قضية الصحراء ليست صراعاً بين دولتين متجاورتين فحسب، بل قضية محورية ذات أبعاد عربية وإقليمية ودولية في غاية الأهمية. إذ تشير مواقف القوى الاستعمارية القديمة والجديدة إلى أن تلك القوى تنظر إلى قضية الصحراء بوصفها كرة تتناقلها اقدام لاعبين محترفين يمارسون رياضة تعود عليهم بالمتعة والنفع، ما يجعلهم يستثمرون بعض وقتهم فيها حتى تعمر ويرثها أبناءهم من بعدهم. وهذا يعني أن تلك القوى لن تقوم بمحاولة جادة لإيجاد حل واقعي وإنساني لتلك القضية، بل ستعمل على التلاعب في مشاعر المعنيين بها واستنزاف قواهم وإحباط آمالهم في استتباب الأمن وتحقيق استقرار يعود على الجميع بالخير. إن الحفاظ على الأمر الواقع باعتبار أن الزمن كفيل بحل هذه المشكلة في المدى الطويل هو موقف لا يأخذ في الاعتبار موازين القوى وصراع الدول الكبرى على مناطق النفوذ في العالم، ما يعني أن من شأن التباطؤ أن يؤدي إلى تعقيد المشكلة وفتح المجال أمام القوى المعادية لتغذية الصراع واستغلاله على حساب الصحراويين والمغاربة والجزائريين.
حين تفجرت قضية الصحراء قبل حوالي أربعين سنة كنت أستاذا في جامعة الكويت أدافع بقوة عن حق الشعوب العربية في الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية وتحرير الإنسان العربي من الفقر والجهل وظلم أنظمة الحكم الفاسدة المُستبدة، وتحرير الوطن العربي من الاستعمار والترعية، والقضاء على الوجود الصهيوني. كان المثقفون العرب في ذلك الزمن قد انقسموا إلى فريقين متنافسين إن لم يكونا متناحرين، وقف أحدهما إلى جانب “أنظمة الحكم العربية الرجعية”، فيما وقف الفريق الآخر إلى جانب “أنظمة الحكم العربية التقدمية”. ولما كان نظام الحكم الجزائري حينئذ مصنفاً ضمن قائمة الأنظمة التقدمية فيما كان نظام الحكم المغربي مصنفاً ضمن قائمة الأنظمة الرجعية، فإن غالبية القوى التقدمية العربية انحازت إلى جانب الجزائر وضد المغرب. لكن موقفي الذي اعتبر كل التصنيفات عشوائية ومرحلية وغير علمية، دفعني إلى الانحياز إلى جانب المغرب.
أثار هذا الموقف بعد نشره في الصحافة الكويتية ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية ردود فعل لدى الكثير من المثقفين العرب الذين تواجدوا على الساحة الكويتية، ومن بينهم عدة أصدقاء وزملاء في الجامعة. ولقد وصل النقد حداً جعل البعض يتهمني بالازدواجية التي تعكس نفسها في الانحياز إلى جانب نظام حكم “رجعي” فيما أدافع عن حقوق الفقراء والمظلومين والحريات العامة. لكن القضية، كما شرحتها ردا على تلك الاتهامات تعكس موقفاً يتجاوز الآني إلى المستقبلي ويصب في نفس الموقف المبدئي الذي تمسكت به طوال حياتي ولم أتنازل عنه أو أساوم عليه يوماً ما.
