منذ أن أطلق صرخته الشهيرة “انتهى الكلام”،وما ترتب عنها من تداعيات،توارى عبد الإله بنكيران،رئيس الحكومة المعين عن الأنظار، أو بتعبير أدق،قلل من فرص ظهوره،مكتفيا بالاعتكاف في بيته في حي الليمون،وسط العاصمة السياسية،خاصة بعد انتخاب الحبيب المالكي،رئيسا لمجلس النواب.
لم يعد الرجل كما كان سابقا،بل ذهب إلى حد وقف المشاورات لتشكيل الحكومة، وهي المهمة المسندة إليه من أعلى سلطة في البلاد،دون أن يعلن عن اتخاذه لموقف معين بين البقاء في الحكومة، أو “تسليم المفاتيح”، أو الالتجاء إلى المعارضة،ما جعل المحللين والباحثين السياسيين يقفون مندهشين إزاء تصرفه،الذي من المفروض أن يرتقي إلى سلوك رجل الدولة،وليس زعيم الحزب، الذي لايهمه سوى تنظيمه السياسي.
وحسب بعض المقربين منه،فإن آخر لقاء بينه وبين عزيز أخنوش،رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار،يعود إلى صباح يوم الاثنين،الذي جرى فيه انتخاب القيادي الاتحادي المالكي رئيسا للغرفة الأولى للبرلمان،في حالة نادرة الحدوث في الساحة السياسية،إذ لأول مرة يسبق تكوين هياكل مجلس النواب تشكيل الحكومة،علما أن هذا الإجراء فرضته الضرورة المرتبطة بالمصلحة الوطنية العليا في أفق العودة إلى الاتحاد الإفريقي.
وقد كان هذا المستجد فرصة لبنكيران ليطلب من أحد حلفائه الأساسيين المفترضين، وهو عزيز أخنوش، إقناع حزب الاتحاد الاشتراكي بعدم المطالبة بمناصب وزارية في الحكومة المرتقبة التي طال انتظارها منذ أكثر من ثلاثة شهور،والقيام بدور “المساندة النقدية”، وكأنه بذلك يطلب تكرار نفس السيناريو الذي سبق لحزب العدالة والتنمية أن تقمصه إزاء حكومة التناوب التي قادها عبد الرحمن اليوسفي.
لكن ذاكرة بنكيران ربما نست أوتناست الموقف الذي اتخذه حزب العدالة والتنمية،وهو يومئذ في المعارضة،إزاء تعيين الملك محمد السادس في شهر أكتوبر 2002 لإدريس جطو،على رأس الحكومة،بدل اليوسفي،الذي كانت صناديق الاقتراع قد بوأت حزبه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، صدارة النتائج،وهو الأمر الذي اعتبر يومئذ خروجا عما سمي ب”المنهجية الديمقراطية”.
يومها خرج سعد الدين العثماني،نائب الأمين العام لحزب “المصباح” ليقول،إن اختيار وزير أول تقني،وغير ملتزم حزبيا،أمر وارد، وإن كان ملزما بتشكيل حكومة من الكتلة النيابية التي حازت على ثقة شعبية منحت لها في الانتخابات،ثم إن خبرات جطو في مجال إدارة الأعمال،وحاجة البلاد لتدبير أزمتها الاقتصادية والاجتماعية،ونجاحه في تنظيم الانتخابات من خلال حوار هاديء وناجح مع مختلف الأطراف وعلاقاته مع أوساط رجال الأعمال والمستثمرين داخل المغرب وخارجه،كل ذلك جعله مؤهلا ومرحبا به لهذه المهمة!
والوقع أن بنكيران، الذي يبدو اليوم وأكثر من أي وقت مضى،أنه يحس بسحب البساط من تحت قدميه، مطالب بأن يرتقي إلى مستوى متطلبات المرحلة الدقيقة التي تجتازها البلاد،سياسيا واقتصاديا واجتماعيا،وينصت لصوت ضميره،وذلك بتسهيل مهمة تكوين الحكومة،عبر نهج الأسلوب المرن،أو التخلي عنها إذا وجد نفسه عاجزا عن تدبيرها،ويكفي المغرب ما ضاع منه من زمن سياسي واقتصادي تجلى في عطالة المؤسسات.
فهل يخرج بنكيران من اعتكافه في بيته،ويخرج إلى العلن بقرار يعيد المصداقية إلى الحياة السياسية بعد هذا المسلسل الطويل من الشد والجدب بين مختلف الأطراف السياسية المعنية،ماجعل الخيبة ترتسم على وجوه المواطنين أمام هذا المصير الذي بات يتهدد مصالحهم؟
إن السياسة،كما يعرف الجميع هي فن الممكن في تدبير الخلافات من أجل التوصل إلى حلول واقعية لكل المعضلات،وهذا يتطلب الجرأة والمواجهة في مباشرة الملفات،وليس الاعتكاف في البيت،وإقفال باب الحوار، بقرار مزاجي،في انتظار حل مستحيل يهبط من السماء،في زمن لايعترف بالمعجزات!