مقدمة:
عادت المواجهات في الجنوب الجزائري ليتجدد الجرح النزيف، فالصراع في تلك المنطقة لا يترمّد الا لكي يتجدّد. تختلف الروايات عن الشرارة القادحة للاحداث الاخيرة، ولكنها بين صراع حول العقار، أو تحطيم مقام لأحد علماء الاباضية، ثم تطورت الى مواجهات بين الشباب ما يهدد بصراع طائفي قد يكون له عواقب وخيمة على البلد.
تحطيم مقام “عمي موسى” قال عنه أحد الاباضيين “لن يبرأ جرحي ما حييت”. فهو عالم متوفى سنة 1617، هو رمز للتعايش السلمي في هذه المنطقة، وهو من تحمل مسؤولية قرار ادماج البدو (العرب) في المدينة الميزابية في 1586 بحسب الباحث محمد حاج السعيد.
ولم يتقبل السكان تحطيم المقام المسجل في التراث العالمي من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) ثم نبش القبور المجاورة له في 26 ديسمبر الماضي.
بينما كان سبب اندلاع الاحداث في رواية اخرى، هو عرض قناة فضائية اسلامية شهيرة لبرنامج يؤكّد كفر الاباضيّة و تحليل قتلهم، لانهم يقتلون في العشرين من كل شهر رمضان رجل سنيّا. انتشرت الإشاعة بين الشباب عبر الانترنيت، وتزامنت مع موت شابين من المالكيّة على اثر حادت سيارة لصاحبها مع سيارة اخرى، لتتجدد المواجهات بين عرب مالكييّن وأمازيغ إباضييّن.
قرون التّعايش وأسباب التّنافر
مدينة غرداية تشهد منذ عدة أسابيع مواجهات متكررة أدت الى فاتورة ثقيلة: 22 قتيلا وأكثر من 100 جريح في ظرف 48 ساعة، المشهد مروع في مدينة “الڤرارة” التي يسكنها حوالى 57 ألف ساكن، حيث شهدت أعنف المواجهات في الأحياء التي يقطنها العرب المالكيون المتاخمة للأحياء التي يسكنها الإباضيون الأمازيغ، خلافا للمناطق الأخرى في غرداية، التي عادة ما تكون فيها الأحياء بعيدة عن بعضها البعض نسبيا.
بدأت حلقات المسلسل الدرامي سنة 1975، وظلت تتكرر كل بضعة سنوات، لتتفجر آخر الحلقات في ديسمبر 2013. ومنذ ذلك الوقت و المدينة تنزف،رغم محاولات السلطة المتكررة من أجل وضع حد لهذه الفتنة، لكن الوضع كان يهدأ بين فترة وأخرى ثم يعود للانفجار مجددا بتدمير الممتلكات وغلق المحلات وحرمان الأطفال من الدراسة.
ورغم الهدوء الحذر السائد خلال الأيام الماضية بعد مواجهات أدت الى مقتل ثلاثة أشخاص آخرين، الا ان التعايش بين طائفتي بني ميزاب الامازيغ الاباضية والشعامبيين العرب السنة الذي دام مئات السنين، يبقى مهددا. وانتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي اشرطة فيديو تظهر شبابا يحطمون أملاك الميزابيين الذين رأووا ان ما وقع كان تحت اعين الشرطة دون ان ترد الفعل.
العرب المالكيون يرون أن الإباضيين هم المعتدون، و مستفيدون من امتيازات وأسبقية، ويسيطرون على الادارة، والسباقون بالاعتداء مدججون بالسلاح، مستاجرين بلطجية من المهاجرين الأفارقة المقيمين في المدينة للهجوم على الأحياء العربية، وإيقاع الضحايا وتحطيم الممتلكات.
المزيد: أحداث غرداية: صراع مذهبي أم فشل للنظام الحاكم
وهو ما يؤكده رئيس مؤسسة الشعامبة “بوعمر بوحفص” الذي اعتبر ان “المشكل هذه المرة هو بين الميزابيين انفسهم”، مؤكدا أن طائفته هي التي تعرضت للاعتداء “من طرف مجموعات من الميزابيين”.