إن دعم تحرر جزء من الوطن العربي من الاستعمار والتمسك بوحدة التراب العربي هو أهم موقف مبدئي يمكن أن يتخذه مثقف أو سياسي أو إنسان عربي واعي. أما مواقف أنظمة الحكم وسياساتها فلا يمكن لها أن تستقر على حال، إذ من الممكن أن يتحول نظام حكم “رجعي” إلى نظام “تقدمي” والعكس صحيح أيضا، ما يعني أنه لا يجوز أن يكون دعم أي نظام أو معاداته موقفاً مبدئياً بحد ذاته. أما القيام بتأييد فصل جزء من التراب العربي عن أصله فيعتبر خطيئة كبرى لأن قرار الفصل من شبه المستحيل الرجوع عنه. كما أن انفصال الصحراء بحجة إثنية فيه رفض لمبدأ التعددية الثقافية وجرح لوحدة الشعوب العربية ومشاعرها الوجدانية، وخلق كيان هزيل لا ينصف المغاربة أو الصحراويين يُستخدم أداة ضد طموحات شعوب منطقة شمال إفريقيا العربية وغير العربية. الآن لا أعتقد ان هناك بلداً عربياً يتمتع بحرية شخصية وتعددية ثقافية وحرية تعبير عن الرأي وتسوده ثقافة تتصف بالتآلف أكثر من المغرب على الرغم مما يعاني منه نظام الحكم المغربي من نواقص، ما يعني أن الموقف المبدئي المتعلق بوحدة التراب العربي والموقف التقدمي المتعلق بالحريات العامة تقاربا كثيراً في المغرب ليصبحا موقفاً واحداً إلى حد بعيد.
وإذا كان موقف المغرب من قضية الصحراء يحظى اليوم بشبه اجماع عربي فلماذا تتعثر خطى الحكومة المغربية في ايجاد حل ينهي الصراع ويضع حدا لعملية الاستنزاف التي يعاني منها أبناء الصحراء والمغرب عامة ؟ هذا سؤال هام قد تشكل حيثيات الإجابة عليه معالم طريق تقود إلى حل هذه المشكلة وعودة الاستقرار والسلم الاجتماعي والاطمئنان إلى نفوس الجميع. وهنا أود أن أضيف أن اختلاطي بالطلبة المغاربة المنتمين إلى مختلف الطبقات الاجتماعية والفئات الثقافية والإثنية بما في ذلك الصحراويين أقنعي بأن كل أبناء المغرب يؤيدون سياسة بلادهم فيما يتعلق بقضية الصحراء. ولقد جاء اختلاطي بهؤلاء من خلال عملي أستاذاً في كل من جامعة الأخوين ومدرسة الحكامة الاقتصاد في الرباط وإلقاء عدة محاضرات في جامعات مغربية أخرى. وهذا يعني أن بإمكان الحكومة المغربية أن تتحرك بشكل دينامي مرن، وتوظيف كافة عناصر القوة لديها لحل هذه المشكلة بالسرعة الممكنة. إن المغرب شعباً ووطناً يتعرض لعملية استنزاف مريرة ومكلفة من النواحي المالية والاقتصادية والسياسية والنفسية والإنسانية، ما يفرض على القيادة المغربية أن تأخذ زمام المبادرة وأن لا تلتزم بمواقف جامدة وأن لا تستمع لنصائح أعداء لا هدف لهم سوى حماية مصالحهم على حساب مستقبل المغرب وقوت شعبه.
لقد طرح المغرب قبل سنوات تصوراً لحل يقوم على منح الصحراويين حكماً ذاتياً، لكن مجلس الأمن الدولي لم يعتمد المشروع المغربي كي يصبح قراراً دولياً مُلزماً للأطراف المعنية. كما أن المغرب ما يزال يأمل في قيام أمريكا أو غيرها من دول كبرى بالاقتناع بوجهة النظر المغربية والضغط على الأطراف المعنية لحل هذه المشكلة بطريقة سلمية. فهل الخطة المغربية واقعية أم مجرد أمل يقع ضمن دائرة المُحتمل؟ وهل على المغرب أن ينتظر تدخل القوى الكبرى لحل هذه المشكلة؟ إن عملية البحث في هذه الإشكالية تستوجب النظر إلى مواقف الدول الكبرى من القضايا الدولية الهامة الأخرى.
