منذ استقلالها قبل أزيد من نصف قرن، كانت ولا تزال آليات اختيار الرؤساء في الجزائر محكومة بقواعد “حديدية” يبدو صعبا بالنسبة لمعظم المواطنين تصور تغييرها. ثقافة بدأت بما يمكن اعتباره “وضعا طبيعيا” يقول بشرعية تولي الرئاسة من قبل قادة “المجاهدين” في جيش التحرير، قبل أن يصبح هذا الخيار الشعبي قدرا يفرضه قادة هذا الجيش، حتى بعد مرور عقود على التحرير. وقد كان الجيش بجنرالاته الأقوياء وأجهزته المختلفة، هو الجهة المنوط بها اختيار الأصلح من بينهم (بومدين، بن جديد، كافي، زروال) أو من بين من يختارونه من رجال السياسة (بوضياف وبوتفليقة). ولعل هذا الأمر هو الذي يبرر الهالة التي أحاطت بجنرالات “فرنسا”، نزار وبلخير والتواتي وتوفيق، الذين اعتبروا “صانعي الرؤساء” نظرا لإجبارهم الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة، وتحكمهم بمجيء كل من خلفوه.
للمزيد: الجزائر: هشام عبود يعري فساد جنرالات ووزراء النظام
لكن مع مجيء الرئيس بوتفليقة، تشكل قطب مواز أصبح له الكلمة في عملية اختيار الرئيس، قوامها الرئيس نفسه وعائلته المقربة (أخواه سعيد وناصر) ومن دار في فلكهما من رجال الأعمال أساسا، والأمن والسياسة بدرجة أقل. ولعل هذا الأمر هو الذي يفسر قدرة الرئيس “ومحيطه” على فرضه رئيسا لعهدة ثانية وثالثة ورابعا، غير آبهين بالمخالفة الدستورية التي طوعوا من أجلها هذه الوثيقة السامية، ولا بحقائق العلم والطب التي تقول مجتمعة بعجزه التام عن القيام بالمهام التي يتطلبها منصبه.
وفي الحالتين، وأمام هذين القطبين، بقي الشعب الجزائري في معظمه “متفرجا” على ما يدور من “مباراة نفوذ”، محصيا صعود وهبوط المسؤولين، إهدار المليارات بفعل الفساد المستشري وصفقات السلاح عديمة المعنى، وشراء وبيع الذمم والأحزاب، لتكميل ديكور حكم لا يهتم أصحابه حتى بتجميله ببضع “محسنات ديمقراطية”. ويعود موقف المتفرج هذا أساسا لما تختزنه الذاكرة الجمعية للجزائريين، والتي اختبرت شراسة الأجهزة الأمنية خلال “العشرية السوداء”، وقدرتها على القتل بدم بارد لآلاف المواطنين تحت ذرائع مختلفة، كما أن كل مواطن جزائري يدرك شراهة رجال الأعمال، الذين لم يتورعوا عن سرقة أموال الشعب بالمليارات دون رقيب أو حسيب.
ومع تنحية”رب الجزائر” الفريق المرعب “توفيق” عن عرشه، وتوزيع تركته ما بين جناح السعيد بوتفليقة والفريق أحمد قايد صالح، يحوم في سماء الجزائر الآن أسئلة حائرة لا تجد جوابا: هل هناك حراك ما داخل الجيش بصدد تفكيك منظومة المخابرات القوية ووراثة صلاحياتها من أجل تخليص الجزائريين من هذا الشبح، قبل أن يلتفتوا إلى جناح محيط الرئيس ومن به من لاعبين أساسيين من رموز المال والأعمال، لتقليم أظافرهم وإعادة السلطة للشعب، ليتسنى للناس لأول مرة اختيار من يحكمهم في قصر المرادية، حتى لو بعد فترة انتقالية يرأسهم فيها الفريق القوي أحمد قايد صالح؟؟ أم أن ما جرى هو عمليا إخضاع الجناح المحيط بالرئيس بقيادة أخيه السعيد، لجهاز المخابرات الرهيب، تمهيدا لتجريد مؤسسة الجيش من باقي أنيابها وإرجاع جنرالاتها إلى ثكناتهم فرحين بالعمولات التي تقاضوها من صفقات السلاح المليارية، بما يمهد الطريق أمام شقيق الرئيس للحلول مكانه، شخصيا أو بواسطة دمية يحركها؟؟ أم أن النهاية محكومة بتعادل موازين القوى بين الجناحين، وتوافقهما على حدود جديدة للعب والتأثير، وشخصية يمكن تقديمها للشعب –كما جرت العادة- من أجل مباركة اختيار قيادتهم الحقيقية، عبر استفتاء صوري متعدد المرشحين يسمونه “انتخابات رئاسية”؟
إقرأ أيضا: أهم الحقائق وسط ركام التكهنات المتضاربة حول الصراع الدائر في الجزائر!!
إن السؤال المركزي في كل ما يجري في الجزائر هو حول “موقع الشعب” من سلطة إدارة الشأن العام، وما عداه هو مجرد تفاصيل لا قيمة لها. موقع يتحدد بناء على قدرة المواطنين على محاسبة جميع من يحكمهم ويدير شؤونهم العامة من رئيس البلدية وحتى رئيس الجمهورية؛ قدرتهم على تغيير خيارات الدولة الاقتصادية الريعية المعتمدة على نفط شديد التقلب ومحكوم بالزوال، لصالح اقتصاد يكون المنتجين هم غايته وموجهه؛ قدرتهم على معرفة والتحكم في جميع موارد بلادهم النفطية، والحيلولة دون نهبها من قبل القائمين عليها؛ وقدرتهم على انتخاب رئيس دون أن يعرف أحد هويته قبل فتح آخر صندوق انتخابي. باختصار، قدرتهم على امتلاك مصيرهم، كأقل ثمن يستحقونه نظير التضحيات التي قدموها ويقدمونها منذ الاستقلال “الصوري” عن فرنسا!!