والإباضيون من جهتهم يؤكدون على أنهم هم الضحايا، بسبب الغيرة، فالمزابي أو الإباضي معروف باستقامته ونظافة يده ونجاحه في التجارة، وهو ما يجعل الطرف الآخر الذي يعاني في غالبيته من الفقر والبطالة، يشعر أنهم السبب في المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها العرب المالكيون، لأنهم استأثروا بكل شيء، وهو ما ينفيه الإباضيون الذين يرون ان نجاح تجارتهم لم يكن على حساب الطرف الآخر، بل يعتقدون ان سياسة الثورة الزراعية التي طبقها الرئيس الراحل هواري بومدين، أخذت أراضي من الإباضيين الأمازيغ ومنحتها للعرب المالكيين، الذين لم ينجحوا في استثمارها ولم يتغير وضعهم رغم ذلك، بينما ذهب الإباضي إلى التجارة ونجح فيها، وأن الشعامبة استولوا على الحزب الحاكم، حزب جبهة التحرير الوطني، بعد الاستقلال معتبرين انفسهم ثوريين بينما الميزابيين “اثرياء رجعيون”.
براي الكثير من الملاحظين إن النزاع الحالي لا علاقة له بالانتماء الديني او اللغوي. تاريخية الصرع معقدة فيرى “محمد جلماني” احد اعيان الاباضية، ان “هذا الوضع هو نتيجة السياسة المتبعة في المنطقة منذ الاستقلال”.
مناطق الظل والنقاط المسكوت عنها هي الاكثر تعقيدا في المنطقة العربية وتفكيك اللغم الاجتماعي بالغناية والتنمية وتساوي الفرص وتطبيق القانون أكثر تعقيدا وتبين صعوبة الواقع وتشابك خيوطه، وفسره البعض الآخر على أنه نتيجة لوجود متطرفين في هذا الطرف أو ذاك، وهناك من فسّرها على أنها نتيجة لصراعات سياسية في أعلى هرم السلطة يتم بسببها تحريك الأوضاع في غرداية بين الفترة والأخرى لفوارق موجودة بين الفريقين، لم تعمل السلطات على إذابتها، فالمجتمع الإباضي بقي منغلقا على نفسه، والمجتمع العربي قائم بذاته في الجهة المقابلة، دون ان يكون هناك انصهار بين المجتمعين فالكثير من سكان المدينة يروون إن “مهربي المخدّرات يؤججّون الوضع” لانهم يسيطرون على الحي الذي يأتي منه المخربون.
ومن بين اسباب النزاعات في المنطقة نقص الاندماج بين الطائفتين، ففرق كرة القدم -مثلا- تنشأ على اساس طائفي محض حتى الآن. وما زاد من حدة المواجهات عدم تعرض المسؤولين عن العنف للعقاب، اضافة الى التغير الذي حصل في المجتمع الميزابي. ففي الماضي كان شباب بني ميزاب ينتقلون للعمل في المدن الشمالية لكن التطور الذي عرفته المنطقة جعلتهم يستقرون فيها.
ويرى كثير من الاعيان انهم عاجزون عن منع الشباب عن الرد على الاستفزازات على الرغم معارضتهم لها. بينما يرى آخرون انه لا يوجد مشكل بين الميزابيين والشعامبيين ولكن يوجد مشكل بين مجرمين ايا كان انتماؤهم وميزابيين يدافعون عن ممتلكاتهم.
ويتبادل الشباب من الطائفتين الاتهامات في جو يسوده شعور بالكراهية من الجانبين. العنف يهدد التعايش بين الطوائف في غرداية بالجنوب الجزائري التي يرجع تاريخ تأسيسها الى القرن الحادي عشر ميلادي، على بعد 600 كيلومتر من العاصمة الجزائرية ويقطنها حوالى 400 الف نسمة منهم 300 الف امازيغي.