مما لا شكل فيه أن لدى القوى الكبرى القدرة على حل هذه المشكلة، كما أنه كان لديها خيار عدم خلقها أصلاً وخلق غيرها من مشاكل مثل المشكلة الفلسطينية والكورية والكردية ومشكلتي كشمير وقبرص والمشاكل الحدودية بين العديد من الدول المتجاورة العربية وغير العربية. لكن تلك القوى اختارت عن وعي سياسة “فَرّقْ تَسُدْ” أي تفرقة الشعوب المُستعمرة كي تضمن السيطرة عليها واستغلال مواردها والتحكم في مستقبلها، ما دفع تلك القوى إلى خلق المشاكل والعمل على تعطيل حلها بكل الطرق الممكنة. ويبدو أن بعض تلك الدول اتخذ قراراً جديداً لأسباب استراتيجية تتعلق بتغير موازين القوى الدولية يقوم على استبدال سياسة فرق تسد بسياسة “جزّءْ تَسُدْ”، أي تجزئة كل دولة مستهدفة إلى أجزاء تحكمها عصابات متناحرة ما يضمن تكريس تخلف تلك الدول وضعفها وفقرها. وهذا من شأنه تمكين القوى الكبرى المعنية من استعباد الشعوب المجزأة وإذلال حكامها وتحويلهم إلى عملاء. إن سياسة “جزء تَسُد” تشمل سياسة فرق تسد بكل ما فيها من ظلم وإساءة لإنسانية الإنسان وحق الشعوب في الكرامة والحرية.
كيف السبيل إلى صياغة خطة عمل تطرح تصوراً مرنا يشمل أكثر من خيار وتبني على أساسه سياسة خلاقة ذات طبيعة دينامية تقترب من الحل الممكن يوماً بعد يوم ولا تتوقف إلا بالحصول عليه؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه مُستخدما نموذج “الوطن المشترك” الذي طورته قبل سنوات ونشرته في كتابي “حل النزاع والمشكلة الإثنية” Conflict Resolution and Ethnicity. ويمكن العودة إلى هذا الكتاب الذي يحتوي على خطة مفصلة لحل الصراع العربي الصهيوني باستخدام نموذج الوطن المشترك، وتنزيله من دون مقابل من موقعنا www.yazour.com
نحو حل قضية الصحراء
الصبر الإستراتيجي والتكتيك الفاعل
يعتبر القرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي قبل أكثر من عام بخصوص قضية الصحراء نصراً تكتيكياً للمغرب. ومع أن النصر التكتيكي لا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لأية قضية مصيرية، إلا أنه يتسبب عادة في إصابة الفريق الخاسر بخيبة أمل تدفعه إلى إعادة حساباته وقد فشل في الحصول على نصر يعزز موقفه ويعيد إليه الأمل. إن ما حدث في نيويورك كان بمثابة رسالة غير مباشرة للطرف المناوئ للمغرب تقول إن الطريق أمامه طويل تعترضه عقبات جمة، وإن النصر ربما أخد يبتعد بدلاً من أن يقترب.
يتصف الموقف الإستراتيجي عادة بالجمود والوضوح في آن واحد، ما يجعل القضية التي يدافع عنها غير قابلة للتفاوض أو الحلول الوسط، فيما يجعل صاحبها يبدو متطرفاً من الصعب التفاهم معه. أما الحراك التكتيكي فيتكون من خطة دبلوماسية مرنة تقوم بطرح مبادرات تستهدف الضغط على الطرف المناوئ وإضعاف موقفه أمام الرأي العام الدولي. وفيما يكمن الموقف الإستراتيجي بالنسبة للمغرب في الحفاظ على وحدة التراب المغربي، غاب عن أجندة الدبلوماسية المغربية الحراك التكتيكي القادر على كسب المزيد من الشرعية الدولية. وهذا يعني أن المغرب بحاجة لخطة تكتيكية خلاقة تفرض على جبهة البوليساريو مواجهة التحدي المغربي والقيام بطرح مشاريع تقترب ولو جزئياً من الخطة المغربية. أما فيما يتعلق بجبهة البوليساريو، فإن الموقف الإستراتيجي بالنسبة لها يتمثل في الحصول على استقلال وهوية وسيادة على أرض محددة، والاعتماد على قوى خارجية بدلاً من تطوير خطة تكتيكية تحافظ على حيويتها وتواجد قضيتها على الساحة الدولية. وهذا يعني أن البوليساريو بحاجة لخطة دبلوماسية مرنة تقوم بطرح مبادرات سياسية تستهدف تصعيد الضغوط على القيادة المغربية. ولما كان من طبيعة الخطط التكتيكية أن تتحرك دوماً إلى الأمام من خلال تقديم مبادرات جديدة تتجاوب مع بعض مطالب الطرف الآخر، فإن تلك الخطط تقود عادة، غالبا من دون وعي الأطرف المتنازعة، إلى تقريب وجهات النظر وإيجاد حلول لمعظم القضايا الخلافية.
