الذين يَبنون الجزائر.. والذين يحكمونها

كم هم الذين سخَّروا حياتهم لأجل المساهمة في بناء الدولة الجزائرية؟ وكم هم الذين ساهموا بحق في بنائها بعقولهم وأموالهم وأنفسهم؟ وفي المقابل كم هم الذين اصطنعوا أنفسهم لأجل أن يكونوا حكاما بها، أو ناهبين لها، أو غير مخلصين لها؟ كم من هؤلاء وهؤلاء، وسنعرف إن كانت بلدنا بخير أو أنها ستكون، وسنعرف إن كان البناء هو أساس الحكم أو العكس.
المعلّم الذي يقوم بواجبه على أحسن وجه، والمرأة التي تجعل من نفسها قوام الأسرة والمجتمع، والفلاح الذي يزرع الحبوب ويغرس البقول ويسقي الأشجار ويربي الدواجن والحيوانات، والحِرفي والمهني الذي يخدمنا بصدق، وصاحب المصنع الذي يسهر على إنتاج السلع التي نحتاج، والتاجر الصادق الذي لا يغش ولا يحتال، والموظف النزيه الذي يُسخِّر مكتبه فقط لتقديم الخدمة العمومية للمواطن، والسياسي الذي لا يبرح يقول كلمة الحق مَنعاً لكل انحراف أو زيف، والضابط والجندي ورجال الأمن الذين يسهرون على حمايتنا جميعا ومستعدون للتضحية بحياتهم وعائلاتهم وأبنائهم من أجل هذا الوطن، هؤلاء هم الذين ينبغي تصنيفهم ضمن بناة الجزائر وينبغي أن نقدّم لهم التحية ونبني تصور مشروعنا المستقبلي على ما يمتلكون من قدرة على البذل والعطاء، وعلى أن يكونوا بحق القاعدة الصلبة التي نقيم عليها صرح دولتنا اليوم وغدا.. وما أكثرهم لو لم يعترض طريقهم أولئك الذين يريدون فقط أن يحكمونا..
لو تَنحّى عن طريقهم مَن همّهم الوحيد بلوغ مناصب المسؤولية بأي ثمن، وغايتهم الأولى البقاء في الكرسي مهما طال الزمن، شعارهم الذي لا يتبدل أن يحكموا ولا يعملوا… لو تنحى هؤلاء عن طريقهم، لبرز بحق رجال ونساء الواجب، رجال ونساء المسار الثقافي والاجتماعي والمهني والسياسي والأمني، الباحثون عن خدمة الآخر بدل أنفسهم، ولانتهى أولئك الذين مافتئوا يضعون لأنفسهم هالات أكبر منهم وكأنهم مواطنون متميزون عن الجميع، يمتلكون صفة مواطنة أعلى من الآخرين، يعتقدون أنهم وحدهم الذين ينبغي أن يكونوا مديرين وسفراء ووزراء ورؤساء… وكأن ذلك كُتب على جبينهم ولم يُكتَب على جبين الآخرين سوى خدمتهم والبقاء رهن إشارتهم…