وتشهد منذ عدة اسابيع مواجهات متكررة ادت الى تدمير الممتلكات وغلق المحلات وحرمان الاطفال من الدراسة. وهو من شانه المساس باستقرار المنطقة وكل المناطق المحيطة بها. فالمنطقة قريبة من آبار النفط، وتعتبر بوابة الصحراء الكبرى بالجنوب الجزائري الذي يتقاسم الحدود مع دول الساحل الافريقي. وهي تتربع على عرش ثروة كبرى من معادن ثمينة وآخرها الغاز الصخري المستكشف حديثا.
وحسب ملاحظين فان الصراع هو بين سلطات محلية حول باطن الارض وليس ظاهرها، وعلى الحاضر وليس على التاريخ. هو صراع على الواقع والموقع الاستراتيجي فهي منطقة العبور الاساسية لكل المدن الصحراوية في الجنوب الجزائري و الجانب الطائفي جزء من الصراع وليس جوهر الصراع. وكلما تحسنت الظروف المادية في المنطقة خبا الصراع وكلما عسرت الحياة وتازمت المنطقة اقتصاديا طفا على السطح بغطاء طائفي.
يسكن منطقة غرداية غالبية من الأمازيغ الذين يتحدثون اللغة الأمازيغية ويتبعون المذهب الإباضي،. وهو أحد المذاهب الإسلامية المنفصلة عن السنة والشيعة، مذهب مسالم يُعرف اصحابه بأهل الحق والاستقامة وهو سبب السّمت الهادئ لمتبعيه، نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، بينما ينسب المذهب إلى جابر بن زيد التابعي، الذي كان من تلامذة السيدة عائشة وابن عباس وتنتشر الإباضية في سلطنة عُمان حيث يمثلون حسب بعض الإحصائيات ما يقارب 70% من العُمانيين وينتشر في جبل نفوسة وزوارة في ليبيا ووادي ميزاب في الجزائر وجربة في تونس وبعض المناطق في شمال أفريقيا وزنجبار.
المجتمع الإباضي مجتمع مهيكل قائم على نظام العزّابة وسليل المدرسة الإباضية التي يتقدم فيها المجتمع على الدولة ولا يستعين بها الا في نادر الاحوال. هيكلة التنظيم العشائري يساعد على التنظيم و الاجتماع، ولكن المذهبين المالكي والاباضي يتعايشان وليس بينهما فروق جوهرية من شانها ان تتسبب في القطيعة.
و”الشيخ ميلاد” من زعماء الاباضية، كان من اشد الرافضين لفصل الصحراء عن الشمال الجزائري وهو ما يتماهى مع سياسية الدولة الجزائرية منذ الاستقلال. ولكن يبدو ان الفارق في المستوى المعيشي الذي يتمتع به الاباضية بفضل تنظمهم العشائري لم يقاربه مستوى مماثل له في غياب دور اساسي للدولة.
فبينما استطاع التنظم العشائري لنظام العزابة ان يردم فجوة غياب الدولة عن المنطقة ويسد خلّة التهميش فيها و يحل المشاكل العالقة من بطالة وزواج وتظلّم و بناء مشاريع اقتصادية وتجارية بفعل عقليته الجماعية التضامنية، فقَدَ الشق الآخر توازنه. فالمجتمع المحلي في غرداية تشكيلة تعوّل على نفسها حلت مشاكلها داخليا دون اللجوء الى منحة الدولة.
ويعرف عن بني ميزاب انهم مستقلون عن الدولة. فهم يسيرون امورهم وفق تقاليد عريقة مبنية على التضامن الاقتصادي داخل الطائفة، ولم يطلبوا شيئا من الدولة منذ 1962 تاريخ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي سوى توفير الامن فقط، لان الدولة هي التي تحتكر القوة و العنف ولها احقية التسلح. بينما تضعضعت تركيبة اخرى تعتمد على منح الدولة وبرامجها. وهو ما رآه محللون كثيرين فصرنا في المنطقة ازاء نمطين من لعيش وظهرت الفوارق فاقعة. و ما يجري في غرداية هو أكثر تعقيدا من الصورة المبسطة التي تم التعامل بها مع الأزمة، والأهم أنها نتاج تراكمات تعود لعقود طويلة. الخطر يكمن في المجمتع والكراهية التي تنتشر بين سكان مدينة غرداية، ومع الشعور بالاختلاف بين أنصار المذهبين أصبحت الحياة معه لا تطاق، فكل طرف يحمل الطرف الآخر المسؤولية.