ويمكن القول أن الاقتراح الأمريكي بشأن حقوق الإنسان في الصحراء كان بمثابة محاولة تكتيكية من جانب أصدقاء البوليساريو لإحراج المغرب وإضعاف موقفه أمام الرأي العام الدولي. إلا أن تراجع أمريكا أمام صلابة ودينامية الموقف المغربي وتمرير قرار دولي جديد بشأن الصحراء لا يخدش الموقف المغربي أدى إلى إضعاف موقف البوليساريو وتعزيز موقف المغرب على حسابه. وهذا يفتح فصلاً جديداً في عملية النزاع حول الصحراء يبدو فيه موقف البوليساريو أكثر ضعفاً من السابق، فيما يبدو موقف المغرب أكثر قوة من الماضي ما يفرض على المغرب أن يبادر بطرح مقترحات جديدة تعمل على تقريب وجهات النظر بين الطرفين. وهذا هو ما سنحاول أن أطرحه في إطار “الوطن المشترك” ضمن صيغة خلاقة يحصل الصحراويون بموجبها على حقوق سياسية وسلطات إدارية واسعة من دون الإخلال بسيادة المغرب أو الحدود السياسية القائمة، أو تغيير الترتيبات الوطنية التي تساوي بين كافة المغاربة والصحراويين.
ترتكز فكرة الوطن المشترك على مبادئ أساسية أهمها:
1. عدم جواز الإخلال بالحدود السياسية القائمة.
2. حق كل الفئات الإثنية والقومية أن تختار نظام حياتها السياسي والاقتصادي وهويتها الثقافية.
3. التكامل الاقتصادي بوصفه أداة نمو ونماء، وإطاراً لتعايش الأطراف المعنية يتحاوب مع متطلبات العصر التي تمليها حقائق الواقع على المستويات المختلفة.
4. الالتزام بالديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية كمصدر للشرعية وأداة لحل الخلافات بالطرق السليمة.
5. إقامة نظم أمن مشتركة بوصفها أداة لحماية استقلال الكيانات المختلفة، وإطارا لتحقيق الاستقرار على المستوى الوطني والإقليمي.
بناء على هذه المبادئ يتم خلق وطن مشترك لجميع مكونات ذلك الوطن من الناس، وفصل الأقليات التي تطالب بكيانات سياسية أو ثقافية خاصة ضمن حدود تشكل فيها أغلبية السكان، مع الحفاظ على وحدة جميع السكان من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسكنية. وهذا يعني أن “الوطن المشترك” يفتح المجال لحصول الأقليات على حقوق تتراوح ما بين خصوصية ثقافية إلى كينونة سياسية، وبالتالي تمكينها من إدارة شؤون حياتها الاقتصادية والثقافية وأحيانا السياسة الداخلية بحرية من دون الإخلال بحدود أو أمن الوطن المشترك أو مساواة المواطنين فيه. هناك ثلاث حلقات متداخلة تشكل فيما بينها الوطن المشترك: فصل سياسي على طول خطوط إثنية ضمن حدود الوطن الأكبر، تكامل اقتصادي واجتماعي وإنساني عبر الحدود داخل ذلك الوطن، وإطار أمن مشترك تقوم بتشكيله وإدارته الكيانات السياسية المختلفة. وهذا يعني عدم جواز قيام كيان سياسي يتم خلقه في سياق هذه العملية ببناء جيش خاص أو توقيع معاهدة أمنية مع دولة أجنبية. كما تعني ترتيبات الوطن المشترك ضمان المساواة بين كافة المواطنين في السكن والعمالة والاستثمار والتجارة وملكية الموارد الطبيعية الحالية والتي يتم اكتشافها في المستقبل.