المزيد: قيادة الأركان.. ومستقبل الجزائر

هؤلاء الذين بكل أسف، بدا لهم وكأنهم تمكنوا من هذا البلد الجميل، واعتقدوا بالفعل أنهم الأفضل والأحقّ بقيادته، هم الذين مافتئوا يمنعون القدرات الهائلة والكبيرة الكامنة في هذه الأمة من أن تتفجر في شكل عطاء حقيقي وبناء غير مزيف، هم الذين عملوا على صناعة صورة غير حقيقية عن الشعب الجزائري، بأنه طمّاع، كسول، سارق، منافق، بلا موقف ولا اتجاه، هم الذين في السر والخفاء يحتقرون هذا الشعب، ويمنّون عليه بالخبز المدعوم وأسعار الوقود المخفضة ويعتبرون إسكانه منّة، وتوفير منصب شغل له امتيازا، واضعين أمنه واستقراره باستمرار على كف عفريت، مهددين إياه متوعدين بالعودة إلى أيام الدم والدموع، والظلم والعدوان إذا ما خولت له نفسه الحديث عن ضرورة التغيير واستعادة زمام المبادرة لحكم نفسه ووضع حد لتبديد ثرواته واستغلالها من قبل أوليغارشية لا تخشى أن تُسمي نفسها كذلك…
لذا فإن بناء دولتنا اليوم وغدا، ووضعها ضمن آفاق المستقبل البعيد، ينبغي أن يدفعنا إلى إعادة تصحيح المعادلة المهيمنة على بلادنا بين مَن يبنون الجزائر ومَن يحكمونها.
“ينبغي أن يحكم الجزائر من يبنيها” هي ذي المعادلة الصحيحة.
أما الذين يوهمون الناس ببنائها، الذين يَقيسون جدوى المشاريع التي يُقتَرح إنجازها بمصالحهم الخاصة ومصالح حاشيتهم، الذين لا تتم صغيرة أو كبيرة إلا إذا كان لهم فيها نصيب، ونصيب كبير، الذين في سرّهم ونجواهم يشعرون بالاستعلاء على الشعب، بالخنوع والدونية أمام أسيادهم بالأمس، الذين يخافون نشر تفاصيل حياتهم ليطّلع عليها الناس، بل حتى أسماء وألقاب آبائهم وأمهاتهم، وما الذي كانوا يفعلونه يوم كان الفلاحون البسطاء في قراهم والعمال المغضوب عليهم من الجزائريين يعيشون ظلم الاحتلال يقاومونه ويتألمون من طغيانه وجبروته… هؤلاء هم الذين ينبغي أن يختفوا إذا أردنا أن ننتقل بحق إلى مصاف الدولة التي تحترم نفسها ويحترمها العالم. الدولة التي بحق يليق بها اسم الجزائر.
لقد أصبح يؤلمنا كثيرا أن تُصبح صورة بلدنا مرادفة لذلك البلد الذي تحكمه “المافيا” بدل الرجال، ذلك البلد الذي قانونه الرشوة والفساد بدل الحق والعدل فوق الجميع، يؤلمنا أن يتم إلى حدود كبيرة تشويه ذلك الشعب الرمز وتلك الثورة العملاقة وذلك التاريخ التليد، يؤلمنا أن أصبحت صورتنا فريدة من نوعها في نظر العالم من حيث التحريف، نتسم بالفوضى والعنف ومشكوك في كل شيء نملك، يؤلمنا أن أصبحنا نكاد نُخفي هويتنا على الآخر حتى لا يتم وضعنا في خانة غير المرغوب فيهم، ويؤلمنا أن من يقع عليهم عبء ومسؤولية تصحيح صورتنا هم أول من يتنكر لها باستظهار جواز سفرهم الثاني وتأكيد أنهم لا يحسنون سوى الحديث بالفرنسية…
كل هذا يؤلمنا، ليس أمامنا سوى العمل لإزالته، عبر وسيلة واحدة تقوم على تلك المعادلة الصحيحة التي لا يوجد غيرها: من يبني الجزائر يحكمها، ومن لم تتوفر فيه صفة من صفات بناة هذا البلد فليس له مكان بيننا.
لنضع كل من نعرف ضمن قالب بناة الجزائر، لنسأل من يكون وكيف يعيش؟ وسيتم فرز من يحق له أن يحكم ومن لا يحق له ذلك، ولنتذكر أننا بعد عقد أو عقدين من الزمن سنضطر حتما إلى الانتقال إلى هذا المبدأ الجديد: “من يبني الجزائر يحكمها”، فقط علينا أن نحترز من أن يحدث لهذا المبدأ ما حدث لمبدأ “من حرّر الجزائر يحكمها”، حيث أن الذين حرروها ما لبثوا أن أُبعدوا عن الحكم، وأحيانا حتى قبل أن يحكموا…
ينبغي ألا يتكرر هذا لبناة الجزائر، اليوم و غدا وعلى كافة المستويات…

*صحفي جزائري/”الشروق”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *