أظهر الحزب الشعبي الذي يترأس الحكومة الإسبانية، بعض المرونة بخصوص مطالب تعديل الدستور، التي أثيرت أخيرا في أحدى جلسات مجلس النواب، كما اقتربت المواقف إلى حد ما بخصوص الإصلاح الدستوري، بين الحزب الاشتراكي العمالي وحركة “بوديموس” لكن التباعد قائم بين الحزبين المصنفين ضمن اليسار المعتدل والشعبوي، بشأن حدود التعديل وهندسة البناء الدستوري الجديد..
ولم يعد الحزب الشعبي، على لسان نائبة رئيس الحكومة، سانتا ماريا ساينث، رافضا لمبد التعديل في حد ذاته لما كان متمتعا بأغلبية مطلقة في البرلمان الإسباني بالغرفتين السفلى والعليا؛ غير أن المسؤولة الحكومية تشترط، طبقا لتصريحاتها الأخيرة،في مجلس النواب، جملة شروط لمباشرة التعديل الذي سيكون، إن حدث، الثالث منذ إقرار القانون الاسمي 1978 الذي حدد الأسس القانونية للمملكة الإسبانية الحديثة التي نهضت على أنقاض ديكتاتورية عسكرية مقيتة.
ومن بين الشروط التي تراها “ساينث” لازمة وأساسية حصول توافق عريض بين مكونات الشعب الإسباني، من خلال ممثلي إرادته في البرلمان، على اعتبار أن أي تعديل يجب أن يكون معبرا عن تطلعات الغالبية العظمى من الشعب، وليس فقط إرضاء فئة دون أخرى، وبالتالي فهي تعتقد(نائبة الرئيس) أن تلك الظروف غير متيسرة حاليا في ظل احتدام الصراع السياسي الذي تؤثر تداعياته على المؤسستين التشريعية والتنفيذية.
ومن جهته يلح الحزب الاشتراكي العمالي منذ مدة ، على أعادة النظر في الوثيقة الدستورية، لإيجاد أجوبة على المشاكل التي افرزها التطور السياسي والاجتماعي في إسبانيا الحديثة وخاصة بعد بروز التعبيرات القومية المطالبة بالاعتراف بخصوصياتها وهوياتها كما هو حاصل، بشكل عنيف، في إقليم كاتالونيا. هناك يطالب الاستقلاليون بالحق في تقرير مصيرهم، في أفق الاستقلال عن الدولة المركزية والخروج ببساطة من ظل التاج الإسباني وحكم سلالة “آل بوربون”.
وفي هذا الصدد، يسعى الحزب الشعبي إلى تنسيق المواقف مع الحزب الاشتراكي العمالي، رغم تراجع حضوره الأخيرفي الشارع والبرلمان أمام زحف اليسار الشعبوي، ممثلا في حركة “بوديموس” التي تبغي، من وراء التعديل، خلخلة الأسس الدستورية التي يقوم عليها نظام الحكم في إسبانيا وفتح نقاش مشرع على كافة الاحتمالات يمكن أن يصل إلى يحد مساءلة مشروعية النظام الملكي.
ويتوفر للحزب الاشتراكي، من خلال تصريحات بعض قيادييه القدامى، على تصور واضح لطبيعة التعديلات الدستورية، يعتبره بمثابة “تحيين” للوثيقة الحالية، تنحصر أساسا في رؤية مغايرة للعلاقات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، في أفق الدفع بفيدرالية متقدمة تمنح الجهات في إسبانيا صلاحيات إدارية أكبر، تشعر معها باستقلال إداري عن مدريد، إنما في ظل السيادة الإسبانية على سائر التراب الوطني.
ويدعو الاشتراكيون كذلك إلى التنصيص على بعض الحقوق الاجتماعية في الدستور المعدل واستباق الإشكالات التي يفرضها التطور في الداخل والعلاقات الخارج وخاصة الاتحاد الأوروبي؛ لكنهم يشاطرون الرأي القائل بأن التعديل يجب أن يكون نتاج حوار وطني، معبرا عن التوافق العريض بين المكونات السياسية والمجتمعية.
ويساور الاشتراكيين اعتقاد بأن التوصل إل صيغة للدستور المعدل، ممكن إذا ما استحضر الساهرون عليه أجواء الوفاق الوطني التي سادت نهاية العام 1975 عقب وفاة الديكتاتور فرانكو.وهذا مطمح يبدو بعيدا في ظل الأوضاع السياسية الحالية
وفي نفس السياق يرى الفقيه الدستوري،”ميغل روكا” وهو أحد السبعة الذين صاغوا الدستور الحالي المعتمد بواسطة استفتاء شعبي عام 1978 ليصبح ساري المفعول منذ شهر ديسمبر من نفس العام؛ يرى إمكانية التعديل بل كتابة دستور جديد، بشرط عدم المس بالمقومات الهيكلية التوافقية للدستور الحالي وهذا لن يتأتى دون الاتفاق المسبق على نقطة الإقلاع ومحطة التوقف النهائية.
ويضيف بهذا الخصوص أن المراجعة قد تكون مناسبة لحل الإشكال القائم مع كاتالونيا التي تتحرك حاليا على هامش القانون الأسمى الملزم للإسبان.
والحقيقة أن المشكل العويص، يكمن في صف القوى السياسية الرافضة للنظام، ممثلة في بوديموس، وبقايا الحزب الشيوعي واليسار القومي المتطرف. هؤلاء جميعهم يتمنون تحقيق أجندة خطيرة هي تفكيك الكيان الإسباني وإعلان جمهورية شعبية، عن طريق استغلال الآليات الديمقراطية؛ فتعديل الدستور بما يمكن أن يثيره من خلافات ووجهات نظر متباعدة، فرصة لا تتكرر / من وجهة نظرهم ، لخلط الأوراق في الساحة الإسبانية، علما أن المروجين لهذا الفكر لا يكترثون بحجم الطوفان الذي يمكن أن يغمر البلاد؟