من ناحية ثانية، تستوجب ترتيبات فصل الأقليات إلى كيانات مختلفة حصول كل المواطنين من خارج حدود كل كيان على حق الإقامة في كل كيان آخر، والمشاركة في الانتخابات المحلية التي تشرف على إدارة الخدمات وحل القضايا اليومية للمواطنين، ولكن عدم جواز المشاركة في العملية السياسية التي تحدد شكل نظام الحكم ومؤسساته داخل كل كيان. بناء على ذلك يصبح بإمكان كل أقلية تحصل على كيان خاص أن تضمن عدم تحولها إلى أقلية داخل حدودها بفعل الهجرة من خارج تلك الحدود. وهذا يعني أن حق المشاركة في العملية السياسية مكفول لكل مواطن ضمن حدود الكيان الذي ينتمي إليه، ومحظور ضمن حدود الكيان الذي لا ينتمي إليه، حتى وإن أقام فيه. إن من شأن هذه الترتيبات تمكين الأقليات الإثنية من الانفصال سياسياً عن بعضها البعض، وتمكين الأفراد والمؤسسات الاقتصادية والمنظمات الاجتماعية والثقافية من التوحد عبر كل الحدود والعمل بحرية.
أما فيما يتعلق بنظام الأمن المشترك فيتم تشكليه من قبل الكيانات المكونة للوطن الأكبر وتحديد مهامه الأساسية في الدفاع عن حدود الوطن المشترك وسيادته وحماية سيادة الكيانات الصغيرة وضمان استقرارها وأمنها والحيلولة دون وقوع صراعات داخلية تهدد السلم الاجتماعي فيها وفيما بينها. إذ تشير تجربة العديد من الدول إلى أن الأمن الوطني لا يرتكز فقط على القوة العسكرية لحماية الحدود من احتمالات قيام قوى أجنبية بالاعتداء عليها، بل يرتكز أساساً على القضاء على أسباب الصراع والنزاع وعدم الاستقرار الداخلية مثل حرمان الأقليات من حقوقها، وشيوع الكبت والفقر والظلم، وعدم احترام حقوق الإنسان والمرأة وغير ذلك من قضايا مجتمعية.
وباختصار، الوطن المشترك فكرة مستقبلية من شأنها تحقيق أكبر قدر ممكن من الفوائد التي تصاحب عادة عمليات التكامل الاقتصادي، وتقليل الخسائر التي تترتب عادة على عمليات الفصل السياسي، والتخلص من الأخطار التي تخلقها عادة عمليات إقامة جيوش وأجهزة استخبارات وأمن متنافسة. إنه نظام اجتماعي سياسي اقتصادي وإنساني خلاق يقوم على الفصل فيما يتعلق بالقضايا الإثنية الثقافية والسياسية، والتعاون والتنسيق فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والمالية، والمساواة فيما يتعلق بملكية الموارد الطبيعية، والوحدة فيما يتعلق بالقضايا الأمنية.
ويلاحظ القارئ أننا ابتعدنا عن الدخول في التفاصيل كي يبقى المجال مفتوحاً أمام المغرب والبوليساريو لطرح مبادرات جديدة تُقرب وجهات النظر فيما بينهما. وهنا نود أن نشير إلى أن تجربتنا الشخصية في العمل السياسي والحوار تقودنا إلى حث القيادة المغربية والبوليساريو على استخدام كل الوسائل المتاحة للتواصل والتحاور لأن الاعتماد على هيئة الأمم المتحدة والقوى الدولية هو مضيعة للوقت والجهد. إن القوى الكبرى لا تهتم بحل النزاعات الدولية بل تهتم بإدارتها لأنها تنظر إلى بؤر النزاع بوصفها أدوات تستخدمها لتعزيز مصالحها على حساب الغير. لذلك سنقوم في الجزء التالي بالتركيز على دور القوى الكبرى في خلق وإدارة النزاعات الدولية.
