خيرا فعل المتنفذون في محيط الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عندما اختاروا عرض “دستورهم” المنقح على “نوابهم” في غرفتي البرلمان، بدل عرضه على المواطنين. فمثل هذا الدستور الذي أريد له أن يقدم كاستجابة لمطالب إصلاح النظام السياسي في البلاد، لم يحمل، بعد كل هذا المخاض الطويل، أيا من ملامح الإصلاح، وخرج دستورا لم يرض عنه معارض ولم يحس به مواطن، وهو الأمر المتوقع في أعقاب “المونولوج” الأحادي الذي خاضه محيط الرئيس مع نفسه.
لكن ما هو خير لهذه الزمرة، هو بالتأكيد ليس كذلك للبلاد والعباد. فالجزائر، التي تعاني الانسداد في شرايينها السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية منذ عقود، والتي كان شعار المجموعات التي تعاقبت على حكمها هو “الهرب إلى الأمام” وسياسة إنكار الأزمة وترحيلها بدل مواجهتها، قادت البلاد إلى وضع “انتظار السكتة القلبية” التي يمكن أن تحدث في أية لحظة. فسياسة الحزب الواحد والرئيس الواحد والاقتصاد المبني على المصدر الواحد، حتى وإن استفادت من بعض الظروف العارضة التي كانت تمنح النظام متسعا من الوقت وهامش مناورة أوسع، من قبيل الطفرة النفطية، والفوضى العربية، والذاكرة الموشومة بالعشرية السوداء، هي سياسة قاتلة، لا يمكنها أن تقود البلاد أو العباد إلى أية وجهة صحيحة. وما تراكم الأزمات إلا عنوانا لهذا الانسداد، والذي يمكن أن يقود إلى انفجار أحد الشرايين في دماغ النظام، وبالتالي التسبب في حالة شلل نصفي أو كلي للبلاد برمتها.
ولعل ما يزيد الوضع ضبابية وخطورة، هو حالة الفراغ السياسي المهول التي تعيشها البلاد، على الرغم من كثرة قطع “الديكور” التي “تؤثث” المشهد “الديمقراطي”. فراغ عنوانه رئيس فاقد للأهلية، ونظام فاقد للشرعية، ومعارضة فاقدة للشعبية، واقتصاد فاقد للتنوع والنجاعة، وهي كلها عناصر “أزمة” إن لم نقل كارثة، يبدو أن البلاد تحتاج لمعجزة من أجل تجنبها. وضع كارثي يزيده تفاقما حالة الصراع الممتدة منذ قرابة العام، والتي لا يخرج أطرافها للحديث مباشرة عنها، ويترك للناس التخبط في محاولة قراءتها وتفسيرها والتنبؤ بتداعياتها. صراع كان من ثمراته الإيجابية إنهاء “مملكة الفريق توفيق المخابراتية” في نقطة حسبت لصالح الجيش الوطني الذي تنبئ الكثير من المؤشرات إلى أن معركته الحقيقية هي مع محيط الرئيس الجزائري، الممثل الباقي للنفوذ الفرنسي بالبلاد بعد تدمير جهاز المخابرات، وتقليم أظافر “جنرالات فرنسا” داخل الجيش، وذلك عكس كل التحليلات التي تشير إلى أن المعركة هي بين المخابرات ومحيط الرئيس، بواسطة “رجل بوتفليقة” داخل الجيش، الفريق أحمد قايد صالح.
إن عدم حسم هذه المعركة، بين الرئاسة والجيش، أو بين المصلحة الوطنية والخارجية، من شأنه أن يعطل التقدم على أية جبهة أخرى، سيان أكان الحديث عن الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. إذ بدون الاتفاق على الأهداف والغايات الكبرى لهذا الإصلاح، وموقع المواطنين فيه، لن يمكن التقدم خطوة واحدة في تفصيل آلياته وبرامجه، وتصبح جميع الإجراءات المتخذة تحت يافطة أي إصلاح مما سبق هي مجرد “ديكور” فاقد للمعنى، ولا يهدف إلا لشراء مزيد من الوقت، وتكرس مزيدا من الهرب إلى الأمام، واحتلال موقع هنا او هناك، وتسجيل نقطة هنا أو هناك بين فريقي الأزمة الحقيقيين: الجيش والرئاسة.
وعليه، فأيا كان عدد الأصوات التي سيحظى بها التعديل الدستوري تحت قبة البرلمان، ومهما علا صوت المعارضة الهامشية وكثر لغطها، ومهما بالغت أبواق النظام من وسائل إعلام الفريق توفيق في تضخيم أهمية الحدث، لن يعدو كونه تفصيلا ضئيلا عديم الأهمية، في سياق معركة “كسر عظم” حقيقية، بدون معرفة الفائز فيها لن يتسنى لأي مراقب للشأن الجزائري أن يتنبأ بمسار الأحداث في هذا البلد المحوري في وطننا العربي. والله ندعو، أن ترجح كفة كل من يضع مصلحة الجزائر وبسطاء الجزائريين فوق كل اعتبار، ومحددا لكل سياسة، بعيدا عن أي شكل من أشكال الوصاية والتبعية الداخلية والخارجية.