استنفار الدولة
الحدث استنفر الدولة، و سارعت السلطات الجزائرية لاتخاذ إجراءات عاجلة، إذ عقد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة اجتماعا أمنيا عاجلا، ضم قائد أركان الجيش ورئيس الوزراء ومدير ديوان الرئاسة، وخرج بعدة قرارات أولها تكليف الجيش بتسير المنطقة، والإشراف على السلطات الأمنية والمدنية من أجل العمل على استتباب الأمن، كما أمر رئيس الوزراء ووزير العدل، بتحريك النيابة العامة ضد كل الأشخاص الذين تورطوا في أعمال العنف، والذين اعتدوا على الأشخاص والممتلكات.
المزيد: تبرعات وخطب “متطرفة” في المساجد تستنفر السلطات الجزائرية
ثم أوفد رئيس الوزراء عبدالمالك سلال إلى المنطقة من أجل عقد لقاء مع الأعيان وممثلي المالكيين والإباضيين، ودعوتهم إلى المساهمة في إطفاء حريق الفتنة، والعودة الى السلم الاهلي. تبدو السلطات المحلية والمركزية -حاليا- عاجزة عن ايجاد حلول دائمة للمشاكل في المنطقة و وضع حد للمواجهات التي طالت المقدسات. طلب اعيان المزابيين في غرداية من الدرك الوطني التابع لوزارة الدفاع حماية الاحياء القديمة المعروفة في الصحراء الجزائرية بالقْصور، ورفضوا الشرطة التابعة لوزارة الداخلية ويتهمون بعض افرادها بالتواطؤ مع المخرّبين. بينما اعتبر وزير الداخلية “الطيب بلعيز” ان ما وقع من تهاون امني هو مجرد “تجاوزات فردية ومعزولة” مشيرا الى فتح تحقيقات بخصوصها وتبعا لذلك اوقفت فيه المديرية العامة للأمن الوطني بالجزائر ثلاثة عناصر من الشرطة واحالتهم على القضاء بسبب “تهاونهم في أداء مهامهم” واوقفت السلطات 30 مشتبها به في احداث العنف.
خاتمة:
أزمة غرداية، أو الفتنة المذهبية ، لغز محيّر، عُزف فيه على وتر الطائفة، والطائفية ليست محددا فيما يجري حتما وليس شبيها بما يجري بين السنة والشيعة في بغداد من تطهير عرقي واضح كان فيه السنّة ضحايا. والمذهب لا يتحول الى طائفة إلا بدفع سياسي. فـ”المذهبية” واحدة من مفردات النهوض ومقوماته، يتسق فيها تباين المناهج وتنوع الاجتهادات اتساقاً لازماً لحركة المعاصرة والتغيير وهي الظاهرة التي أتاحتها مرونة الإسلام واحتمالية النص فيه.
وبهذا تعددت المذاهب في مدارس فقهية فكرية، وظهر الأئمة الكبار، ونشطت المجادلات والمناظرات بغير عصبية أو حدية. وإن تطرف القلة فإن البيئة من ذلك النوع تستكمل هويتها عادة بالمتطرفين، ولا ينشز فـيها الاستثناء. أما “الطائفـية” فهي ظاهرة غير حضارية، تقوم على أساس استثارة روح “القبلية” و”التعصب” بين الشعوب، ووراءها عادة مصالح تقتضي هذه الإثارة، و مصالح السلطة والحكم في التاريخ كانت أهم عوامل خلق الروح الطائفية في العالم الإسلامي.