القوى الكبرى وبؤر التوتر في العالم
إن الصراع الدائر اليوم بين القوى الكبرى يجعل من الصعب أن تحظى قضايا السلام والعدل وحل النزاع بالتعاطف والدعم المطلوب من تلك القوى لأن مصالحها الاستراتيجية تحتم عليها أن تنظر إلى بؤر التوتر بوصفها أدوات لإدارة الصراع فيما بينها والمقايضة على حساب الشعوب الفقيرة والمنكوبة. لقد توصلت إلى هذا الاستنتاج بناء على متابعتي لتطورات القضية الفلسطينية وحوارات أجريتها وعمليات تفاوض قمت بإدارتها وندوات فكرية شاركت فيها شملت أمريكيين وروس وصينيين وبريطانيين وفرنسيين ويهود وغيرهم. ويمكن القول بالتحديد أن أمريكا والصين وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل ليست معنية بحل أي نزاع كان، بل قد تكون معنية أكثر بتعميق النزاعات القائمة وخلق نزاعات جديدة تمكنها من تعزيز نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية وزيادة صادراتها من الأسلحة لبعض الدول الغنية والفقيرة.
كانت أمريكا ولعدة عقود متتالية تملك كل مفاتيح حل الصراع العربي الصهيوني، لكن أمريكا لم تعمل بأمانة على انهاء ذلك الصراع لعدة أسباب أهمها عدم رؤية النخبة الحاكمة الأمريكية أن حل ذلك الصراع يخدم مصالحها. ومع اطمئنان قادة الحركة الصهيونية إلى الموقف الأمريكي إلا أنها واصلت جهودها الحثيثة للهيمنة على مختلف نواحي الحياة الثقافية والإعلامية والسياسية في أمريكا بشكل مكنها من استعمار العقل الأمريكي بوجه عام والسيطرة على صنع القرار السياسي الخاص بالشرق الأوسط بوجه خاص. ولقد جاء الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003 وتدمير ما كان لديه من بنى تحتية مادية واجتماعية وثقافية وعلمية بهدف السيطرة عليه والتحكم في نفطه واستغلال موارده الطبيعية وتعزيز أمن إسرائيل. وحين أدركت الحكومة الأمريكية أن جهودها لن تكلل بالنجاح لجأت إلى تقسيم العراق وفرض دستور عليه يقوم على الطائفية بهدف ضمان فقره وضعفه وتفككه وسيادة شعور متبادل بين مكونات المجتمع العراقي يقوم على الشك المتبادل والعداء الذي يحول دون التعاون من أجل الصالح العام.
ومن الأمثلة التي تثبت توجه الدول الكبرى إلى الحيلولة دون حل النزاعات الدولية ما قاله السيد بريجنسكي في إحدى مقابلاته التلفزيونية. قال ذلك المفكر الذي عمل مستشاراً للرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي حين سئل عن الأوضاع المتوترة في شبه القارة الكورية: “إن الوضع الراهن هو الحل الذي يخدم المصالح الأمريكية”. وإذا نظرنا إلى موقف أمريكا من قضية كشمير ندرك أن النخبة الحاكمة ربما تفضل موت آلاف الجنود الأمريكيين في باكستان وأفغانستان على أن تقوم بالتوسط لحل تلك القضية، علماً بأن جذور التطرف الإسلامي في باكستان تعود أساساً إلى أزمة كشمير بين باكستان والهند. ومع أن علاقة أمريكا المتينة مع الهند لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات بين البلدين، وأن النخبة الأمريكية الحاكمة تمنح نفسها حرية استباحة باكستان أرضاً وشعباً وأمناً من دون اعتبار لمشاعر الشعب الباكستاني أو مصالحه، إلا أنني لم أسمع الرئيس أوباما بعد مرور حوالي 6 سنوات على حكمه يتفوه بكلمة كشمير ولو مرة واحدة.
