وأمنا مقابل “العيش”.
“الحلم” الثوري المصاغ ديمقراطيا والمحقق للكرامة والحرية، ما زال حيا تحت رماد اليأس الظاهر من السياسة. ولعلّ القبول العام حزبيا وشعبيا، بمنهج “التوافق” كآلية انتقالية للدخول الامن في عصر الديمقراطية الطارئة على الفضاء السياسي العربي، لعله يبعث على الامل في عودة الروح الى السياسة باعتبارها تسييرا ديمقراطيا للشان الوطني العام، لا ساحة توحّش تستباح فيها كل وسائل الحرب.