من ناحية أخرى، تُصر الصين وروسيا على تعطيل مشاريع أمريكا ودول أوروبا الغربية المتعلقة بالأزمة السورية في عملية يقصد منها إفشال أمريكا وإظهارها بمظهر العاجز عن فعل أي شيء كان. لكن لا الصين ولا روسيا طرحت حلاً واقعياً للمشكلة السورية ما يجعل موقفها يطيل أمد الأزمة ويُسهم في زيادة ضحايا الشعب السوري وآلامه. وفي حوار مع أحد صناع القرار في الصين سألته عن موقفهم تجاه كوريا الشمالية وعن سبب عدم قيامهم بمساعدتها كي تنمو وتتخلص من المجاعات، علماً بأن عملاً كهذا من شأنه أن يروج للنموذج التنموي الصيني ويعزز المقولة التي تدعي أن نموذج الحياة الصينية عالمي وليس خاصاً. كان جواب المسئول الصيني هو الصمت وتغيير الموضوع. وعلى الرغم من علاقات فرنسا القوية مع المغرب والجزائر، فإن النخبة الحاكمة الفرنسية لم توظف جزءاً ولو بسيطاً من نفوذها لدى النخب الحاكمة في المغرب والجزائر في محاولة جادة لحل مشكلة الصحراء. وفي سبيل خلق مشكلة جديدة للعرب تشغلهم عن قضايا التنمية والحرية وتعمل على تعميق خلافاتهم واستنزاف مواردهم النفطية قامت أمريكا وبريطانيا بإقناع دول الخليج العربية بأن عدوها الأول هو إيران وليس إسرائيل.
تثبت هذه الأمثلة أن الدول الكبرى غير معنية بحل مشاكل العالم، وأن بعضها يعمل بوعي على تكريس المشاكل خدمة لمصالح ذاتية على حساب دماء وأموال الشعوب الفقيرة. وتستهدف تلك السياسة تعطيل مسيرة الشعوب الفقيرة نحو التنمية والتحرر وتعميق تبعيتها لغيرها من دول كبرى. وكما يشير هذا التحليل، يبدو أن الدول الاستعمارية القديمة والجديدة تحالفت لتخص العالم العربي بأكبر عدد ممكن من المشاكل الإقليمية سعياً للسيطرة على موارده وإفقار شعوبه وتكريس تخلفه خوفاً من نهضة عربية تعيد العرب للمشاركة في صنع التاريخ. لذلك قاموا بخلق ثلاثة مشاكل عويصة للأمة العربية: الأولى في قلب الوطن العربي على شكل صراع عربي صهيوني حول فلسطين، والثانية في أقصى الغرب تتمحور حول الصحراء بين المغرب وجبهة البوليساريو التي تدعمها النخبة العسكرية في الجزائر، والثالثة في أقصى الشرق تتمحور حول علاقة السنة بالشيعة وغرس بذور عداء عربي إيراني مستحكم. ولقد جاء غزو إيران لثلاث جزر إماراتية لتعطي القوى الاستعمارية سبباً إضافياً لإثارة مخاوف العرب وتعميق أسباب التناحر بينهم وبين إيران. إن قيام النظام الإسلامي في إيران باحتلال جزء من الوطن العربي جعله يقوم بمساعدة القوى الاستعمارية على تحقيق أهدافها في منطقة الخليج على حساب العرب والإيرانيين معا.
وإذا نظرنا إلى ما يجري اليوم في معظم الدول العربية فإننا سوف نكتشف أن النخب الحاكمة تلعب الدور الذي صممته لها القوى الاستعمارية القديمة والجديدة بامتياز واعتزاز. وهنا من حقنا أن نتساءل هل هو اعتزاز بنجاحها في تكريس الحدود المقيتة التي صنعها الاستعمار لتجزئة الوطن العربي والهيمنة عليه واستغلال موارده ؟ أم أنه اعتزاز بقدرة تلك النخب على تزييف وعي الجماهير العربية المنكوبة وسرقة الحلم من عيون الأجيال القادمة في الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية والنهضة ؟ أم أنه قبول بالمذلة لجهلة موتورين يحملون لقب عضو كونجرس كي يحافظوا على عروش لن تدوم طويلاً إلا بعكس هذه المواقف رأسا على عقب ؟
إن انتظار قيام دولة كبرى بطرح مبادرة خلاقة لحل نزاع دولي بطرق سلمية هو خيال يتجاوز حدود المحتمل في عالم تحكمه مصالح مجردة من القيم. ولما كانت تلك القوى هي المسئولة أصلاً عن خلق المشاكل، فإن من كان جزءاً من مشكلة لا يمكن أن يكون جزءاً من حلها. لذلك وجب على كل الأطراف التي تعاني من نزاعات تستنزفها وتعيق تقدمها أن تستخدم الوسائل الدبلوماسية السرية والعلنية للتواصل فيما بينها من خلال دول صديقة ومنظمات غير حكومية وشخصيات قيادية والعمل معاً بروح إيجابية لحل ما يُعكر صفو علاقاتها من مشاكل. وعلينا أن ندرك أنه لا يوجد لجيران يعيشون في بيئة مشتركة أعداء بل أصدقاء محتملين حالت ظروف غير طبيعية دون تعارفهم وتآلفهم. وهنا أود أن أُذكّر كل طرف في نزاع دولي أن اتفاقية أوسلو سيئة الذكر جاءت نتيجة لمباحثات فلسطينية إسرائيلية سرية دون علم أمريكا أو غيرها من دول فيما عدا النرويج التي استضافت المباحثات. وأن الحوار الفلسطيني الأمريكي جاء بمبادرة فردية قمت بها شخصياً دون علم أي طرف عربي أو غير عربي. وفي الواقع حين طرحت معادلة لاعتراف أمريكا بمنظمة التحرير الفلسطينية وبدء حوار معها، حصلت على موافقة جورج شولتز وزير خارجية أمريكا قبل أن يعلم ياسر عرفات بالأمر. وعلى من يرغب في قراءة قصة الحوار وأن يتعرف على تفاصيل ما دار فيها، أن يزور موقعنا الالكتروني. www.yazour.com ، حيث سيجد هناك حكاية الحوار الفلسطيني الأمريكي منشورة في كتابين أحدهما باللغة الإنجليزية والآخر باللغة العربية.
لذلك كان على من يريد حلاً لمشكلة يعاني منها أن يبادر إلى البحث عن خطة تقلل حجم ما يتكبده من خسائر دون أن ينظر إلى خسائر أو أرباح الطرف الآخر، لأن المشاكل المشتركة لا تفرق بين طرف وآخر، بل تعاقب كل المشاركين فيها، حتى وإن لم توزع العقاب بصورة عادلة بين المتخاصمين. إن على كل من يدخل عملية تفاوضية أن يتخلى تماماً عن فكرة الحاق الخسائر بالخصم وحرمانه من أشياء حيوية لا يستطيع أن يستغني عنها؛ فالتفكير في كيفية معاقبة الخصم تنتهي بمعاقبة الذات والحصول فقط على المزيد من المعاناة وخيبة الأمل. وهذا يعني أن على كل طرف أن يصوب نظره على الأمور الحيوية التي لا يستطيع أن يستغني عنها في نهاية الأمر، وليس على ما قد يربحه الطرف الآخر أو يخسره من الحل المقترح والممكن. ففي معظم الحالات، تشكل الأمور التي يحاول طرف أن يحرم الآخر منها صلب الأمور التي لا يستطيع الطرف الآخر التنازل عنها. لكن تركيز كل طرف على ما يحتاجه اساساً يجعل بإمكان كل الأطراف المعنية الحصول على الأشياء الأساسية التي تحتاجها، ما يجعل الحوار عملية ذات نتائج ايجابية تعود على كافة المشاركين بالفائدة.
*أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في عدة جامعات عربية وأمريكية من بينها جامعات جورجتاون وجونز هوبكنز والجامعة الأمريكية في واشنطن. وجامعة الأخوين في المغرب وجامعة الكويت، له عشرات المؤلفات في اللغتين العربية والإنجليزية في الاقتصاد والسياسة وحل النزاع والثقافة والاجتماع وفلسفة التاريخ، كما هو أكثر من رواية وقصة ومجموعة شعرية. www.yazour.com
اقرأ أيضا
المفتي العام للقدس يشيد بالدعم الذي يقدمه المغرب بقيادة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني
أشاد المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، خطيب المسجد الأقصى المبارك، الشيخ محمد حسين، اليوم الأحد …
المنتدى المغربي الموريتاني يرسم مستقبل تطور العلاقات بين البلدين
أشاد المنتدى المغربي الموريتاني، باللقاء التاريخي بين الملك محمد السادس والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ …
مكسيكو.. مشاركة مغربية في مؤتمر دولي حول حماية البيئة
شارك الأمين العام لحزب الخضر المغربي ورئيس أحزاب الخضر الأفارقة، محمد فارس، مؤخرا بمكسيكو، في مؤتمر دولي حول حماية البيئة.